وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0315 - الفطرة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

على الإنسان أن يكون ربانيّاً في غاياته و أهدافه و طموحاته :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ في سورة آل عمران آيةٌ ذات الترتيب التاسع والسبعين يقول الله سبحانه وتعالى في هذه الآية :

﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 هذه الخُطبة حول كلمة ربَّانيين الأمر الإلهي موجهٌ أن يكون الإنسان رَبَّانياً ، والعوام يستخدمون هذا الوزن ، يقال : فلان شَيْطاني ، وفلان رَحْماني ، وفلان شهواني ، وفلان حيواني ، ربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نكون رَبَّانيين ، ماذا تعني هذه الكلمة ؟ أيّ أن تكون منسوباً إلى الرب ؛ في كل غاياتك ، في كل أهدافك ، في كل طموحاتك . .

﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 فلانٌ ربَّاني الوِجْهة ، رباني الهَدَف ، رباني الآمال ؛ أي آماله ، وغاياته ، وأهدافه، وسر وجوده ، وطاقاته ، وإمكاناته ، وذكاؤه ، وخبراته ، ووقته ، وماله ، وعضلاته ، وقوّته ، وخبرته ، وصنعته من أجل ربّه .

﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى يأمرنا بهذا ، والأمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب .

﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 إذاً مِن خصائص المسلم أن غاياته الأخيرة ، وهدفه البعيد هو حُسْنُ الصِلة بالله عز وجل ، وابتغاء رضوانه ، إذاً أن يرضى الله عنك ، وأن تكون وَفْقَ منهجه ، وأن تكون في طاعته ، وأن تكون مع أحبابه ، وأن تكون في بيته ، وأن تتعرَّف إلى كتابه ، هذا هو سِرّ وجودك .

﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾

[ سورة الانشقاق : 6]

 كَدْحُكَ ، جُهْدك ، تعبك ، عرقك ، طاقتك . .

﴿إِنَّكَ كَادِحٌ﴾

 هذا معنى الكدح،

﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ﴾

  إلى تفيد انتهاء الغاية . .

﴿كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة : 7-8]

﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾

[ سورة النجم : 42]

 هو نهاية الآمال ، نهاية الأهداف ، مَحَطُّ الرِحال ، غاية الأهداف .

 

أهداف التشريع :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا وجد في الإسلام أهدافٌ أخرى ، يجب أن تَعْلَم عِلم اليقين أن هذه الأهداف الأخرى في خدمة الهدف الأول ، فكل ما في الإسلام مِن تشريعات ، وتنظيمات ؛ أحكام الطلاق ، أحكام الزواج ، أحكام البيوع ، نظام الأسرة ، نظام الحَرْب ، نظام السِلْم ، كل ما في الإسلام من تشريعاتٍ ، إنما تهدف إلى هدفٍ واحد ، هذا الهدف هو أن تُنَظِّم علاقاتٍ الناس ، وأن تجعلهم يستريحون من عبء الخصومات كي يتفرَّغوا لعبادة رب الأرض والسموات .
 أهداف التشريع ، تنظيم الحياة ، تفريغ الإنسان من متاعب الحياة ، من متاعب الصراع على المتاع الأدنى ، من متاعب الخُصومات ، من متاعب الانشغال النفسي ، من متاعب التوتّر العصبي ، إذا عرفت ما لك وما عليك ، وما هو متَرَتِّبٌ عليك ، وما هو مترتبٌ على غيرك ، إذا عرفت حقوقك وواجباتك ، إذا عرفت أين تنتهي حريتك وأين تبدأ حرية الآخرين فالتشريع الإسلامي بكل موضوعاته وتفصيلاته هدفه الأول أن يفرّغ الإنسان من متاعب الحياة الدنيا ؛ من خصوماتها ، من مشاحناتها ، من صراعاتها .
 وإذا كان في الإسلام جهاد ؛ فمن أجل هدفٍ يُعَدُّ في خدمة الهدف الأول ، لكيلا تكون فتنةٌ ويكون الدين كله لله ، وإذا كان في الإسلام سعيٌ لكسب الرزق ، فمن أجل أن يكون كسب الرزق امتحاناً لك ، ومُظْهِراً لخصائصك ، ومعبراً عن إيمانك ، وأن يكون كسب الرزق كفايةً لأهلك ، وكفايةً لنفسك ، ومادةً للتقرّب إلى ربك ، إذاً :

﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾

[ سورة آل عمران: 79 ]

 الهدف الأكبر من خلق الإنسان أن يكون رَبَّانياً ، أن يكون الله منتهى آماله ، منتهى قَصْدِهِ ، غاية وجوده .

 

التوحيد أبرز ما في الإسلام :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أبرز ما في الإسلام هو التوحيد ، والتوحيد أن تعبد الله وحده ، وأن تستعين به وحده ، وأنت تقرأ في كلِّ ركعةٍ من ركعات الصلاة - هناك أكثر من سبع عشرة ركعةٍ في اليوم- :

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾

[سورة الفاتحة : 5]

 لو قلت : نعبد إياك . لاختلف المعنى ، حينما قدَّمت المفعول به صار المعنى : لا نعبد إلا أنت ، نعبدك وحدك ، في تقديم المفعول به قصرٌ وحصرٌ .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإنسان لم يُخْلَق من أجل أن يأكل ، وأن يشرب ، وأن يتمتع ، فإذا كان كذلك فربنا سبحانه وتعالى يصفه فيقول :

﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد : 12]

 لم يُخْلَق الإنسان من أجل أن يأكل ويشرب ويستَمْتِع ، لذلك قالوا : الأحمق يعيش ليأكل ، بينما الإنسان يأكل ليعيش . هناك سؤال جديد : تأكل لتعيش أيْ تأكل أكلاً معتدلاً ، تمارس الرياضة ، تسعى أن تكون حياتك في صحةٍ جيدة ، تسعى أن تكون في كل حياتك نشيطاً ، ولكن لماذا تعيش ؟ هنا السؤال ، الأحمق يعيش ليأكل ، والإنسان يأكل ليعيش ، ولكن السؤال الكبير : لماذا تعيش أيها الإنسان ؟ المؤمن يعيش ليعرف الله عز وجل ، وليتقرَّب إليه ، وليسعد به في الدنيا والآخرة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

 هذه الطَّاعة الطَوْعية ، الممزوجة بالمحبة القلبية ، التي أساسها معرفةٌ يقينية ، والتي تفضي إلى سعادةٍ أبدية ، هو ما تعنيه العبادة في بعض تعاريفها .
 شيءٌ آخر . . يُثْبِت هذه الفكرة : الأحمق يعيش ليأكل ، والإنسان يأكل ليعيش، والمؤمن يعيش ليعرف الله عز وجل ، هذه فكرةٌ رائعة ولكن ما دليها في القرآن الكريم ؟ ربنا سبحانه وتعالى - دققوا كلام رب العالمين ، كلام خالق الأكوان - يقول في آخر سورة الطلاق :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ﴾

[ سورة الطلاق : 12 ]

 لماذا ؟ لماذا خلق سبع سمواتٍ ؟ ولماذا خلق من الأرض مثلهن ؟ ولماذا يتنزل الأمر بينهن ؟ استمعوا :

﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق : 12 ]

 إذاً المؤمن يعيش ليعرف الله عز وجل . إذا كنت ربانياً ، كما قلنا في مطلع الخطبة : العوام يقولون : فلان شهواني ، فلان حيواني ، فلان رحماني ، فلان ربّاني ، أي أنت منسوبٌ إلى الرَب ، أيْ أنَّ الله سبحانه وتعالى غاية أهدافك ، منتهى آمالك ، حسن الصلة به وطلب مرضاته ، كل حياتك ؛ وقتك ، وعلمك ، وخبرتك ، وعضلاتك ، وكل ما تملكه في سبيل الله عز وجل ، هذه الربَّانية ما آثارها ؟

 

آثار الربانيّة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الربانية لها آثارٌ كُبْرى ؛ في الفرد وفي المجتمع ، في الدنيا وفي الآخرة ، فهناك فرقٌ نوعيٌ كبير بين حياة المؤمن وبين حياة المُعْرِض ، بين حياة التائِه وبين حياة المُهْتَدي ، هذا الفرق الكبير إنما هو يتمثل في أن المؤمن يعرف غايةً لوجوده ، ووجهةً لمسيرته ، ورسالةً لحياته . المؤمن يعرف أن لحياته قيمةً ومعنى ، ويعرف أن لعيشه طعماً ومذاقاً ، ليس كما يظنُّ بعض المفكرين من أن الإنسان ذرةٌ تائهةٌ في الفَضاء ، أو مخلوقٌ سائبٌ يخبط خَبْط عشواء في ليلةٍ ظَلْماء ، الإنسان المؤمن لا يعيش في عَماية ، ولا يمشي إلى غير غاية ، بل يسير على هدىً من ربه ، وعلى بيِّنةٍ من أمره ، واستبانةٍ لمصيره ، لأنه عرف الله عز وجل وأقرّ له بالتوحيد . علماء كباء ، فلاسفة كبار ، أُدباء كبار ، يعلنون صراحةً من خلال كُتُبِهِم ، ومن خلال أدبهم أنهم لا يعرفون لماذا هم مخلوقون ؟ كتاب كبير ، لعالمٍ كبير ، قرأت مقدمته ، يقول في المقدمة : نحن هنا ولكن لا ندري لماذا نحن هنا ؟ شاعرٌ  يقول :

لبستُ ثوبَ العيشِ لم أُسْــتَشَـــــــــر  وحِرْت فيه بين شَتَّى الفـِــــــكَر
وسوف أنفض الثوب عني ولست  أدري لماذا جئت ، أين المقر؟
* * *

 شاعرٌ آخر يقول :

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيــــتُ  ولقد أبصرت قُدَّامي طريقاً فمشـيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟  لست أدري ، ولماذا لســـــــــت أدري
لست أدري ؟
* * *

 هذا كلام التائهين ، هذا كلام البَعيدين ، لكن المؤمن يعرف لماذا هو في الدنيا ؛ له هدفٌ كبير ، له وسائل لهذا الهدف ، فيه وعي ، إدراك ، ما أروع أن يعرف الإنسان مُهمته ، وأن يعرف سرّ وجوده ، وأن يعرف غاية خَلْقِه ، وأن يعرف ربه .

 

ثمرات الربانيّة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع الربَّانية موضوعٌ دقيقٌ جداً ، من ثمرات هذه الربانية أن الإنسان يهتدي بها إلى فطرته ، ماذا قال الله عز وجل ؟ قال :

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾

[ سورة الروم : 30 ]

 ما معنى حنيفاً ؟ حنيفاً حال على وزن فعيل ، فعله حَنَفَ ، معنى حَنَفَ في اللغة أي مال عن الضلالِ إلى الاستقامة ، ومعنى جَنَفَ ، مال عن الاستقامة إلى الضلالة ، حنف وجنف ، كلاهما له معنى مناقضٌ للآخر . .

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾

[ سورة الروم : 30 ]

 تعريف العبادة : طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية .

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾

[ سورة الروم : 30 ]

 لا مكرهاً ، ولا مقهوراً ، ولا مُجبراً ، لا إكراه في الدين . .

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ﴾

[ سورة الروم : 30 ]

 كلامٌ رائع ، ما معنى قوله تعالى :

﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾

[ سورة الروم : 30 ]

 أيْ إذا أقمت وجهك للدين حنيفاً ، فقد حَقَّقت فطرتك ، التي فطر الله الناس عليها، إذا أقمت وجهك للدين حنيفاً ، فقد لبَّيْتَ حاجات الفطرة ، لأن دين الله عز وجل متطابقٌ تطابقاً تاماً مع الفطرة ، بل إن الدين جاءنا ليغطّي كل حاجات الفطرة ، بل إن الفطرة صُمِّمَت لتكون وفق الدين ، إن شئت هذا أو هذا ، الشيء الثابت أن هناك تطابقاً مُذْهِلاً بين الدين وبين الفطرة . إذا كنت ربّانياً عرفت سر وجودك ، وإذا كنت ربانياً اهتديت إلى فطرتك .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أن يهتدي الإنسان إلى فطرته ليس هذا كسباً رخيصاً، ليس هذا شيئاً عابراً ، ليس هذا شيئاً عادياً ، أن يهتدي الإنسان إلى فطرته هو كسبٌ كبير ، وإنجازٌ عظيم أن يعرف الإنسان من هو ؟ أن يعرف بُنْيَتَهُ ، تركيبه ، خصائصه ، ما الذي يسعده ؟ ما الذي يشقيه ؟ ما الذي يطمئنه ؟ ما الذي يقلقه ؟
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا اهتدى الإنسان إلى فطرته عاش في وئامٍ مع نفسه، قد تملك العالم ولا تملك نفسك ، فأنت من أشقى الأشقياء ، هكذا قال بعض كِبار ساسة العالم الذي عاش في الخمسينات ، وكانت دولته لا تغيب عن مستعمراتها أشعة الشمس ، قال : " ملكنا العالم ولما نملك أنفسنا " .
إذا اهتديت إلى فطرتك مَلَكْتَ نفسك ، عرفت خصائصها ، عرفت ما الذي يسعدها ؟ ما الذي يشقيها ؟ إذا كنت ربانياً اصطلحت مع نفسك ، والذي يعذب الإنسان عذاب الضمير ، والذي يعذب الإنسان انحرافه عن فطرته ، إذا عرفت فطرتك اصطلحت مع نفسك، بل إنك إذا عرفت الفطرة اصطلحت مع ناموس الوجود ، اسمع إلى قوله تعالى :

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾

[ سورة الإسراء : 44 ]

 معنى ذلك : أنك إذا عرفت الله وسَبَّحْتَهُ فقد أصبحت نغماً ، مع أنغام الوجود ، أما إذا لم تُسَبِّح الله عز وجل كنت شاذاً ، كنت مُنحرفاً ، كنت خلاف التصميم الإلهي ، خلاف سُنَّة الله في خَلْقِهِ .

 

الترابط الدائم بين معرفة الله وبين استقرار النفس :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ دققوا فيما أقول : في فطرة الإنسان فراغٌ لا يملؤهُ علمٌ ، ولا ثقافةٌ ، ولا فلسفةٌ ، ولا مَذْهَبٌ ، ولا فكرةٌ أرضيّة ، في فطرة الإنسان فراغٌ لا يملؤه إلا الإيمان بالله ، تبقى النفس مضطربة ، تبقى تائهة ، تبقى مُتَأججة ، تبقى مضطربة ، إلى أن تعرف الله عز وجل عندئذٍ تسكن ، تستريح ، تطمئن . .

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[ سورة الرعد :28]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ في الإنسان تَوَتُّرٌ ، وجوعٌ ، وظمأٌ ، النفس لا تستريح من تعبٍ ، ولا ترتوي من ظمأ ، ولا تأمنٍ من خوفٍ ، إلى أن تجد الله عز وجل ، وأن تؤمن به، وأن تتوجه إليه ، عندئذٍ تُحِسُّ بالهداية بعد الحَيْرَة ، وبالاستقرار بعد التَخَبُّط ، وبالاطمئنان بعد القَلَق ، فإذا لم يجد الإنسان هذه الفطرة ، ولم يملأ ما فيها من ثغرات ، عاش قلقاً شقياً على هامش الحياة . .

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه : 123]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ قال الله عز وجل :

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾

[ سورة الحشر : 19 ]

 ما العلاقة بين نسيان الله وبين نسيان نفسه ؟ أيْ إذا ما عرفت الله عز وجل بقيت الفطرة مختلّة ، إذا ما عرفت الله عز وجل بقيت في قلقٍ شديد ، في حَيْرَةٍ ، في ضياع ، إذا نسيت الله نسيت نفسك ، هناك ترابطٌ ، ترابطٌ دائم بين معرفة الله وبين استقرار النفس ، بين معرفة الله وبين سعادة النفس ، بين معرفة الله وبين طمأنينة النفس .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قال بعض العلماء متحدثاً عن الفطرة ولكنه لم يسمِّها باسمها ، قال : " في قلب الإنسان شعثٌ لا يلمّه إلا الإقبال على الله ، وفي الإنسان وحشةٌ لا يزيلها إلا الأُنس بالله ، وفي الإنسان حزنٌ لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله عز وجل ، وصدق الإقبال عليه ، وفي الإنسان قَلَقٌ لا يُسْكِنُه إلا الاجتماع على الله والفِرار إليه ، وفي الإنسان نيرانُ حسرةٍ لا يطفئها إلا أن ترضى بأمره ونَهْيه ، وأن ترضى بقضائه وقدره ، وأن تعانق ما أنت فيه بالصبر حتى الموت ، أن ترضى بقضاء الله وقدره ، أن ترضى بأمره ونهيه ، أمرك أن تغض البصر ، يجب أن ترضى بهذا الأمر ، وأن تنفذه ، إذا رضيت بأمره ونهيه وقضائه وقدره أطفأت نيران الحسرة التي تأكل قلوب المعرضين ـ في الإنسان فاقةٌ لا يشدها إلا محبة الله عز وجل ، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص عليه " .

 

معالجة الله عز وجل لمن طمست فطرته :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إذا كان عصر الشُبُهات ، وعصر الفِتَن ، وعصر الشهوات ، حينما ينحدر الإنسان إلى وحل الشهوة ، قد يتراكم على هذه الفطرة صدأُ الشبهات ، وقد يغطّيها غبار الشهوات ، وقد تنْحَرف ، وقد تتدنَّس باتباع الظَن ، أو باتباع الهوى ، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء ، أو الطاعة العمياء للسادة والكُبَراء ، وقد يصاب الإنسان بالغرور والعجب ، فيظنُّ نفسه شيئاً يقوم وحده من دون الله ، حينما تَنْطَمِسُ هذه الفطرة ما الذي يحصل؟ تأتي رحمة الله عز وجل لتعالج هذا الإنسان ، لتضيِّق عليه ، تأتي الشدائد ، لأن الفطرة لا تموت ولكنها تَذْبُل ، لا تزول ولكنها تَكْمُن ، عند الشدائد تزول عنها غبار الشهوات ، وعند الشدائد يزال صدأ الشُبهات ، وعندئذٍ تعرف ربَّها وترجع إليه ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾

[ سورة الإسراء : 67]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ موضوعٌ دقيق : أن تكون ربانياً ، وإذا كنت ربانياً عرفت سرَّ وجودك ، وإذا كنت ربانياً اهتديت إلى فطرتك ، فسعدت وأسعدت .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مـن أتبع نفسه هواها ، وتمنَّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أضرار التدخين :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ نظراً لشيوع التدخين في أوساط الشباب ، أردت في هذه الخطبة الثانية ، وفي خطبٍ أُخرى إن شاء الله تعالى ، أن أشير إلى أحدث الدراسات العلميّة المتعلِّقة بأضرار التدخين .
 أوردت مجلّة صدرت في عام ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةٍ وسبعين تقريراً دقيقاً عن أنَّ معامل الدخان تصنع لكلِّ إنسانٍ في العالم دخينتين في اليوم الواحد . أي إذا كان البشر يعدّون ستة آلاف مليون ، فإن هذه المعامل تصنع في اليوم الواحد لكلِّ إنسان دخينتين أي سيجارتين . أصدرت الكلية الملكية للأطباء في بريطانيا دراسةً إحصائية تقول : إن كمية المادة السّامة في الدخان - واسمها النيكوتين - الموجودة في دخينة واحدة ، إذا أُعطيت للإنسان في وريده تقتله فوراً ، ما في الدخينة الواحدة من مادةٍ سامة لو أعطيت في وريده تقتله فوراً . وما في دخينتين من مادةٍ سامة لو أعطيت إلى الإنسان عن طريق فمه ، تقتله فوراً ، فهذا الذي يدخِّن ، يتجرَّع السمَّ وهو لا يدري .
 منظمة الصحة العالمية في تقريرٍ خطيرٍ جداً صدر في عام ألف وتسعمئةٍ وخمسةٍ وسبعين قالت : عدد الذين يلاقون حتفهم ، أو يعيشون حياةً تعيسة يفوق عدد الذين يلاقون حتفهم بالطاعون ، والكوليرا ، والجدري ، والسل ، والجذام ، والتيفوس ، هذه الأمراض الفتَّاكة ، الوبائية ، مجتمعة لا تحدث من الوفيات ، أو من الحياة التعيسة في العالم ، بقدر ما يحدثه التدخين .
 شيءٌ آخر . . إنَّ الضرائب الباهظة التي تأخذها الحكومات التي فيها مصانع الدخان ، إن كل هذه الضرائب لا تعدل النفقات الباهظة التي تدفعها لمعالجة أمراض التدخين . بلدٌ واحدٌ متقدِّم بالمقياس الحديث يفقد خمسين مليون دولار سنوياً ، بسبب أمراض التدخين . كل ثلاثة مدخنين يلاقي واحدٌ حتفه بسبب التدخين . هذه إحصاءات .

تحميل النص

إخفاء الصور