وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0588 - الأعراف والتقاليد.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الرؤيا من مبشرات النبوة و لكن لا يؤخذ منها حكم شرعي :

 أيها الأخوة الكرام، في سلسلة خطب محورها نفي ما ليس من الدين، ذكرت في خطبة سابقة أن الرؤيا من مبشرات النبوة، وأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، ولكن لا يمكن أن يُؤخذ من الرؤيا حكم شرعي، ولا يُصحح في الرؤيا حديث، ولا يقيَّم فيها إنسان؛ لأن الله عز وجل يقول:

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[ سورة المائدة: 3]

 فلو أن إنساناً ادعى أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخالف الأمر التكليفي تُرد الرؤيا ويثبت الشرع.
 في خطبة ثانية تحدثت عن الإلهام، وكيف أنه حق من الله تعالى، وكيف أن الله سبحانه يقول:

﴿ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾

[ سورة الأنفال: 29]

 ومع ذلك لا يمكن أن نأخذ بالإلهام إذا خرم قاعدة شرعية، أو ناقض نصاً ثابتاً؛ لأن هذا الدين دين قويم، وهذا الدين تضبطه أصول لا يمكن أن نحيد عنها قيد أنملة.
 أو عرفاً خاصاً، أي ما استقر في النفس من جهة العقول، وتلقته الطباع بالقبول.

 

الأعراف و التقاليد :

 واليوم موضوع الخطبة عن الأعراف والتقاليد، لها في الإسلام شأن، ولكن لها شروطاً قاسية جداً، فالعرف أيها الأخوة ما اعتاده الناس، وما ألفوه، وما تواضعوا عليه في شؤون حياتهم حتى أنسوا به، واطمأنوا إليه، وأصبح الأمر معروفاً، سواء كان عرفاً قولياً، أو عرفاً عملياً، عرفاً عاماً،
 أيها الأخوة الكرام، من الأعراف القولية أنك إذا قلت: أكلت لحماً ليس معنى ذلك أنك أكلت سمكاً، فالسمك شيء، واللحم شيء آخر، مع أن السمك لحم، إلا أن العرف لو أن إنساناً حلف يمين طلاق، أو حلف يميناً منعقدة ألاّ يأكل لحماً، له أن يأكل سمكاً، فالعرف هنا قولي. وهناك من الأعراف القولية أن الولد يعني الذكر دون الأنثى، مع أن الولد في اللغة يعني الذكر والأنثى، هذه أعراف قولية.
 ومن الأعراف العملية بيع المعاطاة، أن تشرب كأس عصير لا تحتاج إلى إيجاب، ولا إلى قبول، ولا إلى شاهدين، تدفع الثمن، وتشرب الكأس، وانتهى الأمر، هذا عرف.
 أيها الأخوة الكرام، العرف العام يطبق في كل البلاد، والعرف الخاص في بيئة محددة، وقد فرّق العلماء بين الإجماع وبين العرف، فالإجماع ما اتفق فيه مجتهدو الأمة، أما العرف فما اعتاده الناس عفو الخاطر من دون اجتماع، من دون اجتهاد، من دون إقرار، من دون موافقة.

علاقة الإسلام بالأعراف والتقاليد :

 ما علاقة الإسلام بالأعراف والتقاليد ؟.. الإسلام أقرَّ من الأعراف ما كان صالحاً، وتلاءم مع مقاصده ومبادئه، ورفض من الأعراف ما ليس كذلك، أو أدخل على بعض الأعراف تصحيحات وتعديلات، فالأصل هو الشرع، فما وافق الشرع قبلناه، وما حاد عنه قليلاً صححناه، وما ناقضه رفضناه، ولو كان عرفاً يسري في الأمة جميعها، والإسلام غطى الثوابت في الإنسان، وغطى المتغيرات، فالثوابت غطاها الإسلام بنصوص قطعية في دلالتها، وأما المتغيرات فقد تركها الإسلام للأعراف والتقاليد.. هذه نقطة دقيقة جداً، ترك الإسلام أشياء كثيرة، لم يحددها تحديداً جاداً، ولا صارماً، تركها للعرف الصالح يحكم فيها، ويعين حدودها وتفاصيلها، مثلاً قال تعالى:

﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾

[سورة البقرة: 233]

 كم المبلغ ؟ الأعراف تحدد هذا المبلغ، القرآن الكريم ترك تحديد النفقة للأعراف السارية في مجتمع ما. وقال تعالى:

﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة البقرة: 241]

 ما المعروف ؟ ما تعارف الناس عليه، المبلغ المعقول، المألوف بين الناس، القرآن الكريم لم يحدد تحديداً جاداً ولا صارماً، بل ترك تقييم بعض الأشياء للأعراف والتقاليد، فالعرف هو المحكم في تحديد نفقة المرأة، ومتعة المطلقة، فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِي اللَّه عَنْهم قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا))

[متفق عليه عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ]

 كيف نحكم أن المجلس قد انتهى وتفرق ؟ الآن صار عقد جديد الأعراف تحدد مفهوم التفرق، ,عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَمَا أَكَلَتِ الْعَافِيَةُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ))

[مسلم عن جابر ]

 ما هو الإحياء؟ أن تقيم سوراً لها فقط؟ أن تحفر بئراً؟ أن تزرعها؟ أن تشيد بناءً عليها؟ العرف وحده هو الذي يحدد معنى الإحياء في الأرض.
 لو أن إنساناً رأى حاجة أيها الأخوة على قارعة الطريق، وجاء من أخذها هل تُقطع يده؟.. نقول: هذه الحاجة ليست في حِرز.. من يحدد معنى الحرز؟.. على الطريق، على الدرج، ضمن البناء، من يحدد معنى الحر؟ العرف هو الذي يحدد معنى الحرز.. ما معنى القبض؟ كيف تقبض البيت؟ هل تأخذ مفتاحه فقط هذا هو القبض أم حينما يُقرّ لك صاحبه في السجل القانوني أنه أصبح ملكك ؟ الأعراف وحدها قبل مئة عام يكفي أن تأخذ مفتاح البيت فقد قبضته، وتملكته، أما الآن فالعرف أنه لابد من تسجيله في السجلات الرسمية، هذا هو القبض، من يحدد معنى القبض؟ العرف.

 

الشريعة مصلحة كلها و رحمة كلها و عدل كلها :

 أيها الأخوة الكرام، يقول ابن مسعود رضي الله عنه:" ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".
 وقد قال بعض العلماء: إن العادة محكمة في أمور كثيرة، وقد قال بعض العلماء: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، حينما تشتري بيتاً، هل بإمكانك أن تنتزع النوافذ منه؟ العرف يقتضي أن النوافذ مع البيت، لكن المكيف لك أن تأخذه، من يحدد هذه الخلافيات؟ الأعراف والتقاليد، المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.. والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص.. والممتنع عادة كالممتنع حقيقةً.. هذا كله عن علاقة الأعراف والتقاليد بهذا الفرع العظيم.
 وقد قال بعض العلماء: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار،
 رعاية الأعراف والتقاليد نوع من أنواع رعاية مصالح المسلمين، لأن أحد العلماء يقول: الشريعة مصلحة كلها، رحمة كلها، عدل كلها، فأية قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، وخرجت من العدل إلى الجور، وخرجت من الرحمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل.
 من مصالح الناس أن يقرّوا على ما ألفوه وتعارفوا عليه، وقد جاء الدين بالتيسير، ورفع الحرج والعنت عن الأمة، قال تعالى:

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

[سورة البقرة: 185]

 وقال تعالى:

﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾

[سورة الحج: 78]

 وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

الاعتداد بالأعراف ما لم تصادم نصاً في شرع الله :

 أيها الأخوة الكرام، كل هذا الكلام مقدمة، أما القصد من هذه الخطبة، فهذه الفِقرة:
 العرف شأنه شأن الرؤيا، وشأنه شأن الإلهام، يُعتبر ويعتد به إن لم يخالف نصاً ثابتاً، أو إجماعاً يقينياً، وكذلك إن لم يكن من ورائه ضرر خالص أو راجح، أما العرف المصادم للنصوص الذي يحل حراماً، أو يبطل واجباً، أو يقرُّ بدعة في دين الله، أو يشيع فساداً أو ضرراً في دنيا الناس فلا اعتبار له إطلاقاً، ولا يجوز أن يُراعى فيه تقنين أو فتوى أو قضاء.
 من الأعراف أن يدخل العريس على النساء الكاسيات العاريات يوم عرسه، ويجلس على كرسي لينظر إلى كل هؤلاء النساء وهن شبه عرايا، هذا من الأعراف، فهل نأخذ بهذا العرف؟ هذا العرف نركله بقدمنا ؛ لأنه صادم نصاً صريحاً. الأعراف يُعتدُّ بها ما لم تصادم نصاً في شرع الله..
 أيها الأخوة الكرام، أن تصور الحفلة حفلة العرس، بأجهزة الفيديو، وأن تُعرض في بيوت الناس جميعاً، يعرف كل رجل من فلانة، وما شكلها، وما لونها، وما طولها، هذا من أشدّ المحرمات، هذا عرف الآن، ولكن هذا العرف يجب أن نركله بقدمنا لأنه خالف نصاً شرعياً.
 أكل الربا أصبح من الأعراف والتقاليد، تقديم بعض المشروبات التي لا ترضي الله في بعض الحفلات، الرقص في الأفراح، ترك الصلاة في بعض المناسبات، هذا كله مما ألفه الناس، نحن مقياسنا الشرع، فأي عرس، أو أي تقليد، أو أي شيء ألفه الناس إذا خالف نصاً شرعياً، أو أمراً إلهياً، أو نهياً، أو سنة، لا نعبأ به ولا نعتدُّ به، بل نركله بأقدامنا، ومن أوضح الأشياء هذه الأزياء التي تلبسها النساء، والتي تبدي كل المفاتن، والتي نهى الله عن إبدائها، هذا من الأعراف، هل نعتدُّ بهذا ؟.. إطلاقاً..

 

تقيد العرف بمنهج الله و بالصالح العام :

 قال بعض العلماء: إن حجية العرف في الإسلام قوله تعالى:

﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾

[سورة الأعراف:199]

 العرف هنا مقيد بمنهج الله، العرف هنا مقيد بالصالح العام، والصالح العام له ضوابط كثيرة، وما أشدّ الضوابط الشرعية في المصلحة العامة. يقول بعض العلماء: كل ما ورد به الشرع مطلقاً، ولا ضابط له فيه، ولا في اللغة يُرجع فيه إلى العرف.
 فكل مصلحة وكل حرفة لها أعراف، بعض المصالح الجهد ستون والمال أربعون، بعض المصالح الجهد ثمانون والمال عشرون، بعض المصالح الجهد خمسون والمال خمسون، المضاربة وردت في الإسلام، أما تحديد النسب فلم يرد، إلام نرجع؟ إلى الأعراف، هناك أعراف خاصة في كل حرفة، في كل مهنة، في كل سلك، وهناك أعراف عامة، قد تشتري حاجة، يضمن لك الصانع حسن أدائها سنة بكاملها، هذا من العرف، قد تتزوج امرأةً، تقسم مهرها إلى قسمين، تدفع نصفه معجلاً، والنصف الآخر مؤجلاً.. هذا من العرف الذي أقره الإسلام، فالأعراف والتقاليد والعادات التي ألفها الناس يؤخذ بها، وتُرعى ما لم تصادم نصاً شرعياً، ما لم تخرم قاعدةً شرعية، ما لم تُبطل أمراً إلهياً، ما لم تعطل واجباً دينياً، الأصل هو الشرع، قال تعالى:

﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة المائدة: 3]

 فالمؤمن يتحرك وفق منهج الله، فما وافق منهج الله من الأعراف والتقاليد على العين والرأس، الأصل في الأشياء الإباحة وما خالف أي نصٍ شرعي لا يُعبأ به، ولا يُعتدُّ به، ولو تكلم الناس ما تكلموا، من أرضى الناس جميعاً فهو منافق.. ورضى الناس غاية لا تُدرك، ومن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به، وفي بعض التفاسير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تستح فاصنع ما تشاء" أي إن لم تستح من الله في هذا الفعل فاصنع ما تشاء ولا تعبأ بقول الناس.

 

الحفاظ على الدين من أي شيء يشوهه :

 في بعض المجتمعات الجاهلية يقوم العرف مقام الدين، ولئن يُقطع الإنسان إِرباً إرباً، أهون عليه من أن يخالف عرفاً اجتماعياً يصادم أصل الدين، لذلك هذه الخطب، هذه السلسلة من الخطب.. ما الذي يدخل على الدين ما ليس منه ؟.. الرؤيا، الإلهامات، الأعراف والتقاليد، هذا كله من شأنه أن يدخل على الدين ما ليس منه، أن يحرِّف مسيرة الدين.
 أيها الأخوة الكرام، لا ننجح، ولا نفلح إلا إذا حافظنا على ديننا حين جاء به النبي عليه الصلاة والسلام دون أن نزيد عليه، ودون أن ننقص منه.
 أيها الأخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

زيت الزيتون آية من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة الكرام، أهمل الطب الحديث البحث عما في غذاء الإنسان من فوائد وقائية، وعلاجية، وغذائية، ففي عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين ظهرت أول دراسة موضوعية عن أثر زيت الزيتون في تخفيض كولسترول الدم.
 أظهرت دراسة أخرى تبعتها أن أمراض شرايين القلب، واحتشاء العضلة القلبية، كانت نادرة بل شبه معدومة في جزيرة كريت، والسبب أن سكان هذه الجزيرة يأكلون من زيت الزيتون بكميات كبيرة، وفي الحديث الصحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة))

[ الترمذي عن عمر بن الخطاب]

 قبل عشر سنوات كان كل الأطباء ينهون من في دمه كولسترول عن أكل زيت الزيتون، الآن كُشف العكس أن زيت الزيتون يخفض نسبة الكولسترول الضار في الإنسان، ويرفع الكولسترول النافع. زيت الزيتون أسهل أنواع الزيوت هضماً، وفيه قيمة غذائية ووقائية وعلاجية، والأطباء الآن أجمعوا على أن هذا الزيت له تأثير علاجي جيد، من هذا التأثير أنه يمكن أن نستخدمه لخفض الكولسترول، ولخفض الضغط المرتفع، ويُستخدم لوقاية الشرايين والأوعية من تصلبها وترسب المواد الدهنية على جدرها.
 بعضهم يقول: من التحليلات الدقيقة أن مئة غرام من زيت الزيتون فيه غرام بروتينات، و أحد عشر غراماً من الدسم، فيه بوتاسيوم، كالسيوم، منغنيزيوم، فوسفور، نحاس، كبريت، فيه ألياف، غني بأهم الفيتامينات المتعلقة بتركيب الخلايا، ونشاطها والمتعلقة بالتناسل والعظام، وغذاء للدماغ، وغذاء للأطفال.
 وله تأثير في تفتيت الحصيات في المرارة والمثانة، وهو كما قلت قبل قليل: الكولسترول نوعان، ضار ونافع، يخفض نسبة الضار، ويرفع نسبة النافع، هذه كلها أبحاث علمية قدمت في مؤتمرات علمية، هذا الشيء الذي لا يُصدق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، أكثر المواد الدسمة التي يشتريها الناس ممنوع استعمالها في بلد المنشأ؛ لأنها تؤذي الجسم، وتبقى في الدم، وتترسب على جدار الأوعية، وهذا مما يسبب آلاف الأمراض التي ارتفعت إلى عشرة أمثال.
 في زيت الزيتون مادة تمنع من تخثر الدم، وتقي الشرايين من ترسب المواد الدهنية، هذا الزيت كما قال عليه الصلاة والسلام:

((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة))

[ الترمذي عن عمر بن الخطاب]

 وله أثر ملطف لالتهابات الجلد، ولبعض الأمراض الجلدية، هذا الزيت له أثر طيب ونافع حتى في الاستعمال الخارجي، والنبي كما قلت قبل قليل: لا ينطق عن الهوى. المؤمن يعرف ماذا يأكل، لابد له من مواد دسمة، فإما أن يشتريها ضارةً، وإما أن يشتريها نافعة.
 أيها الأخوة الكرام، ما ذكرت هذا الموضوع إلا لأن معظم الناس قبل أن تأتيهم بينة من ربهم، وقبل أن يعلموا أن هذا الدين كمال مطلق، وصواب مطلق، يظنون أن أقوال الأطباء الذين لم يبلغوا مرحلة النضج في علمهم ينهون معظم الناس عن تناول هذا الزيت الذي يخرج من شجرة مباركة.. طبعاً هناك أحاديث كثيرة جداً اخترت هذا الحديث:

((كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَة))

[ الترمذي عن عمر بن الخطاب]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين. اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور