وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0606 - الرضا 2 - الرضا أكبر ثمرات الإيمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الرضا أكبر ثمرات الإيمان :

 أيها الأخوة الكرام: لازلنا في إحدى أكبر ثمرات الإيمان، ألا وهي الرضا، إن كنت راضياً عن الله، راضياً عن قضاء الله فيك، فأنت أسعد الناس، وإن لم تكن كذلك، كان الهمّ والحزن. إن مما يسخِّط الناس على أنفسهم، وعلى حياتهم، ويحرمهم لذة الرِّضا، أنهم قليلو الإحساس بما يتمتعون به من نعم غامرة، ربما فقدت قيمتها، لأنهم ألفوها، أو لأنهم يحصلون عليها بسهول، وهم يقولون دائماً: ينقصنا كذا وكذا، ونريد كذا وكذا، ولا يقولون: عندنا كذا وكذا.
 قبل أن تقول: ينقصنا، قل ماذا عندك ؟ ما النّعم التي أنعم الله بها عليك ؟ ما الفضل الذي حباك الله فيه ؟ ما الشيء الذي اختصك الله به ؟ قبل أن تنظر إلى نصف الكأس الفارغ انظر إلى نصفه الملآن، إلا أن المؤمن أيها الأخوة عميق الإحساس بفضل الله عليه، عميق الإحساس بما يحيط به من نعم ظاهرة وباطنة، هي عن يمينه، وعن شماله، ومن بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته، إنه يشعر بنعمة الله عليه منذ كان صبياً في المهد، لا سن له تقطع، ولا يد له تبطش، ولا قدم له تسعى، أجرى الله له عرقين رقيقين في صدر أمه يجريان لبناً خالصاً، كامل الغذاء، دافئاً في الشتاء، بارداً في الصيف، ألقى الله محبته في قلب أبويه، فلا يطيب لهما طعام ولا شراب، ولا يهنأ لهما نوم ولا عيش، حتى يكفياه ما أهمه، ويدفعا عنه كل ضرر.
 المؤمن عميق الإحساس بنعم الله، كان عليه الصلاة السلام تعظم عنده النعم مهما دقت، من خصائص المؤمن إحساسه بالنعم شديد، لذلك هو راضٍ عن الله عزَّ وجل. المؤمن يرى آثار رحمة الله عزّ وجل ونعمته في كل شيء حوله، يرى نعم الله عليه في شخصه.

 

نعم الله عز وجل على الإنسان :

 أول هذه النعم نعمة الخلق، ولولا مشيئة الله عزّ وجل لبقي الإنسان في ظلمة العدم، قال تعالى:

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[سورة الإنسان: 1]

 النعمة الثانية نعمة الإنسانية، شاء الله عز وجل أن تكون من بني البشر، أن تكون إنساناً سوياً، أن تكون المخلوق الأول، وهذه نعمة أخرى تُضاف إلى نعمة الخلق..

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[سورة الإسراء:70]

 نعمة الخلق، أو نعمة الوجود، ونعمة أن الله سبحانه وتعالى شاء لك أن تكون من بني البشر، شاء لك أن تكون مخلوقاً أول، سخَّر لك السموات والأرض.
 أيها الأخوة الكرام: هناك نعمة ثالثة نعمة الصورة الحسنة، التي صورك الله بها، كان عليه الصلاة والسلام إذا نظر في المرآة يقول:

(( اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي ))

[ الجامع الصغير بسند صحيح عن ابن مسعود ]

 قال تعالى:

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾

[سورة التين:4]

﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

[سورة غافر: 64]

 النعمة الرابعة: نعمة الإدراك، الله جل جلاله، أودع فيك قوةً إدراكية هي التي ميزتك عن بقية المخلوقات، قال تعالى:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

[سورة العلق: 1]

﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[سورة النحل: 78]

 نعمة الخلق، ونعمة أنك من بني البشر، ونعمة الصّورة الحسنة، ونعمة الصّورة الحسنة، ونعمة القوة الإدراكية، ونعمة البيان النطقي، قال تعالى:

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾

[سورة الرحمن: 1-4]

 يعبِّر عن حاجاته، يعبِّر عن مشاعره، بكلمات لطيفة، يفهمها كل الخلق. نعمة الرزق:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾

[سورة فاطر:3]

 هذه النعم، تغيب عن معظم الناس، يبحثون عما ينقصهم، لا عما هو في أيديهم. ومن أجل هذه النعمة نعمة الهداية إلى الله، عرَّفك بذاته، وألهمك طاعته، وأعانك على العمل الصالح، ملايين مملينة في بعض القارات يعبدون البقر، وأناس يعبدون النار، وأناس يعبدون أشخاصاً مثلهم.. كرمك الله، وأنعم عليك بنعمة عظمى هي أنه هداك إليه:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾

[سورة الحجرات:7]

 نعمة ثامنة: نعمة الأخوة الإيمانية، هذه نعمة كبرى، قال تعالى:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[سورة آل عمران:103]

 دائماً اسأل نفسك هذا السُّؤال: كم هي النعم التي بين يديك ؟ ولا تسأل كم هي الحاجات التي تنقصك ؟

 

النبي عليه الصلاة والسلام من أشدّ الخلق إحساساً بنعم الله :

 كان عليه الصلاة والسلام من أشدّ الخلق إحساساً بنعم الله عزّ وجل، أثر عنه أنه كانت تعظم عنده النعم مهما دقَّت. كان عليه الصلاة والسلام إذا تناول طعامه، وهل تعلمون ما طعامه ؟.. كان طعاماً خشناً، طعاماً من الخبز خشناً، وطعاماً من الشعير جافَّاً، يتناوله تناول الراضي الشاكر ويقول في ختام الطعام:

((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين..))

[النسائي عن أبي سعيد]

 إذا شرب الماء يقول:
))

 

الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا

((

[ شعب الإيمان عن أبي جعفر]

 كان إذا اكتسى ثوباً أو عمامة يقول:

((الحمد لله الذي كساني هذا، ورزقنيه، من غير حول مني ولا قوة، اللهم إني أسألك خيره وخير ما هو له))

[ أبو داود والدرامي عن عبادة بن الصامت]

 كان إذا ركب دابةً يقول:

((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.. ))

[ مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد والدرامي عن ابن عمر]

 كان إذا استيقظ من نومه يقول:

((الحمد لله الذي أحياني بعد إذ أماتني، الحمد لله الذي عافاني في جسدي، الحمد لله الذي أذن لي بذكره))

[ النسائي عن أبي هريرة]

 كان إذا قضى ضرورته البشرية يقول: " الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى لي ما ينفعني، الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيِّ قوته، وأذهب عني أذاه"
 كان إذا جاءت الأمور على ما يريد، وعلى ما يتمنى، كان يقول:

((إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ))

[ ابن ماجة عن عائشة]

 كان إذا رأى إنساناً مبتلىً في جسمه، أو بعض حواسِّه، كان عليه الصلاة والسلام يقول فيما بينه وبين نفسه، من دون أن يسمعه هذا المتبلى:" الحمد الذي عافاني مما ابتلى كثيراً من خلقه " وكان إذا استيقظ واستقبل الصباح: "اللهم إني أصبحت بنعمة منك وعافية وستر، فأتمَّ عليَّ نعمتك وسترك في الدنيا والآخرة" وإذا أظله المساء قال مثل ذلك.

 

توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :

 هكذا علمنا النبي عليه الصلاة والسلام، أن تنظر إلى ما عندك من نعم، نعمة أجهزتك لا تُقدر بثمن، أي خلل يصيب بعض الأجهزة تدفع مئات الألوف، وبعض الملايين، وقد لا تعود كما كنت، الحمد لله على نعمة الصّحة، الحمد لله على نعمة الكفاية، الحمد لله على نعمة الأهل.. حقيقة المؤمن أنه راضٍ بما قسم الله له من رزق، وما قدر له من مواهب، وما وهب له من حظوظ؛ لأنه مؤمن بعدل الله فيما قسم، وبحكمته فيما وزع من مواهب، وبفضله وبرحمته فيما وهب من حظوظ، وهذا هو معنى القناعة.
 الحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء، والدنيا محدودة وقصيرة، وسوف تُوزع في الآخرة إلى أبد الآبدين توزيع جزاء، فرق كبير بين أن تُمتحن لسنوات عدَّة، فإذا تجحت في الامتحان نِلت الحظوظ المطلقة إلى أبد الآبدين، الحظوظ في الدنيا؛ حظُّ المال، وحظ الصحة، وحظ الزوجة، وحظ الأولاد، هذه الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء، وسوف تُوزع في الآخرة توزيع جزاء.

تفسير القناعة :

 القناعة ليست كما يتوهم المتوهمون، ليست أن ترضى بالدون، ليس أن ترضى حياة الهون، ليست ضعف همة عن طلب معالي الأمور، ليست هذه هي القناعة، القناعة أن تملك نفسك وألا تملكك نفسك، أن تكون قادراً على تسييرها وفق منهج الله، لا أن تسيرك إلى شهواتها، القناعة أن تملك أمرك، لذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم:

((لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ))

[متفق عليه عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]

 يقول عليه الصلاة والسلام:

((إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، واستجملوا مهنكم ))

[ابن حبان عن جابر]

 وهناك زيادة على هذا الحديث:

((خذ ما أحل، ودع ما حُرم ))

 الإيمان يحدُّ من هذا الحرص الشديد، والطمع البالغ، يحد من طغيان الشراهة والجزع، فالنفس الشاردة لا تكتفي بالقليل، ولا تشبع بالكثير، القناعة أن ترضى بما وهبك الله، مما لا تستطيع تغييره، إذا كنت قادراً على تغيير ما أنت فيه فليس من القناعة أن تقنع به، إلا أن القناعة أن تكون راضياً بما وهبك الله عزّ وجل، مما لا تستطيع تغييره، غير القانع يعيش متمنياً ما لا يتيسر له، متطلعاً إلى ما وُهب لغيره. فالإنسان الأقل حسناً لا ينبغي أن يتطلع إلى أن يكون أكثر حسناً، هذا ليس بيده، ولا يملكه.. طول الإنسان، لون الإنسان، ملامح الإنسان، هذه ليست من اختصاصه، إنها قدره، أهله قدره، زوجته قدره، أولاده قدره. القناعة أن ترضى بشيء لا تستطيع تغييره، أما إذا أردت أن تُحسِّن وضعك فهذا ليس محرم عليك. يقول الله عز وجل:

﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾

[سورة النساء:32]

 الآية الكريمة التي نرددها كثيراً:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾

[سورة النحل: 97]

 الإمام علي كرم الله وجهه فسَّر الحياة الطيبة بالقناعة.
 الإمام الغزالي يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان، ثم فسر هذه المقولة المطلقة فقال: ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني..
 فكرة دقيقة جداً؛ القناعة بالقليل من الرزق ليست مصدر ضعف بالإنسان، بل هي مصدر قوة له، ولا سيما إذا كان من أصحاب المبادئ، ومن حملة الرسالات، إنه يعلم أن القليل يكفيه، لذلك لا يعبأ بالدنيا إذا ذهبت من بين يديه، لذلك لا يجامل، ولا ينافق..
 أصحاب الدعوات، أصحاب المبادئ، أصحاب الرسالات، ينظرون إلى خزائن الملوك، ورياش المترفين كما ينظر راكب الطائرة إلى القرى والبيوت المتناثرة، وكأنها علب صغيرة.
 حكي عن السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أنه قال: لباسي لباس الصوف، وطعامي الشعير، وسراجي القمر، ودابتي رجلاي، ووسادتي ذراعي، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على وجه الأرض من هو أغنى مني.. احتج إلى الرجل تكن أسيره، واستغن عنه تكن نظيره، وأحسن إليه تكن أميره.
 للإمام الشافعي قول رائع:

أنا إن عشت لست أعدم قوتــاً  وإذا مت لست أعدم قبـــــــــراً
همتي همة الملوك، ونفســـــــي  نفس حرٍّ ترى المذلة كفــــراً
وإذا ما قنعت بالقوت عمــــــــري  فلماذا أخاف زيداً وعمــــراً؟
***

 الإمام الحسن البصري سئل: يا إمام ما سرُّ هذه المكانة التي تتمتع بها بين الناس؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس، وحاجتهم إلى علمي.. أن ترضى بالقليل، مصدر قوة لك، عندئذ لا تجامل، ولا تداهن، ولا تنافق، ولا ترجو أحداً، ولا تخشى أحداً..
 دخل الإمام أبو حنيفة على المنصور، فقال المنصور: لو تغشيتنا يا أبا حنيفة فنأنس بك؟ قال: ولمَ أتغشاكم وليس لي عندكم شيء أخافكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ قال له وتابع حديثه: إنك إن أكرمتني فتنتني، وإن أبعدتني أزريت بي.
 كلمة أخرى في موضوع القناعة: القناعة لا تعني أن ترضى بالسيئ، لا تعني أن تسكت على الباطل، إن رضا الإنسان مثلاً عن السيارات وركوبها ليس معناه الرضا عما تسببه من حوادث، المؤمن راضٍ عن ربّه، راضٍ عن شرعه، راضٍ عن نظامه في الكون، لكنه لا يسكت على الخطأ، لا يقبل بالانحراف، هذا من علامات المؤمن.. يقول الله عزّ وجل:

﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾

[سورة هود: 116]

 وقد أهلك الله بني إسرائيل، وقد علل الله هلاكهم بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يصنعون..
 القناعة بما أوتيت مما لا تستطيع تغيره، اعمل لآخرتك، وأصلح دنياك، إذا كان بالإمكان أن تصلح دنياك، وأن تحسِّن وضعك المادي، وأن تحسن مسكنك، وأن تكفي أهلك وأولادك فافعل، لكنَّ القناعة هي أن ترضى بحظٍ وهبك الله إياه، لا تستطيع أن تزيد فيه، ولا تستطيع تغييره، والقناعة ليست مصدر ضعف، بل هي مصدر قوة، لأنك عندئذ توطن نفسك على الخشن من الثياب والطعام، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ))

[كشف الخفاء عن أبي عبيد]

 المؤمن يوطِّن نفسه على أقل دخل، عندئذ يعيش لمبدأ، ولا يبيع دينه ولا مبادئه بعرض من الدنيا قليل.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قصة النبي عليه الصلاة و السلام مع الغلام اليمني :

 أيها الأخوة الكرام: إليكم هذه القصة البليغة التي وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد من اليمن، ثلاثة عشر رجلاً مسلماً، فسرَّ بهم النبي عليه الصلاة والسلام، وأكرم منزلتهم، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم، وجعلوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويتعلمون منه، وأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، رغبة في الرجوع إلى قومهم، ليعلموهم مما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليودعوه، فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود - أعطاهم مكافآت، هدايا، جوائز- ثم قال عليه الصلاة والسلام: هل بقي منكم أحد ؟
 قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحلنا، هو أحدثنا سناً. فقال عليه الصلاة والسلام: أرسلوه إلينا، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض حاجتك منه، فإنا قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني امرؤ من الرهط الذين أتوك آنفاً قضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: وما حاجتك؟ قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله ما أقدمني من بلادي إلا رغبة ورجاء أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي. فقال عليه الصلاة والسلام وقد سر بهذا الغلام وأقبل عليه: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهلهم.
 وفي العام القادم هؤلاء الذين قدموا على النبي رجعوا إليه مرةً أخرى وافوه في منى، فسألهم النبي عليه الصلاة والسلام :ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، ما رأينا أقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا أمامه، ما نظر إلى واحد منهم، ولا التفت إليهم. فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعاً.. أن يموت هذا الغلام جميعاً ما فهموا كلامهم.. فقال واحد منهم: يا رسول الله أليس يموت الرجل جميعاً. فقال عليه الصلاة والسلام مبيناً لهم: إن من الناس من يموت مشتتاً موزعاً، تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا- هناك وادي المال، وادي النساء، وادي بلوغ المراتب العليا، وادي العلو في الأرض، وادي المتع، هذا شرح من عندي- قال الرسول عليه الصلاة والسلام:

((إن من الناس من يموت مشتتاً موزعاً، تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله في أي أوديتها هلك))

 قال هؤلاء: فعاش الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزقه الله عز وجل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام هذا الغلام في قومه فذكَّرهم بالله، وذكَّرهم بالإسلام، فلم يرجع من قومه أحد.. جعل الله تمكين الإيمان في قومه على يديه. وجعل أبو بكر رضي الله عنه يذكره ويسأل عنه، حتى بلغه حاله فكتب إلى زياد بن لبيد، يوصيه به خيراً.

من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً :

 في حديث آخر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ ))

[ ابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ]

(( اعمل لوجه واحد، يكفك الوجوه كلها ))

[ أخرجه ابن عدي والديلمي عن أنس ]

 من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، " أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه" حديث قدسي، لو تعمقنا في فهمه واستوعبنا أبعاده، لكنا في حال غير هذا الحال:

(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))

[ من الدر المنثور عن عمر بن الخطاب ]

((عبدي خلقت السموات والأرض، ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين؟ لي عليك فريضة، ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي، لم أخالفك في رزقك، وعزتي وجلالي، إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي، وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما أريد، كفيتك فيما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد، أتعبتك فيما تريد، ثم ما يكون إلا ما أريد ))

[ورد في الأثر]

(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))

[ من الدر المنثور عن عمر بن الخطاب ]

((عبدي كن لي كما أريد، ولا تعلمني فيما يصلحك..))

[ورد في الأثر]

 لا تكلف نفسك أن تعلمني بما يصلحك، أنا أعرف ما يصلحك.
 كن له كما يريد، يكن لك كما تريد..

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
 اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور