وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0580 - عدله صلى الله عليه وسلم - جوهر الاحتفال بذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

عدل النبي الكريم و رحمته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لا زلنا في شهر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تحدثت في الأسبوع الماضي يوم الجمعة في خطبة الجمعة ، عن رحمته صلى الله عليه وسلم ، وكيف أن الرحمة كانت مهجته ، واليوم ننتقل إلى موضوعٍ آخر ، كيف أن العدل كان شريعته ، والرحمة مهجته.
 أيها الأخوة الكرام ؛ أعرابي من جفاة الأعراب ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بغلظة : اعدل يا محمد ، فهذا المال ليس مالك ولا مال أبيك..
 ما الذي حمل هذا الأعرابي على أن يسأل النبي الكريم بهذه الغلظة ؟ يقينه أن العدل شريعته ، وأنه لا يظلم ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام في طمأنينة ما بعدها طمأنينة ، وفي حلم ما بعده حلم ، قال :

(( وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ...))

[مسلم عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ]

 إذا كان سيد الخلق ، وحبيب الحق ، سيد ولد آدم ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، النعمة المزجاة ، الرحمة المهداة ، الأسوة والقدوة ، الذي لا ينطق عن الهوى ، الذي عصمه الله عن أن يخطئ في أقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، وأحواله ، إذا كان النبي لا يعدل فمن يعدل ؟! قال له :

(( وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ...))

[مسلم عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ دخل عليه رجل غريب ، فلما رآه اضطرب ، واختلجت أعضاؤه ، ومن صفات النبي عليه الصلاة والسلام أنه من رآه بديهةً هابه ، ومن عامله أحبه ، على المعاملة ، وبالاحتكاك ، والقرب تزداد حباً له ، أما إذا رأيته بديهةً تهابه ، لشدة ما ألبسه الله من الوقار.
 دخل عليه رجل غريب فاختلجت أضلاعه ، واضطرب من شدة هيبته ، ماذا فعل النبي ؟ أعجبه ذلك ؟ رضي أن يخضع له ؟ أن ترتعد مفاصله خوفاً منه ؟ استدناه ، قال : اقترب مني يا فلان وربت بيده على كتفه في حنان ، وفرط تواضع ، وقال :

((هون عليك فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة))

[ ابن ماجه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ]

 ما رضي صلى الله عليه وسلم أن يستعلي عليه ، ما شعر بدغدغة في مشاعره حينما يخضع له الناس ، ويعظمونه ، قال :

((هون عليك فإني ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة))

[ ابن ماجه عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ]

أصل عدالة النبي الكربم التواضع و الكمال :

 الحقيقة أيها الأخوة أن عدل النبي ، وتواضع النبي ، ينطلقان من سِمة عميقة في شخصيته ، هذه السمة هي مع أنه سيد الخلق وحبيب الحق ، مع أنه تفوق على كل الخلق ، في العلم والخلق ، والفهم والإشراق ، وضع نفسه مع كل الخلق جنباً إلى جنب ، أصل العدالة ألا تشعر بالتميز ، أصل العدالة ألا تشعر بالخصوصية ، أصل العدالة أن يرفعك الناس لتواضعك ، ولكمالك ، لا أن ترفع نفسك فوقهم فيضعوك ، إن تواضعت لهم يرفعوك ، أما إن علوت عليهم فيخفضوك .

انظر إلى الأكحال وهي حجارة  لانت فصار مقرها في الأعين
***

 كان عليه الصلاة والسلام يجلس مع أصحابه وكأنه واحد منهم ، فلما دخل عليه أعرابي قال : أيكم محمد ؟ ما عرفه ، فقال عليه الصلاة والسلام في ابتسام : قد أصبت ، أنا محمد .
 دخل عليه أعرابي آخر قال : أيكم محمد ؟ فقال بعض أصحابه القريب منه : ذاك الوضيء ، انظر إليه هو محمد ، معنى ذلك أنه سوَّى نفسه مع أصحابه ، منطلقاً من عدم التميز .
 أوضح شيء في هذا قصة تعرفونها جميعاً وأقولها كثيراً ، لما كان مع أصحابه ، وأرادوا أن يعالجوا شاةً ، قال بعضهم : عليّ ذبحها ، وقال الآخر : وعليّ سلخها ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعليّ جمع الحطب ، فلما قالوا : نكفيك ذلك ، قال : أعلم أنكم تكفونني ، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه.
 هذا من عدالته ، العدل عند محمد صلى الله عليه وسلم ألا يرى لنفسه ميزة يمتاز بها عمن سواه ، ألا يرى لنفسه مكانة تعلو على بقية الناس ، مع أنه سيد الخلق.
 القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى يوم أعطى أمراً لأصحابه في معركة بدر ، أن يركب كل ثلاثة على راحلة - يتناوبون راحلة - وقال : أنا وعلي وأبو لبابة على راحلة ، فركب عليه الصلاة والسلام ، ولما جاء دوره في المسير ، توسل صاحباه إليه أن يبقى راكباً ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنتما بأقوى مني على السير ، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر .
 تنطلق عدالته صلى الله عليه وسلم من شعوره أنه بين الجميع ، هو فوق الجميع ، لكنه وضع نفسه بين الجميع ، هو فوقهم علماً ، وخلقاً ، وقرباً ، وإشراقاً ، وسعادةً ، وفهماً ، وعلواً ، ومكانة عند الله ، ولكنه وضع نفسه بين أصحابه ، لذلك دع الناس يرفعوك ، لا ترفع نفسك عليهم من هنا انطلقت عدالة النبي عليه الصلاة والسلام .

 

انتصار النبي الكريم على بشريته :

 أيها الأخوة الكرام ؛ الله جل جلاله أمره أن يقول لأصحابه :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

[سورة الكهف :110]

 أي أنه تجري عليه كل خصائص البشر ، ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، هو بشر ولكنه انتصر على بشريته ، انتصر على نوازعه.
 أيها الأخوة الكرام ؛ لا أدل على عدالته والعدالة في هذه القصص تلتقي مع تواضعه لأنهما ينبعان من نظرة واحدة ، هو أنه من الناس لا فوق الناس ، هو أنه ينبغي أن يصيبه ما يصيب الناس ، لا أن يختص بشيء لا يحوزه الناس.
 قال أصحابه قبيل معركة أحد : يا رسول الله إن العدو في طريقه إلينا يريد أن يقضي علينا ؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام : إني أرى ألا نخرج إليه ، أصحابه رأوا أن يخرجوا إليه ويقاتلوه ، ماذا فعل النبي ؟.. استمهلهم بضع دقائق ، ودخل إلى بيته وعاد وقد ارتدى ثياب المعركة ، احتراماً لمشيئتهم ، ولم يتراجع ، أراد أن ينفذ مشيئة أصحابه ويخرج من المدينة ليلقى قريشاً خارج المدينة .
 أعرابي آخر ابتدره بهذا السؤال ، قال : يا رسول الله ، هذا المال الذي بين يديك هل هو مالك أم مال الله ؟.. سيدنا عمر لم يحتمل هذا القول ، رأى في هذا القول تطاولاً على رسول الله ، رأى في هذا القول انتقاصاً بحقه صلى الله عليه وسلم ، ماذا فعل ؟ أراد أن يجهز عليه ، فقال : دعه يا عمر ، إن لصاحب الحق مقالاً- هذه كلمة النبي - دعه إن لصاحب الحق مقالاً.. وأجاب الأعرابي وقال : إنه مال الله.
 حينما نزلت براءة السيدة عائشة من حديث الإفك ، قال لها أبوها في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام : قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشكريه ، فقالت السيدة عائشة: والله لا أقوم إلا لله ، ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام يا من كانت الرحمة مهجته والعدل شريعته ؟ تبسم عليه الصلاة والسلام وقال لأبيها : لقد عرفت الحق لأهله.
 أيها الأخوة الكرام ؛ أرسل خادماً في حاجة ، فغاب نصف نهار ، غضب النبي ، فلما عاد الخادم ، كان بيده سواك ، هذا السواك لو ضربنا به رضيعاً مئة ضربة لما آلمه ، فقال عليه الصلاة والسلام :

((والله لولا خشية القصاص لأوجعتك بهذا السواك))

[ورد في الأثر]

 لخادمه الذي غاب نصف نهار وهو يهمل قضاء حاجة رسول الله.

 

إلزام الله عز وجل ذاته بالعدل :

 أيها الأخوة الكرام ؛ كيف لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم عادلاً وهو قدوة لنا؟ هو أسوة وقدوة ، هو الذي حقق الكمال البشري الذي أراده الله للبشر ، أراد الله للبشر الكمال ، فحقق هذا الإنسان الكريم الكمال البشري الذي أراده الله للبشر ، كيف لا والله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض في عليائه ، قال :

(( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ))

[ مسلم عن أبي ذر]

 الله جلّ جلاله ألزم ذاته بالعدل :

﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾

[ سورة غافر : 17]

﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء : 77]

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء :124]

﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء :47]

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة :7-8 ]

 الله في الحديث القدسي يقول :

(( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ))

[ مسلم عن أبي ذر]

أقوال النبي الصحيحة في التحذير من الظلم :

 استمعوا أيها الأخوة إلى أقوال النبي الصحيحة في التحذير من الظلم ، والله لو أن أحدنا استوعب هذه الأقوال ، وعرف أبعادها ، وعرف النتائج الخطيرة التي تترتب على من يحيد عنها لارتعدت مفاصله ، يقول عليه الصلاة السلام :

((عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ))

[ مسلم عن جابر بن عبد الله ]

 أي اتقوا أن تظلموا ، وإياكم أن تظلموا ، ظلمات بعضها فوق بعض..

((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))

[ متفق عليه عن ابن عباس]

((يرفعها الله فوق الغمام ، وتفتح لها أبواب السماء ، يقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

((اتقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة))

[السيوطي عن ابن عمر]

يوم القيامة يوم القصاص و الجزاء :

 أيها الأخوة الكرام ؛ لو عرفت عدالة الله ، وعرفت أن الظالم لن يتفلت من قبضة الله ، ولن يتفلت من عدالته ، ولن يتفلت من عقاب الله ، لعدَّ الإنسان إلى المليون قبل أن يظلم درهماً واحداً ، من هنا قال بعض العارفين بالله : ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ، والدانق سدس الدرهم أي ما يساوي ربع ليرة سورية ، إن الظلم يأكل الفضائل ، ويرعى الحسنات كما ترعى النار الهشيم ، يوم القيامة هو عند المسلمين ، وعند رب العالمين ، يوم الجزاء ، يوم الحساب ، يوم الدينونة ، النبي عليه الصلاة والسلام أناط بهذا اليوم مصير الظالمين.
 أيها الأخوة الكرام ؛ يوم القيامة يوم القصاص ، يوم الجزاء ، يوم الدينونة ، ومع ذلك فلكل إنسان يومه الذي يُحاسب فيه ، ولكل إنسان قيامته التي تقوم ليحاسب على أعماله ، وقد تكون قيامة الإنسان في الدنيا قبل قيامة الآخرة.
 يقول عليه الصلاة والسلام :

(( اتقوا الظلم ما استطعتم ، فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يظن أنها ستنجيه ، فما يزال عبدٌ يقول : يا ربي ظلمني عبدك فلان مظلمةً فيقول الله : خذ من حسناته، وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة واحدة ))

[الطبراني عن ابن مسعود]

 أي الحسنات تأكلها المظالم ، فلذلك :

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام : 81-82]

 المعنى الضيق ليس شرطاً أن تكون قاضياً حتى تكون ظالماً ، لا.. قد تظلم أولادك، قد تظلم بناتك ، قد تظلم من حولك ، قد تظلم جيرانك ، قد تظلم في معاملاتك ، الظلم ظلمات يوم القيامة .

((عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ قَالَ ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾))

[متفق عليه عن أبي موسى]

 أي الذي يعتدي على أموال الناس ، على أعراضهم ، يظلمهم ، هذا مربوط بحبل متين ، إلا أن إرخاء الحبل يوهمه أنه ليس مربوطاً بحبل ما لكنه في أية لحظة يُشد الحبل ، فإذا هو في قبضة الله يتحمل جزاء عمله .
 النبي عليه الصلاة والسلام وهو قمة البشر ، قمة البشر في العدالة ، وقمة البشر في الخُلق والمسامحة ، مع كل هذا جمع الناس قبل وفاته وقال : " أيها الناس من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه ، ومن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتد منه ، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليشتمه ، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من شأني ، ولا من طبيعتي" .

 

نصيحة النبي للمؤمنين في حياته و بعد مماته :

 ينصح النبي المؤمنين في حياته ومن بعده :

((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْه))

[البخاري عن أبي هريرة]

 العرض أي اغتابه ، انتقص منه ظلماً ، حدث عنه حديثاً غير صحيح من دون تحقق ، أراد أن يشوه سمعته ، أراد أن ينتقص من قدره بلا مبرر حسداً وبغياً ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْه ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 حديث المفلس تعرفونه جميعاً ، حينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه :

(( هَلْ تَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، قَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 هذا هو المفلس .

 

تقديم الاستقامة على العمل الصالح :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أي لا تستطيع أن تعمل صالحاً قبل أن تحكم استقامتك ، تصوروا وعاء غير محكم في قعره ، أيمكن أن تضع فيه شراباً غالي الثمن ؟ زيتاً غالياً ؟ قبل أن تضع الزيت الغالي في هذا الوعاء أحكم قعره ، فالاستقامة مقدمة على العمل الصالح ، لا ترقى بالعمل الصالح إلا إذا بُني على استقامة ؛ لأن التحلل من طاعة الله عز وجل يذهب أثر العمل الصالح ، لذلك من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :

((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، فَقَالَ : رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟.. قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ ))

[البخاري عن أنس]

 لأول وهلة يعجب الإنسان ، أيأمرنا البني أن ننصر أخانا إذا كان ظالماً ؟ لمَ لم يقل قاوم أخاك ظالماً وانصره مظلوماً ؟ لم يقل هذا ، قال :

((أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ ؟.. قَالَ تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ))

 أي مقاومة الظلم بناء وليس هدماً ، إذا قاومت أخاك وهو يظلم الناس إن هذه المقاومة بناء للمجتمع وليست هدماً له ، هذا هو نصره ، لذلك العدل أساس الحياة ، الإنسان إذا ظلم بين أولاده وقع في مطب خطير :

((عن النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا قَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا قَالَ لَا قَالَ فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))

[متفق عليه عن النعمان بن بشير]

العدل أساس الحياة :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قيمة العدل لا تتجزأ ، العدل بين الإولاد ، العدل بين الزوجات إذا تعددن ، العدل مع الناس ، العدل مع الجيران ، أن تنصف نفسك من الناس ، أن تنصفهم من نفسك ، قيم العدل وحدة متكاملة لا تتجزأ ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول ، وهو من أدق الأحاديث الشريفة :

(( لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ))

[الترمذي عن البراء بن عازب]

 زوال الدنيا ، فيها خمسة آلاف مليون إنسان ، الأرض بأكلمها زوالها أهون على الله من دم سُفك بغير حق :

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾

[ سورة التكوير : 8-9]

 من علامات آخر الزمان :

(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم بغير حق ، هذا ولاء من النبي عظيم للحياة، وتقديس لها ، وتقدير لحرمة الإنسان وحقه في الحياة ، إن هذا الحديث سبق حقوق الإنسان بألف وأربعمئة عام : " لزوال الدنيا أهون على الله من سفك دم بغير حق. "
 يبدو أنه في عهد النبي عُثر على جثة مقتولة لم يُعرف قاتلها ، فجمع الناس ، وألقى فيها كلمة وقال : " يقتل قتيل وأنا بينكم ولا نعلم من قتله ؟! والله لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله عز وجل ، ولكبهم على وجوههم في النار" ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام ، قال :

((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ حَدَّثَنَا ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

((هذا الذي قال يا رسول الله ائذن لي بالزنا ؟ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا : مَهْ مَهْ فَقَالَ ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ : فَجَلَسَ قَالَ : أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ قَالَ ؟ أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ ، قَالَ : أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ ، قَالَ : وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْء))

[ أحمد عن أبي أمامة ]

 هذا عدل ، أنت تقيم القيامة إذا اعتدي على عرض ابنتك ، فلماذا تعتدي على أعراض الآخرين ؟ عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، هذه القاعدة والله لو طبقناها لأغلقت المحاكم أبوابها ، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، الحديث الشريف الذي يقصم الظهر :

(( إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَــا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))

[ متفق عليه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

 ألا يفرح الناس اليوم إذا تخاصموا أمام قاض في قصر العدل وحكم القاضي لهم بطريقة أو بأخرى ؟
 أيها الأخوة ، والله لو تخاصم رجلان واحتكما إلى النبي سيد الخلق ، وحبيب الحق، وكان أحدهما ألحن بالحجة من الآخر ، والنبي بشر ، فحكم لمن كانت له الحجة في الظاهر ولم يكن محقاً ، لا ينجو من عذاب الله ، لا ينجيك أحد من عدل الله..

(( فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَــا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّار))

[ متفق عليه عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح :

(( يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))

[الطبراني عن عبد الله بن عباس ]

((..أطب مطعمك تستجب دعوتك ، فو الذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه..))

[لطبراني فى الصغير عن ابن عباس]

 أي اشترى هذه اللقمة بمال كسبه حراماً ، كذباً ، احتيالاً ، غشاً ، تدليساً ، إيهاماً ، احتكاراً ، استغلالاً ، سيطرةً ، اغتصاباً ، سرقةً ، القرش الذي تكسبه حراماً ، وتشتري به طعاماً، هذا الطعام طعام حرام.

((.. إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عمل أربعين يوماً..))

[لطبراني فى الصغير عن ابن عباس]

 لقمة واحدة ، إذا قذفها في جوفه من كسب حرام ، لا يُتقبل منه أربعين يوماً..

((.. وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به ))

[لطبراني فى الصغير عن ابن عباس]

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾، وَقَالَ : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 يا أيها الأخوة الكرام ؛ محور الخطبة اليوم عدل النبي عليه الصلاة والسلام ، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، إقامة العدل مقدم على العمل الصالح ، إن الله لا يقبل عملاً صالحاً بمال حرام ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

((.... جامع المال من غير حله ، إنه إن تصدق به لم يقبل منه وما بقي كان زاده إلى النار ))

[ كنز العمال عن ابن عباس]

 لئن يأخذ أحدكم تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه طعاماً حراماً .

 

الحسد من الظلم :

 أيها الأخوة الكرام :

((كلمة قالتها السيدة عائشة – كلمة- قالت له : ما يعجبك في صفية ضرتها ، إنها قصيرة ، قال : يا عائشة ، لقد قلت كلاماً لو مُزج بمياه البحر لأفسده.. ))

[الترمذي عن عائشة رضي اللّه عنها ]

 ما قالت إلا إنها قصيرة ..
 أيها الأخوة : الحسد من الظلم ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أَوْ قَالَ الْعُشْب))

[أبو داود عن أبي هريرة]

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

 كلمة.. هناك ظلم عملي ، هناك ظلم قولي ، وهناك ظلم شعوري.

(( وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ.. ))

[ النسائي عن أبي هريرة ]

 الحسد شعور بالظلم داخلي.. ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك..))

[ الترمذي عن واثلة بن الأسقع]

 مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ .
 أيها الأخوة الكرام : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني..

* * *

الخطبة الثانية :

 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

جوهر الاحتفال بذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أذكركم بأننا إذا احتفلنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن نذكر أخلاقه ، وشمائله ، وأمره ونهيه ، أن نذكر هذا لا في شهر المولد بل في كل شهور العام ، ولا في عام واحد ، بل في كل الأعوام ، هذا جوهر احتفالنا بعيد مولد النبي عليه الصلاة والسلام.
 أيها الأخوة : إن أخطر رجل في حياتنا هو رسول الله ، فهو قدوتنا ، وأسوتنا ، هو الذي ينبغي أن يأمرنا ، وأن نأخذ أمره بالتطبيق ، هو الذي ينهانا ، ينبغي أن ننتهي عما نهانا عنه ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :

(( بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الجبار المتعال ، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى ، بئس العبد عبد طغى وبغى ونيس المبتدى والمنتهى ))

[ الترمذي عن أسماء بنت عميس الخثعمية]

 ما دمنا في الحديث عن العدل والظلم ، أختم هذه الخطبة بتلك الحقيقة هي أن أشدّ أنواع الظلم أن تظلم نفسك ، أن تحرمها من معرفة الله ، أن تبعدها عن طاعة الله ، أن تنسى المهمة التي من أجلها أتيت ، أن تنسى الرسالة التي من أجلها أرسلت إلى الدنيا ، أن تنسى واجبك في الدنيا ، هذا هو أشدّ أنواع الظلم.. الإنسان قد يخسر ماله ، أما الظالم لنفسه فيخسر نفسه يوم القيامة ، قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾

[سورة الزمر : 15]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك. اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً ، وسائر بلاد المسلمين ، اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب ، اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

 

تحميل النص

إخفاء الصور