- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير .
الأخذ بالأسباب و التوكل على الله :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا زلنا في موضوع الهجرة ، وقد تحدثت في الأسبوع الماضي كما تعلمون عن حقيقةٍ كبرى تستنبط من الهجرة ، وهي أن المؤمن يأخذ بكل الأسباب، ومع أخذه بكل الأسباب وكأنها كل شيء ، يتوكل على رب الأرباب ، وكأنها ليست بشيء ، هذه حقيقة ، ما من حقيقة المسلمون في أشدّ الحاجة إليها منهم إلى هذه الحقيقة ، لأن هذه الحقيقة سبب تقدمهم ، وهذه الحقيقة سبب تفوقهم ، وهذه الحقيقة سبب تماسكهم .
أيها الأخوة المؤمنون ؛ لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ بكل الأسباب واعتمد عليها ، ثم وصل المطاردون إلى غار ثور ، ما كان عليه الصلاة والسلام يتحمل وطأة هذا الوصول ، ولكنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه معتمد على الله عز وجل ، واثق به ، متطلع إلى نصره ، وقد أطاعه بأن أخذ بكل الأسباب ، عندئذٍ كان وصول المطاردين برداً وسلاماً عليه.
أيها الأخوة الكرم ؛ لما بلغ الكفار غار ثور قال أحدهم بل قال من يقتفي الأثر : والله ما جاوز صاحبكم هذا الغار ، ولم يكن هؤلاء مخطئين ، فقد كان محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه داخل الغار ، وكانت قريش تقف فوق رأسيهما ، حتى إن الصديق رضي الله عنه رأى أقدام القوم تتحرك فوق الغار فدمعت عيناه ، فنظر إليه الرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظرة حب ورفق وعتاب ، فقال الصديق : يا رسول الله والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك مكروهاً يا رسول الله ؟ أبعد هذا الحب من حب ؟ أبعد هذا الوفاء من وفاء ؟ أبعد هذا القرب من قرب ؟ فقال له عليه الصلاة والسلام مطمئناً : لا تحزن يا أبا بكر إن الله معنا ، وكلمة إن الله معنا كلمة كبيرة جداً ، فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ لا تخشى إلا أن يتخلى الله عنك ، فإذا تخلى الله عنك الكل يعملون لما يؤذيك ، وإذا كان الله معك سخر الله لك أعداءك فكانوا في خدمتك ، قال : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معك .
معية الله نوعان معية عامة و معية خاصة :
أيها الأخوة الكرام ؛ قال المفسرون : معية الله نوعان معية عامة لقوله تعالى :
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾
معية العلم ، ومعية خاصة وهي للمؤمنين معية الحفظ ، والتوفيق ، والنصر ، والتأييد ، فأنزل الله السكينة على قلب الصديق ، وراح ينظر إلى أقدام القوم ، ثم قال : يا رسول الله لو أن أحداً نظر إلى موطئ قدمه لرآنا ، فطمأنه النبي عليه الصلاة والسلام مرة ثانية ، قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ وفي رواية أن سيدنا الصديق قال : يا رسول الله لقد رأونا، فطمأنه النبي مرة ثالثة ، قال : يا أبا بكر ألم تقرأ قوله تعالى :
﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
الدروس المستفادة من الهجرة الشريفة :
ماذا نستفيد من هذا الدرس ؟ نستفيد من هذا الدرس : إذا كنت معتصماً بالله ، مقيماً على أمره ، تبتغي رضوانه ، لا تخف لأن الله معك ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله ، إذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .
أيها الأخوة الكرام ؛ أبو جهل قال : واللات والعزة إني لأحسبه قريباً منا يسمع ما نقول ، ويرى ما نصنع ، ولكن سحره ران على أبصارنا ، إذا أراد الله أن ينصرك ، ينصرك بأضعف خلقه ، بالعنكبوت ، بأضعف خلقه ، وقد قال علماء السيرة : إن الله جل جلاله نصر أكرم خلقه عليه بأضعف خلقه ، نصر النبي عليه الصلاة والسلام بنسيج العنكبوت .
أيها الأخوة الكرام ؛ حينما أيقنت قريش أن النبي قد غادر مكة ، ولم تستطع أن تصل إليه ، وضعت مئة ناقة لمن يأتي به حياً كان أو ميتاً . سراقة بن مالك كان في ندوة من أندية قومه في مكان قريب من مكة ، فإذا برسول من رسل قريش يدخل عليهم ، ويذيع فيهم نبأ الجائزة التي بذلتها قريش لمن يأتي بمحمد حياً أو ميتاً ، وما كاد سراقة يسمع بالنوق المئة حتى اشرأبت أطماعه ، واشتد عليها حرصه ، ولكنه ضبط نفسه فلم يتفوه بكلمة واحدة ، حتى لا تتحرك أطماع الآخرين ، وقبل أن ينهض سراقة من مجلسه دخل على الندوة رجل يقول : والله مرّ بي الآن ثلاثة رجال ، وإني لأظنهم محمداً وأبا بكر ودليلهما ، فقال سراقة : بل هم بنو فلان مضوا يبحثون عن ناقة لهم أضلوها ، فقال الرجل : لعلهم كذلك ، ثم مكث سراقة قليلاً ، حتى لا يثير قيامه أحداً ممن في الندوة ، فلما دخل القوم في حديث آخر ، انسل من بينهم ، ومضى خفيفاً مسرعاً إلى بيته ، وأسرّ لجاريته بأن تخرج له فرسه في غفلة من أعين الناس ، وأن تربطه في بطن الوادي ، وأمر غلامه أن يعد له سلاحه ، وأن يخرج به من خلف البيوت حتى لا يراه أحد ، من أجل أن يستأثر بالجائزة ، وقد ترون بعد قليل كيف أن سراقة حينما توفي النبي كان يتمنى أن نوق الدنيا يأخذها ولا تذهب قصاصة ظفر لمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لبس سراقة درعه ، وتقلد سلاحه ، وامتطى صهوته ، وطفق يغدو السير ليدرك محمداً ، كان سراقة فارساً من فرسان قومه ، طويل القامة ، عظيم الهامة ، بصيراً باقتفاء الأثر ، صبوراً على أهوال الطريق ، وكان إلى ذلك أريباً لبيباً شاعراً ، وكان فرسه من عتاق الخيل .
أيا الأخوة ؛ ذكرت هذه القصة وأذكرها بالتفصيل لأن فيها دلالات كبيرة نستفيد منها جميعاً .
أيها الأخوة الكرام ؛ مضى سراقة يطوي الأرض لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط من عن صهوتها فتشاءم ، وقال : ما هذا تباً لك من فرس ؟ وعلا ظهرها ثانية ، ولم يمضِ بعيداً حتى عثرت به مرةً أخرى ، هذه إشارة من الله عز وجل ، الإنسان أحياناً يسلك طريقاً لا يرضي الله ، فربنا سبحانه وتعالى لرحمته ، وحكمته ، يثير له مشكلات في بداية الطريق فلعله يفهم على الله عز وجل ، لم يبتعد سراقة كثيراً عن مكان عثور فرسه حتى أبصر محمداً وصاحبيه ، فمد يده إلى قوسه ولكن جمدت في مكانها ، ذلك لأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض ، والغبار يتصاعد من بين يديها ، ويغطي عينيه وعينيها ، فدفع الفرس فإذ هي قد رسخت في الأرض كأنما سمرت بمسامير من حديد ، هذا معنى إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
وإذا العناية لاحظتك جفونها نم فالمخاوف كلهن أمان
***
أيها الأخوة ؛ التفت سراقة إلى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه ، وقال بصوت ضارع : يا هذان ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي ، ولكم عليّ أن أكف عنكما ، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام فأطلق الله قوائم فرسه ، لكن أطماعه ما لبثت أن تحركت من جديد ، مئة ناقة ثروة كبيرة جداً فدفع فرسه نحوهما ، فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل فاستغاث بهما وقال : إليكما زادي ، ومتاعي ، وسلاحي فخذاه ولكن عليّ عهد الله أن أرد عنكما من ورائي من الناس ، فقالا : لا حاجة لنا بزادك ومتاعك ولكن ردّ عنا الناس ، ثم دعا له النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلقت فرسه فلما همّ بالعودة ناداهم ، تريثوا أكلمكم فوالله لا يأتيكم مني شيئاً تكرهونه ، فقالا له : ما تبتغي منا ؟ قال سراقة : والله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينك - هذه هي الفطرة - ويعلو أمرك ، فعاهدني إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني ، واكتب لي بذلك ، هناك استدلال أيها الأخوة قوي جداً بعد قليل أذكره لكم ، أمر النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصديق فكتب له على لوح من عظم ودفعه إليه ، ولما همّ بالانصراف قال له النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النبي ملاحق ، النبي عليه الصلاة والسلام مهدور دمه ، النبي عليه الصلاة والسلام وضعت لمن يأتي به حياً أو ميتاً جائزة مقداراها مئة ناقة ، ويقول عليه الصلاة والسلام وهو في أضعف حالاته ، وفي أشد أوقاته - كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ ما معنى هذا الكلام ؟ ماذا يعني هذا القول ؟ إنسان ملاحق ، مهدور دمه ، مئة ناقة وضعت لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، ويقول لمن تبعه : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ ماذا يعني بذلك ؟ يعني بذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام واثق كل الثقة أنه سيصل إلى المدينة سالماً ، وأنه سيؤسس كياناً إسلامياً ، وأن هذا الكيان سيحارب أكبر دولتين في العالم كسرى والروم ، وأن كسرى سيستسلم ، وأن تاجه وثيابه وسواريه سيؤتى بها إلى المدينة من غنائم الحرب ، ما هذا ؟ أيعقل أن يكون هذا ؟ قال : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ الآن بلد متخلف جداً من بلدان العالم الثالث نقول لأحد المواطنين فيه : كيف بك إذا أقمت في البيت الأبيض ؟ هذه هي النسبة نفسها ، كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى بن هرمز ؟ عاد سراقة أدراجه فوجد الناس قد أقبلوا يبحثون عن رسول الله فقال : ارجعوا لقد نفضت الأرض نفضاً بحثاً عنه وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر ، ارجعوا ، فرجعوا ، ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة ، وأصبحا في مأمن من عدوان قريش ، وهذا هو الوفاء ، عند ذلك أذاع النبأ ، فلما سمع به أبو جهل لامه على تخاذله ، وجبنه ، وتفويته الفرصة ، وكان شاعراً ، فأجابه ببيتين من الشعر .
أبا حكمٍ و الله لو كنت شاهداً لأمر جــــــــوادي إذ تسيخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً رسول ببرهانٍ فمن ذا يقاومــــه
***
وأقول مرةً ثالثة ورابعة : إذا كان الله معك فمن عليك ؟ احرص على أن يكون الله معك ، احرص على أن يكون الله معك بطاعته ، سيدنا عمر قال لسيدنا سعد بن أبي وقاص : يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينهم وبينه قرابة إلا طاعتهم له ، بطاعتك تستحق أن يكون الله معك ، وبعدم طاعتك يتخلى الله عنك .
أيها الأخوة الكرام ؛ ودارت الأيام دورتها ، وإذا بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي خرج من مكة طريداً ، شريداً ، مستتراً بجنح الظلام ، مهدوراً دمه ، يعود إليها سيداً فاتحاً تحف به الألوف المؤلفة ، من بيض السيوف وسمر الرماح ، دققوا في قول الله عز وجل :
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾
وقال تعالى في آيات كثيرة :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
البطولة لمن يضحك آخراً لا أولاً ، وإذا بزعماء قريش الذين ملؤوا الأرض عنجهيةً وغطرسةً يقبلون على النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خائفين واجفين ، يسألونه الرأفة والرحمة ، ماذا عساك تصنع بنا ؟ فيقول عليه الصلاة والسلام في سماحة الأنبياء : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، هذا ما دعا أبو سفيان أن يقول : والله ما أعقلك ! وما أرحمك ! وما أوصلك ! وما أحكمك ! عندئذٍ سراقة معه عهد من النبي على عظم ، أن يكرمه إذا أتاه في ملكه ، أتى النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ودخل كتيبة الأنصار ، فجعل أصحابه يقرعونه بكعوب الرماح ، ويقولون : إليك إليك ماذا تريد ؟ يقول سراقة : فماذا زلت أشقّ صفوفهم حتى غدوت قريباً من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو على ناقته ، فرفعت يدي بالكتاب وقلت : يا رسول الله أنا سراقة بن مالك ، وهذا كتابك إلي ، فقال عليه الصلاة والسلام : ادن مني يا سراقة ، هذا يوم بر ووفاء ، فأقبلت عليه ، وأعلنت إسلامي بين يديه ، ونلت من خيره وبره ، ولم يمضِ على هذا اللقاء بضعة أشهر ، حتى اختار الله نبيه إلى جواره ، هنا حزن سراقة على موت النبي أشدّ الحزن ، وجعل يذكر ذلك اليوم الذي همّ بقتله من أجل مئة ناقة ، وكيف أن نوق الدنيا كلها قد أصبحت اليوم لا تساوي عند سراقة قلامة من ظفر النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا هو الحب ، وهذا هو الإيمان، وجعل يردد قول النبي : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ ولكن إيمان سراقة القوي بمصداقية قول النبي جعله لا يشك بهذا القول الذي يبدو أبعد من الخيال .
مرةً ثانية : إنسان من دولة من العالم الثالث يقال له : كيف بك إذا قبعت في البيت الأبيض ؟ المسافة نفسها .
ودارت الأيام دورتها مرة ثانية ، وآل الأمر إلى سيدنا الفاروق ، وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك بغزو مملكة فارس ، فطفقت تدق الحصون ، وتهزم الجيوش ، وتغزو العروش ، وتحرز الغنائم حتى أزال الله على يديها دولة الأكاسرة .
﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾
كنت أدعو وأقول : اللهم ارزقنا أن ننتصر على أنفسنا ، حتى نستحق أن تنصرنا على عدونا .
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
أيها الأخوة الكرام ؛ ذات يوم من أواخر أيام عمر رضي الله عنه قدم المدينة رسل سعد بن أبي وقاص يبشرون خليفة المسلمين في الفتح ، ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس الفيء الذي غنمه الغزاة في سبيل الله ، فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر نظر إليها في دهشة، فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر ، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ، ووشاحه المنظوم بالجوهر ، وسواراه اللذان لم تر العين مثلهما قط ، وما لا حصر من النفائس والطنافس والتحف، فجعل عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيب كان بيده ثم التفت إلى من كان حوله وقال : إن قوماً أدوا هذا لأمناء ، وكان علي كرم الله وجهه إلى جانبه فقال : يا أمير المؤمنين قد عففت فعفت رعيتك ، ولو رتعت لرتعوا .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وعد الله :
أيها الأخوة الكرام ؛ سيدنا عمر يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لسراقة : يا سراقة كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟ لذلك استدعى سراقة ، وألبسه أمام المسلمين قميص كسرى ، وسراويله ، وقباءه ، وخفيه ، وقلده سيفه ، ووضع على رأسه تاجه ، وألبسه سواريه ، نعم سواريه ، عند ذلك هتف المسلمون : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثم التفت عمر إلى سراقة وقال : بخ بخ - كلمتان تقالان عند التعجب - بخ بخ أعيرابي - تصغير أعرابي - أعيرابي من بني مدلج على رأسه تاج كسرى وفي يديه سواراه ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : " اللهم إنك منعت هذا المال رسولك ، وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك ، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني ، وأكرم عليك ، وأعطيتنيه ، فأعوذ بك أن تكون قد أعطيتني إياه لتمكر بي " ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين المسلمين .
أيها الأخوة : سأختم خطبتي بآيتين الأولى :
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾
شرط طاعة الله عز وجل . والآية الثانية :
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
ولقد لقي بعض المسلمين هذا الغي .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .