وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0481 - الحسد2 - طرق الوقاية من الحسد.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيق ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله , واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً , وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه , واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تمهيد :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ تحدثت في الأسبوع الماضي عن موضوع الحسد ، وبينت لكم أنه داء دسيم ، وهو سبب للكوارث , والتمزقات , والانقسامات , والعداوات , التي أنهكت البشرية ، وبينت لكم أيضاً أن هذا الحسد في أصله ، أن الله سبحانه وتعالى خلق النفس البشرية بخاصة تدفعها إلى مكارم الأخلاق ، حينما تستخدم هذه الخاصة وهي الغيرة ، في غير ما خلقت له يكون الحسد , كيف أن هذا المحرك يوضع في المركبة من أجل أن يحركها إلى أهدافك النبيلة ، لكنه إذا أسيء استعماله أودى بصاحبه إلى وادٍ سحيق ماله من قرار .
أيها الإخوة الكرام ؛ تحدثت في الأسبوع الماضي عن أن الحسد أنواع كثيرة ، وأن من بين هذه الأنواع الكثيرة ، نوعاً واحداً مشروعاً ، وهو حسد الغبطة ، إذ أن الإنسان إذا رأى على أخيه نعمةً حقيقةً تتصل بالآخرة ، وتمنى أن تكون له من دون أن تنزع عن أخيه , فهذا حسد مأذون به شرعاً وقد سماه العلماء غبطةً .
والنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى هذا المعنى في أحاديث صحيحة .
عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سمعتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :

(( لا حَسَدَ إلا على اثْنَتيْنِ : رجلٌ أعْطاهُ اللَّهُ مالا ، فَهوَ يُنْفِقِهُ آنَاءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]

(( ورَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ ، فهو يَقضِي بها ويُعَلِّمُها ))

[ أخرجه البخاري ومسلم]

أيها الإخوة الكرام ؛ لابد من أن أنوه إلى حقيقة دقيقة وهي أن الحسد ليس مرضاً في ذاته بل هو عرض لمجوعة من الأمراض النفسية ، ولا أزال أقول وأؤكد أن الأمراض الجسدية مهما عظمة ، ومهما كانت عضالةً ، ومهما كانت قاتلة تنتهي عند الموت ، إلا أن الأمراض النفسية يبدأ مفعولها الخطير بعد الموت ، وشتان بين مرض ينتهي عند الموت , وبين مرض يبدأ عند الموت قال تعالى :

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 88-89 ]

الحسد وأنواعه :

أيها الإخوة الكرام ؛ الآن ننتقل إلى ثلاثة أنواع من الحسد الخبيث القبيح ، الذي يدمر النفس البشرية ويدمر المجتمع ، ويدمر وحدة الأمة ، ويدمر وحدة الفئة الواحدة .
- الحسد المشروع أن تحسد أخاك على نعمة حقيقة تتصل بالآخرة ويمكن أن تكتسبها ، هذه غبطة ، وهذه مغطاة بقوله تعالى :

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾

[ سورة المطففين ]

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾

[ سورة الصافات ]

- أما الحسد الخبيث القبيح الوبيل الآثم هو أن تتمنى نعمة على أخيك تتمنى أن تصل إليك ، وأن تزول عن أخيك ، هنا وجه الخبث ، والخطورة تتمنى أن تصل إليك ، أو أن تتحول إليك وأن تزول عن أخيك .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا الحسد هو عرض لمرض اسمه الطمع ، الطمع دق رقاب الرجال ، الطمع أودى إلى الحسد ، لذلك مثل هذا الحاسد شاء أم أبى صرح أو لم يصرح ، معترض على حكمة الله ، معترض على تصرفاته يشك في حكمته البالغة ، وفي عدالته المطلقة ، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله .

قل لمن بات لي حاسـداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله إذا لم ترض لي ما وهــب

فالذي يعاني من مرض نفسي اسمه الطمع ، من أعراض هذا المرض الحسد ، والحسد بشكل أو بآخر اعتراض على حكمة الله في تصرفاته ، وعلى عدالته وعلى رحمته ، وعلى أسماءه الحسنى .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا الحسد أن تتمنى أن تتحول النعمة التي على أخيك إليك ، مبعث هذه الظاهرة الخبيثة هو الطمع ، وقد يكون مبعث هذه الظاهرة الخبيثة الكراهية والحقد ، لو أحببت أخيك لما تمنيت أن تزول عنه النعمة .
إذاً :
إما أن هذا الإنسان ينطلق من طمع جشع ، وإما أن ينطلق من حسد وحقد على أخيه الذي يحسده ، ومع ذلك يبقى هذا النوع من الحسد نوعاً خبيثاً قبيحاً آثماً .
لكن هناك حسداً أشد منه ...
- الحسد الذي أشد من هذا الحسد ، أن تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك ، ليس شرطاً أن تصل إليك ، يكفي أن تزول هذه النعمة عن أخيك عندئذٍ ترتاح لهذا ، هل هناك من نفس مريضة ، يعني أقبح من هذا المرض .
أيها الإخوة الكرام ؛ هذا يؤكد الكبر ، إذا كنت أنت في نعمة ، وعلى أخيك نعمة تشبهها تتمنى أن تزول عن أخيك النعمة دون أن تصل إليك لأن عندك مثل هذه النعمة ، إذاً ليس القصد هنا أن تصل هذه النعمة إليك أنت تتنعم بهذه النعمة , ولكن تحب أن تنفرد بين الناس ، ألا ينازعك بهذه النعمة أحد ، ألا يكون لك مثيل ، هذا هو الكبر بعينه .

أيها الإخوة الكرام ؛ أو أن الحقد الدفين والمرض الخبيث في النفس الإنسانية الذي يتمثل بالكراهية التي لا حدود لها تجاه إنسان ، أو صديق ، أو أخ عندئذٍ لا تتمنى إلا أن تزول عنه النعمة ، وعندئذٍ ترتاح النفس ، ويطمئن القلب هذا نوع أخبث من الأول ، هذا النوع ينطلق من حقد وكراهية ، أما إذا أردت أن تتحول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك فقد يكون وراء هذه الظاهرة الخبيثة شح مدمر ، كما قلت قبل قليل إن الحسد هو في حقيقته أعراض لأمراض ، أما الشيء الذي لا يصدق ، وهو أخبث أنواع الحسد وأشرها .
- النوع الأول تتمنى ، لكنه مشروع ، تتمنى نعمة على أخيك تتمنى أن تكون عليك أيضاً من دون أن تزول عنه ، والنعمة حقيقية متصلة بالآخرة هناك سبيل إلى اكتسابها ، هذا حسد الغبطة ، تمنيات .
- النوع الثاني القبيح الوبيل هو أن تتمنى أن تتحول النعمة عن أخيك وأن تصل إليك ، وهذا على مستوى التمنيات ، هذا حسد قبيح قذر .

- أما الحسد الثالث أن تتمنى أيضاً أن تزول النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك انطلاقاً من الكراهية والشح ، والكبر .
- لكن النوع الرابع , ونعوذ بالله من هذا المستوى يتجاوز مستوى التمنيات إلى الحركة ، تريد أن تعرقل عمل أخيك ، تخبر من بإمكانهم أن يؤذونه بمخالفة عنده ، تتحرك وفق عمل من أجل أن تدمر أخيك ، هذا هو الحسد الذي يعد من أشر أنواع الحسد ، ومن أقبح أنواع الحسد ، ومن أخبث أنواع الحسد ، يتجاوز التمني إلى الفعل ، وينطلق هذا أيضاً من كبر ، أو كراهية ، أو شح ويضاف إلى هذه الدوافع الثلاث ، دافع رابع وهو العدوان ، النفس العدوانية تتمنى أن تحطم الآخرين ، أن تعرقل عملهم ، أن تحبط مسعاهم ، أن تزيل عنهم ما هم فيه من نعم .

العين وعلاقتها بالحسد :

أيها الإخوة الكرام ؛ الموضوع دقيق جداً لأن هذه الظاهرة ، ظاهرة الحسد متفشية في كل المجتمعات ، ولاسيما المجتمعات البعيدة عن الله عز وجل .
هذا الحاسد قد يكون له قوة تأثيرية كبيرة سماها النبي عليه الصلاة والسلام العين ، فقد روى البخاري في الحديث الصحيح .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :

(( العين حق ))

ومن دعاءه الشريف كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول :
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( أَعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطانٍ وهامَّةٍ ، ومن كل عَيْنٍ لامَّةٍ ))

[ أخرجه البخاري ، والترمذي ]

أول مرحــــلة : الحسد المشروع .
ثاني مرحـــلة : التمني أن تزول النعمة عن أخيك وأن تتحول إليك
ثالث مرحـــلة : أن تزول عن أخيك من دون أن تتحول إليك .
رابع مرحـــلة : تتحرك نحو إيقاع الأذى بأخيك .
خامس مرحــلة : تريد أن تدمر أخاك تدميراً كلياً .
هذه العين اللامة الذي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام .
ولكن أيها الإخوة ؛ توضيحاً للحقيقة تأثير العين اللامة التي ورد ذكرها في الحديث الصحيح له شرطان ، له شرط في الحاسد ، وشرط في المحسود الشرط في الحاسد أن يكون بعيداً عن الله ، متلبساً بالشيطان ، والشرط في المحسود أن يكون غافلاً عن الله ، مظهراً لزينته .

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾

[ سورة القصص الآية : 79 ]

﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 67 ]

كثرت الظهور تقسم الظهور ، فالإنسان حينما يتمنى أن يعرض ما عنده من نعم على مرأى من الناس ، هو بشكل أو بآخر يدعوهم إلى أن يحسدوه الحسد المدمر .
أيها الإخوة الكرام .
روى الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلت أخذ بهما ، وترك ما سواهما ))

ماذا ورد في سورة الفلق .

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ * ﴾

[ سورة الفلق ]

فالحاسدون بتمنياتهم ، وبأيديهم ، وبمكائدهم ، وبعينهم التي تصيب النبي عليه الصلاة والسلام حينما كان يتلو سورة الفلق يتعوذ من شر حاسد إذا حسد ، ولم ينجو النبي عليه الصلاة والسلام وهو قمة الكمال البشري , وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، لم ينجو من حسد الحاسدين قال تعالى :

﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾

[ سورة القلم الآية : 51 ]

معنى :

﴿ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ﴾

أي ليصبنك بأعينهم ، فيزلونك عن مقامك الذي جعله الله لك ، كما يزلق , وتزل قدم من كان في مكان ناعم أملس فيسقط ، وقد ورد في الأثر أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام سأل ربه في المناجاة قال : يا رب لا تبقي لي عدواً ، قال يا موسى هذه ليست لي ، هذه من طبيعة الحياة الدنيا .

المؤمنين والحسد :

أيها الإخوة الكرام ؛ هنا أنواع الحسد الخطيرة ، الوبيلة ، الآثمة ، المدمرة ، تعالوا إلى عالم المؤمنين .
روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل قال عليه الصلاة والسلام , ودققوا في هذا الحديث :

(( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد ))

[ أخرجه مسلم وأبو داود ]

وقد روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال :

(( إياكم والحسد ، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ))

[ أخرجه أبو داود ]

إن كان لك حسنات يأكلها الحسد .
وروى الإمام البخاري في صحيحه عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال :

(( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ))

الحسد وأسبابه :

أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد كما قلت قبل قليل عرض خطير لأمراض وبيلة .
من هذه الأمراض الكبر .
من هذه الأمراض كراهية الخلق .
من هذه الأمراض الحقد الدفين .
من هذه الأمراض الشح المميت .
من هذه الأمراض النزعة العدوانية .
هذه أسباب الحسد ، إذاً : هو عرض لهذه الأمراض ، لكن الحسد في الوقت نفسه يعد سبباً ، هو عرض وسبب في وقت واحد ، يعد سبباً لآثام خطيرة ، فالغيبة من الحسد ، والنميمة من الحسد ، والبغي من الحسد , والعدوان من الحسد ، والظلم من الحسد ، والاتهام الباطل من الحسد , وافتراء الكذب من الحسد ، والجور في الحكم من الحسد ، والسرقة أحياناً من الحسد ، والغش من الحسد ، وقد ينتهي الحسد إلى القتل .
أيها الإخوة الكرام ؛ لا أبالغ إذا قلت إن هذا الداء الدفين الذي دب في الأمم هو وراء الحروب ، وراء المنازعات ، وراء الكوارث ، وراء الانقسامات ، وراء شقاء البشرية ، وراء الحروب المدمرة التي تركت مئات الملايين قتلى , ومفقودين ، ومصابين .
أيها الإخوة الكرام ؛ القاعدة تقول أن كل ذي نعمة محسود .
فنعمة العقل والعلم لها من يحسدها ، لها من يطعن ، ولها من يصغر شأن هذا المحسود .
نعمة المجد والسلطان لها من يحسدها .
نعمة المال والتجارة لها من يحسدها .
نعمة الزواج السعيد له من يحسده .
نعمة الإخوة الصادقة له من يحسده .
حتى إن نعمة الدعوة إلى الله هناك من يحسد الدعاء على دعوتهم ، فيطعنون ويغمزون ، ويلمزون ، ويشمئزون ، ويتهمون اتهامات باطلة .
ورد في الحكم ، أنه :
لابد للمؤمن من مؤمن يحسده ، ومنافق يبغضه , وكافر يقاتله ، وشيطان يغويه ، ونفس ترديه .
نفسه ترديه ، وشيطانه يغويه ، والكافر يقاتله ، والمنافق يبغضه ، والمؤمن يحسده ، إلا أن الحسد هنا في هذه الحكمة ربما كان حسد غبطةٍ ليس غير .
أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد يقطع وشائج المودات ، وصلات القربات ، ويفسد الصدقات ويولد في النفس العداوات ، ويفك أفراد المجتمع ، ويباعد بين الجماعات ترى في البيت الواحد أخوةً متحاسدين ، ترى في الأسرة الواحدة ، فرعين متحاسدين ، ترى في القرية الواحدة أسرتين متحاسدتين ، ترى في المجتمع الواحد وقد يصبح الحسد عدواناً , وقصفاً , وقتلاً , وتدميراً .
أيها الإخوة ؛ شبه بعضهم الحسد بأنه كالمقراض يقرض الروابط الاجتماعية يقطع بين الناس ، لذلك ورد في القرآن الكريم قوله تعالى :

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 1 ]

أصلح ما بينك وبين الله ، وأصلح ما بينك وبين أخيك ، وأصلح ما بين أخوين إذا فسدت العلاقة بينهما ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إياكم وفساد ذات البين ، فإنها الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر ولكن أقول حالقة الدين ))

أيها الإخوة الكرام ؛ هل تصدقون أن الحسد يحلق الدين كله ، لأن الحسد يوقع بالكبائر يوقع في العدوان ، يوقع في البغضاء ، في الحقد يتفتت المجتمع ، فقد شبهه بعضهم بالمقراض ، يقرض أو يقطع كل علاقة طيبة بين أفراد المجتمع , وشبهه بعضهم بالمعول يهدم كل بناء .
أيها الإخوة الكرام ؛ الحسد في أصله اعتراض على عطاء الله ، اعتراض على حكمته اعتراض على عدالته ، اعتراض على تصرفاته ، إذاً هو خلل في العقيدة , والحسد في الأصل سلوك منحرف ، ينتهي بصاحبه إلى الآلام ، لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله ، ما الذي جعل إبليس يكن هذه العداوة البالغة لسيدنا آدم ؟ إنه الحسد .

﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾

[ سورة الأعراف ]

ما الذي جعل قابيل يقتل أخاه هابيل ؟ الحسـد .
ما الذي جعل أولاد يعقوب يأتمرون على أخيهم يوسف عليه السلام فيضعونه في غيابة الجب ؟ الحسـد .
ما الذي جعل اليهود ينكرون على السيد المسيح نبوته ؟ إنه الحسـد .
ما الذي جعل اليهود ينكرون على سيدنا محمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوته ؟ إنه الحسـد .
الأحداث الكبرى في التاريخ , وراءها الحسـد .
أيها الإخوة الكرام ؛ هناك حقيقة دقيقة جداً ، وهي إنني قد أختلف مع أخٍ اختلافنا بسبب نقص المعلومات ، فلو كنا في التاسع والعشرين من شهر رمضان مثلاً وسمعنا مدفعاً ينطلق ، يقول أحدهم إنه مدفع العيد ، ويقول الآخر إن تفجيرات في الجبل تتم لفتح طريق ، لماذا اختلفنا لنقص المعلومات ، فأحد أنواع الخلاف هو نقص المعلومات ، هذا شيء طبيعي ، ومقبول ولا غبار عليه ، لكن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بخمس آيات كريمة , وبآيتين واضحتين تماماً يبين أن سبب الاختلاف بين الناس ، وبين أصحاب الديانة الواحدة ، ليس هو نقص المعلومات ، ولا اختلاف وجهات النظر , إن السبب الكامن وراء اختلاف أصحاب الديانات إنه الحسد ، دققوا في قوله تعالى :

﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ﴾

[ سورة الشورى الآية : 14 ]

كما قال عليه الصلاة والسلام :
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال ))

[ أخرجه ابن ماجه ]

الحلال بين والحرام بين ، القرآن واحد ، السنة واحدة , الدين واحد ، الإله واحد ، لم هذه الفرقة ، لم هذا التنابذ ، لم هذه العداوات , لم هذا الطعن ، لم هذا البخس ، لماذا ؟ قال تعالى :

﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾

[ سورة الشورى الآية : 14 ]

أي حسداً من عند أنفسهم ، فالحسد في النهاية وراء التمزقات وراء التشرذم ، وراء الفرقة ، وراء تفتت الأمة ، وراء توجه أصحاب الديانة الواحدة إلى آلاف الطرق والمذاهب والاتجاهات والتيارات ، هذا التعدد تعدد البغي والعدوان ، هذا التعدد تعدد الحسد .

﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾

﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 17 ]

آية ثانية ، أيها الإخوة الكرام ؛ يجب أن نعلم علم اليقين أن المؤمن الحق لا يحسد ، لماذا ؟ أقول هذا في الخطبة الثانية ، لا يجتمع حسد وإيمان ، المؤمن الصادق المخلص عميق الإيمان ، لا يمكن أن يدخل إلى قلبه الحسد ، لماذا ؟ لأن الحسد عرض لمرض ، والمؤمن الحق لاتصاله بالله عز وجل هو الذي جعله يبرئ من هذه العلة القاتلة .
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه وعمل لم ما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين .
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين , وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

طرق الوقاية من الحسد :

أيها الإخوة الكرام ؛ أخطر ما في موضوع الحسد أن نعرف طرق الوقاية منه ، أو طرق علاجه ، إن كنا قد وقعنا في الحسد ينبغي أن نعلم طرق علاجه وإن كنا نتمنى أن لا نقع ، ينبغي أن نتعرف إلى طرق الوقاية منه .
فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يمكن أن يحسد إنسانٌ إنساناً حسداً قبيحاً منهياً عنه في الشرع إلا بنقص في إيمانه .
أن نمتن الإيمان ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾

[ سورة النساء الآية : 136 ]

إذاً هذا الإيمان لا يكفي ، الإنسان قد يؤمن أن لهذا الكون خالقاً هذا إيمان ، يقول بعضهم هذا إيمان إبليسي ، لأن إبليس أمن بأن لهذا الكون خالقاً ، وأمن بأن لهذا الكون رباً ، وأمن أن لهذا الكون رباً عزيزاً .

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة ص ]

إذاً هناك مستوى من الإيمان لا يكفي لتطهير صاحبه ، لذلك .

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 102 ]

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾

[ سورة الحج الآية : 78 ]

إذاً نحتاج إلى مستوى أرق من الإيمان حتى ننجو من الحسد .
أيها الإخوة الكرام ؛ الإنسان إذا تحقق عن طريق التأمل ، والبحث ، والدرس ، أن الله تعالى وحده هو المعطي ، وهو المانع ، وهو الخافض ، وهو الرافع ، وهو المعز ، وهو المذل ، وهو القابض ، وهو الباسط ، وهو المغني ، وهو الفقر ، وهو الذي يعلي ، وهو الذي يخفض ، إذا تحققت أن الله وحده يفعل ما يشاء ، وأن أسماء الله حسنى ، وأن صفاته فضلى ، وأن الله سبحانه وتعالى كامل كمالاً مطلقاً ، عندئذٍ تنجو من الحسد .

﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 26 ]

بيدك الخير وحده .

﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 26 ]

هذا كلام إدراكه سهل لكن أن تعيشه يحتاج إلى جهد كبير ، فرق أن تقرأ فكرةً فتفهمها وبين أن تعيشها ، شتان بين الحالتين ، يجب أن نعيش هذه المعاني ، أن تتغلغل في أعماق كياننا ، أن الله وحده هو الرزاق هو الفعال ، هو المعطي ، هو المانع ، هو الخافض ، هو الرافع ، هو القابض ، هو الباسط ، هو المعز ، هو المذل ، هو وحده ، علاقتك مع الله هو الذي أعطى فلان بحكمة بالغة ، وعدالة مطلقة ، وهو الذي منعك لحكمة بالغة ولعدالة مطلقة ، إذا صححت مفاهيمنا ، وارتقى إيماننا ، وانقلبت هذه الحقائق إلى حقائق نعيشها ، تسري في دمائنا ، وتجري في عروقنا عندئذٍ لا نحسد أحداً .
يجب أن نعلم أيها الإخوة ؛ علم اليقين ، وهذه حقيقة خطيرة في الدين ، أن الدنيا بأكملها ليست عطاءً ، لأنها تنقطع بالموت , ورد في بعض الحكم العطائية ، أنه ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك .

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾

[ سورة آل عمران ]

إذا أيقنت أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبة ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا , وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي إذا أيقنت بهذه الحقائق لا يكمن أن تحسد أحداً .

العطاء والحرمان :

أيها الإخوة الكرام ؛ يقول الله عز وجل :

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ﴾

[ سورة الفجر الآية : 15]

هو هذه مقولته :

﴿ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾

[ سورة الفجر الآية : 15]

واهماً مدعياً زاعماً :

﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ﴾

[ سورة الفجر الآية : 16]

أداة ردع ونفي ، يا عبادي ليس عطائي إكرام ، ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء ، وحرماني دواء .
أيها الإخوة الكرام ؛ ألا تكفينا هذه الآية الكريمة ، والله الذي لا إله إلا هو لو تأملنا فيها وفهمنا أبعادها ، وعشناها ، لكنا في سعادة ما بعدها سعادة .

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة ]

كان عليه الصلاة والسلام يقول .
عن أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال :

(( اللَّهمَّ خِر لي واخْتَرْ لي ))

[ أخرجه الترمذي ]

وقد قال بعض العارفين بالله ليس في الإمكان أبدع مما كان ، أي ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني ، يوم تتكشف الحقائق يوم القيامة لا تستطيع أيها الإنسان إلا أن تلخص كل ما ساقه الله لك بكلمة واحدة :

﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة يونس ]

أيها الإخوة الكرام ؛ حقيقة خطيرة الحظوظ في الدنيا ، وأعني بالحظوظ حظ الوسامة وحظ الصحة ، وحظ الذكاء ، وحظ المال ، وحظ القوة ، هذه الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، أوتيت المال ، مادة امتحانك هو المال حرمت المال ، مادة امتحانك هو الفقر ، أوتيت القوة ، مادة امتحانك القوة حرمت القوة كنت مستضعفاً ، مادة امتحانك الاستضعاف ، يجب أن تعلم أن كل شيء بين يديك هو امتحان ، وكل شيء فقدته هو امتحان , فالحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء ، والدنيا قصيرة ، وشيكة الزوال ، سريعة الانتقال ، ولكن هذا الأبد الذي لا ينتهي ، ولكن الحظوظ توزع في الآخرة توزيع جزاء ، موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء ، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء ، إذاً لا يمكن أن يحسد إنسانٌ إنساناً إلا لضعف إيمانه بكمال الله ، بحكمته ، برحمته ، بألوهيته ، بربوبيته ، بعدالته ، إذا أيقن أن هذه الحياة الدنيا حياة قصيرة ، دار عمل وليست دار جزاء ، دار تكليف لا دار تشريف ، انتزع الحسد من قلبه .
شيء آخر , ورد في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : إياكم وفضول النظر ، فإنه يبذر في النفس الهوى ، التطلع لم عند الناس ، التدقيق في دخلهم ، في إنفاقهم ، في أثاثهم ، في ممتلكاتهم المنقولة والغير منقولة ، تسأل كم دخله ، كم تنفق ، كم اشتريت هذا البيت ما مساحة هذا البيت ، إياكم وفضول النظر فإنه يبذر في النفس الهوى , وفي القرآن الكريم :

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة طه ]

﴿ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[ سورة آل عمران ]

يجمعون ألوف الملايين " ورحمة خير مما يجمعون " .

﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾

[ سورة الفجر]

﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ ﴾

[ سورة الحاقة ]

أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا يمكن أن يحسد المؤمن إلا لضعف إيمانه ، لضعف توحيده لضعف إيمانه بما عند الله ، لضعف إيمانه لحقيقة الدنيا ، لضعف إيمانه بحكمة الله ، لضعف إيمانه لعدالته ، برحمته ، بحكمته ، فالحسد أيها الإخوة داء وبيل ، هو أولاً عرض لأمراض كثيرة ، عرض للكبر , وعرض للكراهية ، وعرض للحقد ، وعرض للعدوان ، وعرض للشح , والحسد سبب للغيبة ، وسبب للنميمة ، وسبب لظلم ، وسبب للافتراء , وسبب لتزوير الحقائق ، وسبب للطعن ، وسبب للغمز ، وسبب للمز ، هو عرض لأمراض ، وسبب لآثام ، بسبب ضعف الإيمان .
الحل الثاني إذاً .

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة طه الآية : 131 ]

الآن الشيء الثالث : سماه العلماء التحويل والتصعيد ، أنت حينما تهتم بالآخرة ، وتهتم بطلب العلم ، وتهتم بتعلم القرآن ، والدعوة إلى الله تشغل عن هذه الظاهرة الخبيثة ، ليس في وقتك وقت تحسد أحد فيه هذا الهدف الكبير ملء كل وقتك ، ملء كل مشاعرك ، ملء كل ما في حياتك فالذي يقبل على الله ، وينطلق إليه ، ويبتغي مرضاته ، ويرى أن الله سبحانه وتعالى مهما سار في طريق معرفته , فالطريق لا يزال طويلاً , ومهما قدم من عمل يرى عمله قليلاً ، فهذا الذي ينجح في معرفة الله ليس عنده وقت يحسد أحداً عليه .

واجب الآباء تجاه أطفالهم :

أيها الإخوة الكرام ؛ التصعيد والتحويل ، دعك من الدنيا ، من مالها ، وبيوتها , ونساءها ، وحفلاتها ، ومقاصفها ، وبساتينها ، ومتنزهاتها ، حين تنقل اهتمامك للآخرة تنتهي من ظاهرة الحسد .
آخر شيء في الخطبة : أنه يمكن أن تربي أولادك على حب الآخرين ، على النظر إلى القيم لا إلى الميزات ، لا يحسد ابنك زميله على طول قامته ، ليحسده على تفوقه بالدراسة ، الأب حينما يرسخ , والأم في أولادهم أن التفوق في العلم والأخلاق ، فلا ينبغي أن نلتفت إلى الشكل والقامة ، ما إلى ذلك ، والغنى ، وفلان ابن فلان ، لا يلتفت الابن إلى ما بنفق صديقه ، إلى أخلاق صديقه ، وإلى علم صديقه ، وهذا من واجب الآباء ، عليك أيها الأب الكريم أن ترسخ في نفس ابنك وابنتك أن التفاضل بين الناس بالعمل الصالح ، أن التفاضل بين الناس بالتقوى ودققوا أيها الإخوة ، الحظوظ التي يتفاضل بها الناس ، حظ القوة ، وحظ الوسامة وحظ الذكاء ، وحظ القوة ، هذه الحظوظ القرآن ما اعترف بها أبداً ، ولا أشار إليها تجاهلها ، القرآن ما اعتمد إلا حظين ، قال :

﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الزمر الآية : 9 ]

واعتمد مقياساً آخر وهو :

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 132 ]

أيها الإخوة الكرام ؛ مرةً ثانية الحسد يفسد العمل ، لك صلاتك ، ولك صيامك ، ولك حجك ولك زكاتك ، ولك حضور مجالس العلم ، وتقبل على الدين , وتقرأ القرآن ، وتحفظ ، لكن القلب يغلي بالحسد ، العمل قد احبط ، فلذلك تعاهد قلبك ، لذلك دقق في قوله تعالى :

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء ]

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت وبارك اللهم لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك اللهم هب لنا عمل صالح يقربنا إليك ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا وأمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد أمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، نعوذ بك من الذل إلا لك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا أخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنه على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور