وضع داكن
19-04-2024
Logo
موضوعات مختلفة في العقيدة - الدرس : 01 - أصول الدين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

كليات الدين:

1 ـ أولى كليات الدين المعرفة :

أيها الأخوة الأكارم، من السهل جداً أن تدخل في تفاصيل الدين، والدين باب واسع جداً من أبواب المعرفة، ولكن من حين إلى آخر أرى من المناسب أن أتحدث في الكليات.
الجزئيات أن تصل إلى دقائق الآيات، إلى دقائق السنّة، إلى دقائق السيرة، لئلا ندخل في التفاصيل، ونغفل أحياناً عن الأهداف الكبرى، والكليات العظمى، لذلك أجد من المناسب من حين إلى آخر أن نعود إلى الكليات.
لو دخلت إلى مكتبة إسلامية لوجدت عشرات بل مئات الآلاف من الكتب، إن شئت العقائد وأصولها، والقرآن وعلومه، والحديث ومصطلحه، والسيرة وأعلام الإسلام، والفقه ومذاهبه، قد تجد عشرات الآلاف من الكتب بل مئات الآلاف من الكتب في كل باب من أبواب الدين، ولا يتسع عمرٌ مهما طال لقراءة ما أُلِّف في أحد أبواب الدين.
إذاً نحن نحتاج أحياناً لا إلى الاستقصاء، لا إلى التفاصيل، لا إلى الجزئيات، بل نحتاج من حين إلى آخر أن نبقى في الكليات، في الأصول، في أصول الدين، في كليات الدين، في الخطوط العريضة، في الأهداف الكبرى، في الوسائل الناجحة...
فأردت في هذا الدرس أن يكون حول كليات الدين، فالدين يقوم على دعائم، وأُولى هذه الدعائم دعامة المعرفة، فدينٌ مِن دون طلب علم هذا مستحيل، فأولى دعامات الدين المعرفة، لأنه ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلّمه، لأنك إذا تدينت من دون معرفة فما الذي يحصل؟ تطبـق عشرات العبادات، وقد تخرق الاستقامة، لأنك لا تعلم، فيكون هذا الخرق حجاباً سميكاً بينك وبين الله، كل هذه العبادات عندئذٍ غير مجدية.
لن تستطيع إحكام الاتصال بالله عز وجل إلا إذا وقفت عند حدوده، ولن تقف عند حدوده إلا إذا عرفت حدوده، ولن تعرف حدوده إلا إذا عرفته قبل أن تعرف حدوده.

أساس الدين هذه العلاقة الوثقى الطيبة بين الإنسان وبين الله :

هناك في الإسلام جانب معرفي، وجانب علمي، وجانب عقَدي. الناس كما ألاحظ فيهم الكثير ممَّن يعنيهم من الدين الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة فقط، هؤلاء لو كانوا في عصور غير هذه العصور ربما يَصِلون إلى الجنة، لكن في عصر استعرت فيه الفتن واتَّقدت، واشرأبَّتْ بأعناقها، وكثرت المزالق، والشبهات، والترهات، واستشرت الأضاليل، والعقائد الزائغة، والباطل المزيف، والانحراف المروَّج، والتفلت من مبادئ الدين تحت غطاءٍ من الحرية، والعصرية، والتقدم، حتى ذرتْ بقرنيْها شبهات كثيرة وفتن مظلمة.
أؤكِّد لكم، وأنا أعني ما أقول، إنّه لا يستطيع أن ينجو الإنسان الآن في عصور الانحرافات الفكرية والسلوكية إلا بعلم صحيح، بعقيدة راسخة، بعلم متين، وبأدلة قاطعة.
إذاً يا أيها الأخوة الأكارم، حينما تنصرفون إلى الدنيا، حينما تتحركون، حينما تنطلقون إلى أعمالكم، فإذا شعرتم أنكم في غنًى عن طلب العلم، هذا النقص في العلم لا بدّ أنْ يُترجَم إلى انحرافٍ في السلوك، والانحراف في السلوك لا بدّ أن ينتهي بصاحبه إلى حجاب بينه وبين الله، وحينما يكون الحجاب بينك وبين الله فاعلم علم اليقين أنك فقدتَ كل ثمار الدين.
أساس الدين هذه العلاقة الوثقى الطيبة بينك وبين الله، وحينما تفقد هذه العلاقة بانحرافٍ أساسه الجهل فقد خسرتَ كل ثمرات الدين. وبالاتصال لن تشعرَ بخوف، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ﴾

[سورة المعارج: 19]

هكذا خُلِق، هذا ضعف خَلْقي، هكذا أراد الله عز وجل أن يكون هلوعاً قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

[سورة المعارج: 19-22]

الجانب المعرفي يأتي بالمدارسة و التأمل و النظر :

كل نقاط ضعف البشر الخَلْقي التي لا يدَ لك فيها، كلُّ نقاط الضعف هذه تتلافاها بالاتصال بالله عز وجل، فلذلك مَن لم تحدثه نفسه بحضور مجلس علم ليزداد معرفة بالله أو بكتابه، ودرس أسماء الله الحسنى الذي هو معرفة بالله، ودرس التفسير لينمِّيَ معرفة بكتاب الله، ودرس الحديث الشريف ليعرِّفك برسول الله، ودرس السيرة النبوية ليكون معرفة بالتطبيقات العملية، ودرس الفقه معرفة بالأحكام الشرعية التي ينبغي أن تدور مع حياتك، فما لم تخصص من وقتك وقتاً ثميناً لطلب العلم، ومتابعة مجالس العلم، لتزداد ثقافتك الدينية، وقناعاتك الفكرية، وترسخ عقيدتك الصحيحة، وأن تزداد وتغتني عندئذ ترى أن النقص في العلم سيسبب لك خللاً في السلوك، وهذا هو الجانب المعرفي.
والحقيقة أنّ بعض الجانب المعرفي يأتيك بالمدارسة، وبعضاً منه يأتيك بالتأمل، وبعضاً منه يأتيك بالنظر، قال تعالى:

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ والْأَرض وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة يونس: 101]

جانب كبير من جوانب المعرفة يمكن أن تحصل عليه من وقوفك عند دقائق خلق السماوات والأرض، وأقرب شيء إليك جسمك الذي بين جوانحك، أقرب شيء إليك طعامك الذي تأكله، أقرب شيء إليك مَن حولك من أهل وأولاد، أقرب شيء إليك مظاهر الطبيعة التي أمامك، هذه كلها آيات دالة على عظمة الله عز وجل، فأنا أتمنى أن يفكر الإنسان كل يومٍ في آيات الله الدالة على عظمته، أو أن يشغل نفسه كلما سمحت له فرصة بأن يقف عند دقائق خلق الله جل وعلا.
ألا تتأثر إذا سمعت أن لديك عشرين مليون خلية عصبية شمية؟ كل خلية فيها سبعة أهداب مغموسة بمادة دهنية مذيبة، وأن أي رائحة تصل إلى أنفك تتفاعل مع هذه الأهداب بل مع المادة الدهنية التي على هذه الأهداب تفاعلاً كيماوياً يتشكل منه شكل هندسي يُنقل على شكل إشارة إلى مركز الشم في المخ، وفي مركز الشم في المخ عشرة آلاف بند من بنود المشمومات، وأن هذه الإشارة تشعرك برائحة هذا الشيء، ثم تنتقل إلى معرفة رائحة هذا الشيء، وأن المادة إذا كانت بمقدار نصف بالمليون من الملي غرام بالسنتمتر مكعب فإنها كافية لكي تحسِّسك برائحة هذا الشيء. ألا تشعر أنك وقفت وجهاً لوجه أمام عظمة الله عز وجل؟ ألا تشعر أنك عرفت دقة الصنع؟

 

الله عز وجل فرض صلاة الجمعة تأكيداً للجانب المعرفي :

إذاً أيها الأخوة، الجانب المعرفي أحد أركان الدين، لذلك فإنّ الله عز وجل فرض على المسلمين، وماذا فرض؟ تأكيداً للجانب المعرفي، تأكيداً لأحد أركان الدين الكبرى، فرض على المسلمين صلاة الجمعة، ما طبيعة صلاة الجمعة؟ طبيعتها تعليمية، عبادة تعليمية فيها خطبة، تستمع إلى الخطيب يتلو على الناس آيات القرآن، ويفسر هذه الآيات، ويتلو عليهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويفسر هذه السنة، ويتلو عليهم مواقف الصحابة، ويفسر هذه المواقف، إذاً لأن جانب المعرفة جانب أساسي في الدين فُرِضَتْ صلاة الجمعة، تلك الفريضة التعليمية. قال عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ))

[ موطأ مالك عن صفوان بن سليم]

ثم تلا قوله تعالى:

﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[سورة المطففين: 14]

أيها الأخوة، أحد أركان الدين أن تقتطع من وقتك الثمين، وحقّاً إنّ وقت الناس ثمينٌ، مهما كان الوقت مليئاً بالمشاغل، والمواعيد، والإنجازات، والخطط، واللقاءات، والأعمال، وعقد الصفقات، وما إلى ذلك مِن مشاغل، لكن ما قيمة هذه الدنيا لو ربحت فيها كل شيء، وخسرت نفسك؟ ما قيمة المال إذا جاء ملك الموت وقد تركتَ كل شيء في ثانية واحدة؟ فالتأمل في الكون باب، والنظر في الحوادث باب، وقراءة القرآن وتدبره، وقراءة السنة وفهمها باب ثالث، فهنالك نظر، وهناك تفكر، وهناك مدارسة لا بدّ منها.
وأنا أذكر دائماً أنّ الإنسان الكامل هو الذي يجمع بين كل مصادر المعرفة، فيتأمل تارة، وينظر تارة، ويفكر تارة، ويدرس تارة، فسماعك مدارسة، وتأمُّلك الصباحي في آيات الكون تفكر وعلم، ونظرك إلى ما يجري في الكون من حوادث دالة على عدالة الله، وعلى حكمته، وعلى رحمته، وعلى قيوميَّته فهذا من طلب العلم.

 

الله سبحانه وتعالى اعتمد قيمة العلم كقيمة وحيدة مرجِّحة بين البشر :

اسمحوا لي أيها الأخوة، أن أقول لكم: والله الذي لا إله إلا هو لو بَلَغْتَ أعلى مراتب العلم في الأرض ولم يكن لك عمل صالحٌ من الدين يدعِّم هذا العلم فلا قيمة لعِلْمك عند الله إطلاقاً، المشكلة أن العلم وسيلة، وقد ظنّه الناس غاية، ما لم تتأكد أنّ كل علم تتعلمه إنما هو وسيلة كي ينقلك إلى التطبيق، فهذا العلم وبال على صاحبه، قال الحسن البصري:

((الْعِلْمُ عِلْمَانِ؛ فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ))

[الدارمي عن الحسن]

هذا الباب باب طلب العلم، باب الاستزادة من العلم يؤكده قوله تعالى:

﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾

[سورة طه: 114]

يؤكده أن الله سبحانه وتعالى اعتمد قيمة العلم كقيمة وحيدة مرجِّحة بين البشر، قال تعالى:

﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الزمر: 9]

وقال تعالى:

﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾

[سورة يوسف: 76]

إذاً إذَا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطِك شيئاً.
هل تسمح لنفسك أن تقول: أنا مشغول، مشغول بماذا؟ لماذا أنت في الدنيا؟ أي شيء يشغلك عن طلب العلم؟ سوف تعدُّ تقصيرك غبناً كبيراً يوماً ما.

 

لا بدّ من وقت يتعرف فيه الإنسان إلى الله عز وجل :

ذهب طالبٌ إلى دولة أجنبية لينال دكتوراه، فعليه أن يعمل، وأن يدرس، أهله فقراء، وهو يحتاج فَرَضاً إلى ألف فرنك فرنسي في الشهرِ، وجد عملاً لساعتين، فهاتان الساعتان تحققان له ألف فرنك فرنسي التي يحتاجها.
وعنده دراسة، لو نال الدكتوراه لعاد إلى بلده بأعلى المراتب، وشغَل أعلى منصب، بأكبر دخل، كل آماله معقودة على هذه الشهادة، عثر على عمل يحقق له ألفي فرنك في الشهر، ولكن عليه أن يعمل أربع ساعات، يقول: لا بأس سأشتغل وأوفِّق بين الدراسة والعمل، ثم عثر على عمل يحقق له ثلاثة آلاف خلال ست ساعات، وعرَض عليه أربعة آلاف بثماني ساعات، خمسة آلاف بتسع ساعات عمل، ثم وجد عملاً يحقق له مئة ألف فرنك، لكن لمدة أربع وعشرين ساعة، فترك الدراسة من أجله، فهل يقول لك: أنا هيَّأتُ عملاً عظيماً؟ لا، فإقامتك هنا محدودة، وبقاؤك في هذا البلد منوط بجرة قلم، فإذا عُدتَ إلى بلدك بلا شهادة كنت في خزي شديد.
اسمعوا القاعدة: العمل الذي يستغرق وقتك كله خسارة محقَّقة مهما كان الدخل كبيراً، لأنك عندئذ خرجت عن هدفك الأساسي.
أيها الأخوة الأكارم، أنا أعلم أن الحياة صعبة، والدخل محدود، والمطالب كثيرة، والوقت ضيق، وأعرف أن أخوة كثيرين مضطرون إلى العمل المستمر، ولكن أن أغض الطرف عن إنسان عمله استغرق وقته كله، ثم يقال: هو ناجح أو رابح، فلا والله، لا بد من وقت تتعرف فيه إلى الله.
مرة خطر في بالي مثلٌ، طبيب درس ثلاثين سنة، وجاء إلى بلده، وفتح عيادة وكتب: الدوام ما بين الساعة الخامسة والسابعة بعد الظهر، وبينما هو في العيادة جاءه مريض بعد الساعة الخامسة، فاستأذن، قال له: واللهِ ما عندي وقت، فلماذا أنت هنا إذاً؟ لماذا درست؟ إن لم تتفرّغ لأكبر عمل في حياتك فلأيِّ شيء تتفرَّغ؟ ادَّعى أنه لا وقت له ليتعرّف على الله عز وجل، نقول له: لكن ما الذي يشغلك؟ قال تعالى:

﴿ اًمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[سورة النمل: 84]

ماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وخلاصة الكلام أنْ تعلم أنّه لا بد من طلب العلم، هذا شيء لا بدّ منه، لأنه لو لم تكن كذلك لظهر الانحراف والخلل في حياتك، مثلاً في الحج سمعنا باجتماع عُقِد قبل أيام أن أكثر من عشرين إلى ثلاثين حاجّاً سوريّاً لم يطوفوا طواف الإفاضة العام الماضي، وهو ركن أساسي، فلمّا قيل لهم: لماذا تصرَّفتم كذلك؟ قالوا: لا نعرف، ولم ينبِّهْنا أحَدٌ، وغادَروا مكة دون أنْ يطوفوا طواف الإفاضة، فما الذي أبطل حجهم؟ جهلُهم. أنا أقول لأيٍّ منكم: قد تكون سليمَ النية، وتأكل الربا، وأنت لا تدري، ويمكن أنْ تتجاوز الحدود لعلة الجهل فقط، والقانون لا يحمي الجاهل، كما أن الدين لا يعذر الجاهل.
أنا أتمنى من الأخوة الكرام أن يعلموا أنَّ موضوع طلبَ العلم، وحضور مجالس العلم لا يتوقّف على ما لديكم من فراغٍ، الفصل شتاء، وضاق صدرنا، تعال نحضر مجلس علم، وفي الصيف الناس سارحون في المصايف، فينسَوْن هذا المجلسَ، هذا منهاج جامعي، فيجب أن تجعل أساس الدرس وحياتك مقولبة مع الدرس، ليس الأساس حياتك والدرس حسب فراغك، بل لا بد من الحرص والمتابعة والمثابرة.

 

2 ـ البند الثاني في كليات الدين الاستقامة والعمل الصالح :

ثم ماذا تقترحون أنْ يكون البند الثاني في كليات الدين ولدينا كليات كبرى كثيرة.
العلم هو البند الأول، وطلب العلم إما بالتفكر في الكون، أو بالنظر في الحوادث، أو بالمدارسة، والمدارسة قراءة واستماع، فأنت الآن تدرس، وتستمع إلى درس، وقد تقرأ، وقد تنظر، وقد تتفكر.
تقترحون كلية كبرى من كليات الدين: العمل، كلمة لكنّ دلالتها كبيرة جداً، تقوم على بندين أساسيين، بند سلبي، وبند إيجابي، بند امتناع، وبند إيجاب: فعل.
نحن الآن أمام الاستقامة والعمل الصالح، الاستقامة أيها الأخوة انضباط، غضّ البصر استقامة، ترك الغيبة والنميمة استقامة، ترك لقمةٍ من حرام استقامة، لكن العمل الصالح بذل ـ دققوا في هذا المثل ـ لو تصّورنا أن الطّريق إلى الله عز وجل طريق مادي، ثم تصوّر أنّك تركب مركبة، وعلى هذا الطريق عقبات، وكل عقبة يبلغ ارتفاعها مترين، وعرضها مترين، وهي من الإسمنت المسلّح، فهل بإمكانك أن تسير على هذا الطريق؟ لا.
كل معصية أيها الأخوة عقبة على طريقك إلى الله، فالاستقامة تعني أن تزيل هذه العقبات، كل إنسان استقام على أمر الله نقول له ما فعل شيئاً لكنّه مهد الطريق إلى الله، أزال كل العقبات، أزال كل الموانع، ألغى كل الحواجز، المعاصي حواجز وموانع وعقبات وحفر وما إلى ذلك. أنت حينما تستقيم على أمر الله فقد وضعتَ قدَمك على الطريق، والاستقامة طابعها سلبي، فما زدتَ عن أن مهَّدتَ الطريق إلى الله عندما تستقيم.
ماذا بقي؟ الحركة على هذا الطريق، طريق إلى الله، وعلى هذا الطريق عقبات إنْ أزلتها صار سالكاً، بقي عليك أن تسير، أن تتحرك، الحركة هي العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر: 10]

العمل الصالح لا يثبت إلا على أرضية من الاستقامة :

اسمع القرآن الكريم، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾

[ سورة فصلّت: 30]

وقال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[ سورة فصلّت: 30]

لا بد من استقامة، ولا بدّ من عمل صالح، لكن القرآن الكريم قد يعَبِّر عن الاستقامة والعمل الصالح بكلمة:

﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة الشورى: 22]

والتفسير أن العمل الصالح لا يثبت إلا على أرضية من الاستقامة، كيف؟ فحينما يكون لدى الإنسان قلمُ حبرٍ، والورق عليه دهن، وكتب لا يعلّم، ولا تظهر الكتابة، لأنّ الحِبر لا يثبت إلا على ورق نظيف، كذلك لن تستطيع أن تشعر أن هذا العمل قَبِلَه اللّه عز وجل إلا على أساس من الاستقامةٍ على أمره، وبشكلٍ آخر لا تظنَّنّ أن العمل الصالح يُعِينك على الاتّصال باللّه عز وجل إذا كان مبنياً على عدم استقامة.

 

ليس في الاستقامة حلّ وسط فهي قطعية أما العمل الصالح فهو نسبي :

الاستقامة أساس، ومِن باب التمثيل، والأمثلة توضِّح، فمثلاً لديك مستودع، والمستودع هو الاستقامة، املأْه بسائل ثمينٍ، هذا عمل صالح، أما مستودع بدون قعر، وصُبّ هذا السائلُ الزئبقي الثمين فهذا عمل أحمق، فقد ذهب هدراً، أما إذا كان المستودع محكماً فلو ألقيت فيه لتراً واحداً أو لترين، أو أكثر فهذا القدْر محفوظ بتمامه. فلذلك دعوتنا استقامة تامة وعمل صالح بقدر المستطاع، قال تعالى:

﴿ لاً يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاً وُسْعَهَا لَهَا ﴾

[ سورة البقرة: 286 ]

لكن الاستقامة لا بد أنْ تكون تامة، فمن رضي بانحراف طفيف فهذا الانحراف كما تعلمون لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، الصغيرة تشبه مَن يركب مركبته، ويسير بها على طريق طويل مستقيم، على جانبه وادٍ سحيق، انحرف المقود سنتيمتراً واحداً، لو ثبت على هذا الانحراف الطفيف لألقاه في الوادي، لكن لماذا سُمّيتْ صغيرة؟ لأن السنتيمتر تصحيحه سهل جداً، يحتاج إلى ضغط أقل من غرامين لكي ترجعه، أما الكبيرة كانحراف تسعين درجة فجأة، فالصغيرة إذا ثبتت انقلبت إلى كبيرة من حيث النتائج، لأنها نقلتك إلى الوادي السحيق مع مسافة قصيرة.
إذاً ليس في الاستقامة حل وسط، الاستقامة قطعية، أما العمل الصالح فهو نسبي، يمكن أنْ تتصدّق بألف، بارك الله فيك، بألفين، بارك الله، بخمسة آلاف، بارك الله، بمئة ألف، بارك الله، بمليون، بارك الله، لكن هذه الصدقة مبنية على مستودع محكم وهو الاستقامة، أما مستودع مِن دون قعر فالأْلف مثل الخمسة آلاف مثل المليون، ضاعتْ ولا أثرَ لها.
البند الثاني إذاً العمل بشقّيه السلبي والإيجابي، السلبي الاستقامة، الإيجابي العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر: 10]

دليل قطعي من كتاب الله يؤكد على مطالبتنا بالاستقامة التامة :

قد يقول لك قائل: أنا لست نبيّاً، فما الجواب، هذه دعوى معظم الناس، أخي أنا لست نبيّاً، ومن قال لك: إنك نبي؟ لا، لست نبيّاً، ولست صدّيقاً، و لست مؤمناً كبيراً، لكنك مسلم، فهل عندك دليل قطعي من كتاب الله على أنك مطالب تماماً أن تستقيم استقامة تامة؟ قال تعالى:

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾

[ سورة هود: 112]

لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

((شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))

[الترمذي عن ابن عباس]

وما شيّبه في هذه السورة إلا هذه الآية:

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾

[ سورة هود: 112]

وعندنا حديث يؤكد هذه الحقيقة، قال عليه الصلاة والسلام:

((إِنَّ اللَّهَ أمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ))

[الدارمي عن أبي هريرة]

لو فرضنا أنّ ملِكاً قاد سيارة فهذا له قواعد للقيادة، يجب أن يطبقها ملِكٌ وأصغرُ إنسان يقود سيارة، فهذه مبادئ السلامة. أمّا العمل الصالح فبحسب الإمكانيات، وبحسب الصدق، وبحسب الجود، وبحسب الشوق إلى الله هذا نسبي.
أكثر الناس يعتقدون بنسبية الاستقامة، يقال: أطع الله على قدر ما تستطيع، وكلمة عليك الطاعة قدر ما تستطيع، وحسب الميسور، هذا كلام هُراء، ويزيد القائلُ: واللهُ ما كلّفك فوق طاقتك، مرحلة مرحلة، الإنسان ما دام راغباً يبقى لديه ثغرات كبيرة في حياته، لكن هذه الثغرات كلها حُجُبٌ تحول بينه وبين الله جلّ وعلا، ولن يصل إلى الله سبحانه.

 

3 ـ البند الثالث في كليات الدين الذكر والاتصال بالله :

هل عندكم كُلِّية ثالثة للدين؟ الكلية الأولى: المعرفة بأبوابها الثلاثة: بالتأمل في الكون، بالنظر في الحوادث، بالمدارسة، بطابع التلقي، أو الاستماع، أو الإلقاء، أو القراءة.
عندنا كلِّية ثالثة؛ الاتصال بالله، وهي كلية ذات جزئيات، الصلاة اتصال، والصوم اتصال، والاستغفار اتصال، والتسبيح اتصال، والدعاء اتصال، يجب أن تكشف القاسم المشترك بينهما، تصلي من أجل أن تتصل، وتصوم من أجل أن تتصل، وتحج البيت من أجل أن تتصل، وتدعو الله من أجل أن تتصل، وتسبحه، وتكبره، وتوحده، وتمجده، وتنزهه من أجل أن تتصل.
فإذا نما العلم، وكان العمل جادّاً، وأصبح مثمِراً، والذكر ضعف، فماذا يحصل للإنسان؟ دققوا في السؤال، علم جيد، وأعمال طيبة جيدة، فلِمَ الاتصال بالله ضعيف؟ الجواب: الصلاة شكلية، الذكر قليل جداً، والدعاء صفر.
القلب إذا تصحّر قد يخلو من مشاعر الإيمان، وإذا خلا القلب من مشاعر الإيمان دخله السأم، والملل، والضجر، لأنّ القلب محرك، فإذا توقّف المحرك، وكان المقود ممتازاً، لم تستفِدْ شيئاً، محرك عاطل ومقود ممتاز. سيدنا سليمان قال كما جاء في القرآن الكريم:

﴿ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ﴾

[سورة ص:32]

فسيدنا سليمان آثر العمل الصالح على اتصاله بالله، فعاتبه الله سبحانه، وسيدنا داود بالعكس آثر اتصالُه بالله على خدمةِ الخلق فعاتبه الله عز وجل. إذاً ما المطلوب؟ أن توازن بينهما، أن تسعى إلى إقامة توازن حركي كما يقولون، كلما خطوت خطوة نحو العمل الصالح يجب أن تلازمها خطوة نحو ذكر الله، ذكر وعمل، قال تعالى:

﴿ اًلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك* الَّذِي اًنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ* فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾

[سورة الشرح: 1-8]

ما علاقة هذه السورة بهذه الفكرة؟ أين موضع الشاهد؟ فإذا فرغت من عمل صالح فعليك أن تنصب لذكر الله، يجب أن تتحرك على خطّين متوازيين؛ خط العلم والعمل، وخط الذّكر.

 

كلما ضعف الاتصال بالله عز وجل تسرب القلق والخوف إلى الإنسان :

مرة ثانية، الذّكر كلّية، من فروعه الصلاة، الصوم، الحج، الزكاة، الاستغفار، الدعاء، التسبيح، التحميد، التمجيد، التهليل، التكبير، كلّه ذكر، قال تعالى:

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[سورة الرعد: 28]

فأنت عقلٌ وقلبٌ، عقلك امتلأ علماً، لكنّ القلب مملوء بالشهوات، المؤمن يشحن قلبه بذكر الله، عبدي طهّرت منظر الخلق سنين أفلا طهّرت منظري ساعة.
إذاً، يا أيها الأخوة الأكارم، لا بدّ لكل واحد منّا من غار حراء. قال لي شخصٌ مداعباً ومعاتباً: ذهبتَ حاجّاً وتركتنا أسبوعين!! فقلت له: أنا أريد أن أُشحَن، كما أريد أنْ أعطي أريد أنْ أتلقى كذلك، فالإنسان يتلقى ثم يعطي، لا بد مِن شحن البطارية لديّ، لأتمكن مِن شحنِ الآخرين، فالحج عبادة فيها تفرغ تام لله عز وجل، كل الحج دعاء، وابتهال، وطواف، وسعي، وما إلى ذلك.
إذاً الكلية الثالثة وهي الذكر، الصلاة، الاتصال، وأعتقد أنّ الذكر أشمل، أولاً قال تعالى:

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[سورة الرعد:28]

أعني ما أقوله: القلق، الخوف، الاضطراب، السأم، الضجر كل هذه المشاعر المحزنة تزول بالذكر، ولو كان عندنا جهاز يقيس معنويات الإنسان العالية كلما ازددت صلةً بالله عز وجل شعرت بمعنويات عالية جداً، وكلما ضعف الاتصال بالله عز وجل تسرب القلق والخوف، لذلك لو أتيح لك أن تطَّلع على قلب إنسان بعيدٍ عن الله عز وجل لوجدتَ قلبه ممتلئ خوفاً وذعراً، والدليل قوله تعالى:

﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾

[سورة آل عمران:151]

أما المؤمن فمطمئن بالله عز وجل. فنحن الآن أمام طلب علم، وعمل صالح بشقيه السلبي والإيجابي، وذكْرٍ بكل ما تعني هذه الكلمة من صلوات، وصيام، وزكاة، وحج، ودعاء، وما إلى ذلك.

 

4 ـ البند الرابع في كليات الدين التوحيد :

عندنا ركن رابع من أركان هذا الدين العظيم هو التوحيد، فهل يجب أن ينطوي تحت ركن كبير، وهو ركن المعرفة؟ لا، هذا السؤال ساقني إلى موضوع دقيق، أنت إما أن تعرف أمره، وإما أن تعرفه، إذا عرفته ولم تعرف أمره فسقت، وإذا عرفت أمره ولم تعرفه تزندقت، فلا بدّ أن تعرفه، ولا بدّ أنْ تعرف أمره في وقت واحد، فلذلك أكبر خطأ يرتكبه بعض المسلمين أنهم يعلّمون طالب العلم الأحكام الفقهية فقط، طالب العلم ما عرف الله عز وجل، يريد أن يطيع مَن؟ يريد أن يتصل بمَن؟ أن يخاف مَن؟ أن يرجو مَن؟ هذا سؤال كبير، الصلاة تتألّف من الأركان والواجبات والسنن، تصلي لِمَن؟ نقول لك: يا أخي لِمَ لا تستقيم؟ أستقيم لمَن؟ لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمضى مرحلةً طويلةً جداً من مراحل دعوته في التعريف بالله عز وجل، ثم أمضى مرحلةً أخرى في التعريف بأمر الله عز وجل، وأية دعوة إلى الله تفتقر إلى أحد شرطيها فهي دعوة عرجاء، لا بدّ أن تعرّف بالله، ولا بدّ أن تعرّف بأمر الله.
مثلاً هناك ظاهرة مَرَضية، تجد شخصاً يحمل أعلى شهادة شرعية، علّموه العقائد، وعلّموه الفقه، وعلّموه المواريث، وعلّموه أحكام الزواج، والطلاق، والعدّة، وأحكام اللقطة، والوديعة، وأحكام القرض، وأحكام المزارعة، والمساقاة، وأحكام الوكالة والحوالة يقول لك: ثمانية مجلدات، وتفاجأ أنه يرتكب مخالفات كبيرة جداً. فأنت كمراقب إنْ وجدت إنساناً يحمل أعلى شهادة شرعية لكن له انحرافات خطيرة؛ قد يأكل مالاً حراماً، بماذا تشخص مرضه؟ عرَف الأمر ولم يعرف الآمر، عرف الشريعة ولم يعرف الحقيقة، عرف الأحكام الفقهية ولم يعرف المشرّع.
وإذا رأيت إنساناً معلوماته الفقهية ضعيفة جداً، فهو لا يرتكب مخالفات فقهية لأنه يحب أن يعصي الله، ولكن لأنه جاهل لا يعرف، ثم رأيته يحدّثك عن أسماء الله الحسنى، وعن صفاته، وهذه حالة مَرَضية، عرف الله من خلال الكون، ولم يعرف أمره بالضبط، فوقع في المعاصي، لا لأنه يحب أن يعصي الله، ولكن لأنه يجهل الحكم الفقهي ولا يعرف، ومثل هؤلاء كثر، يرتكب مخالفة شنيعة كبيرة وهو لا يدري، يقول: لا أعرف.

خَلْقُ الله يدل على التوحيد أمّا أمْرُه فيدلُّ على التشريع :

إذاً التوحيد ينضم إلى القسم المعرفي، والقسم المعرفي كما بيَّنا وقلنا: إن لدينا كوناً وحوادث هذه تمثل معرفة الله، وعندنا قرآن وسنة هذه تمثل أمْرَ الله، والدليل قول الله تعالى:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾

[ سورة الأنعام: 119 ]

وقال تعالى:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اًنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ﴾

[ سورة الكهف: 1 ]

فهناك ركنان أساسيان: الكون كتاب مفتوح، والقرآن كتاب مقروء، الكون كتاب مفتوح، هذا كتاب حروفه كبيرة يقرؤه القاصي والداني، العربي والأعجمي، والقرآن كتاب حروفه صغيرة يقرؤه أهل العربية فقط، فهذا خَلْقُه، وهذا أمْرُه، أمّا خَلْقُه فيدل على التوحيد، وأمّا أمْرُه فيدلُّ على التشريع.

 

5 ـ البند الخامس في كليات الدين البيئة :

إذاً عندنا معرفة، وعمل صالح، واستقامة، واتصال، محبة النبي عليه الصلاة والسلام، وعندنا شيء اسمه البيئة، وهو الركن الخامس، قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اًمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

الآن نحن نتصوّر إنساناً فكْرُه نيّر، عمله مستقيم، نفسه طاهرة، له اتصال بالله، لو أنّ هذا الإنسان عاش في مجتمع منحرف، كلما مضى به الوقت تضعف مقاومته، إلى أن ينزلق من باب إلى باب، ومن مستوى إلى مستوى، لذلك ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:

(( من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة ))

[ابن المنذر عن جرير بن عبد الله البجلي]

وورد أيضاً:

((من هوى الكفرة فهو مع الكفرة و لا ينفعه من عمله شيئاً.))

[تخريج السيوطي عن جابر]

إذاً أنت إضافة إلى معرفتك بالله، وإلى طاعتك، وإلى عملك الصالح، وإلى ذكرك لا بدّ أن تكون في بيئة مؤمنة، لأن المؤمن يشد أخاه، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ يَا أًَيُّهَا الَّذِينَ اًمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

الإنسان أحياناً لا يعرف، وليس هذا عارٌ، ليس العار ألا تعرف، ولكنّ العار أن تصرّ على عدم المعرفة، ليس العار أن تكون جاهلاً، ولكنّ العار أن تبقى جاهلاً. إذاً يجب أنْ يكون في حياتك إنسانٌ تثق بعلمه، تسأله، هذا معنى قول الله تعالى:

﴿ يَا أًَيُّهَا الَّذِينَ اًمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

البيئة الطيبة أساس نمو الإيمان :

قد تقول: أنا لا أريـد أيَّ إنسان، ولا أيَّة جماعة، ولا أيّة جهة، فليس لي ثقة بأحد مـاذا يحدث؟ بالضبط كن واقعياً، ليس لك ثقة بإنسان، ولا بداعية، ولا بعـالم، ولا بجـامع، ولا بجماعة، كلهم لديك كـذّابون، فليكن لك ما شئت، لكنْ راقب نفسـك تجد نفسك وحيداً، محاطاً بأناس بعيدين عن الله، محاطاً بـأناس شهوانيين، محاطاً بـأناس دنيويين، من جالس جانس، فحينما تكـون فـي بيئة منحرفة، أو كافرة، أو فاسقة، أو فاجرة تجد نفسَك بعد فترة من الزمن صرت مثلهم وأنت لا تدري، إذاً لا بـدّ لك من بيئة طيبة، لا بـدّ لك من بيئة تنبت فيها، إذاً وجود رسول، أو عالم، أو مرشد، أو مؤمنين، لا بأس أنْ أعمم، لا بدّ لك من بيئة صالحة.
ولو فرضنا أنّ إنساناً مؤمناً، وكلُّ أصدقائه فسقة، لا يصلّون، يشربون الخمر، فأعتقد أنّ لهم تأثيراً سلبياً عليه، أما إذا خالطَ المؤمن المؤمنين، الأول صلّى قيام ليل، والله لأصلّينّ مثله، الثـاني تصدّق أمامه صدقة كبيرة، فهو ليس أحسن مني وأنا أتصدّق، تجد المؤمن القوي يأخذ بيد الضعيف، لذلك لا تصحب من لا ينهض بك إلى الله حاله، ولا يدلك على الله مقاله، إنْ تخالِطْ أهل الدنيا تشعر بهبوط، قد تكون الطائرة محلّقة في الأجواء، وفجـأةً تهوي خمسين متراً، تنخلع قلوب الركّاب، ولاسيما الراكب لأول مرة، يقول لك: هلكنا، ويصفرّ وجهه، ماذا حصل؟ هذه الطائرة دخلت في جيب هوائي فهبطت.
وأنت أحياناً أيها الأخ الكريم، لك أخوانك، لك مجلس العلم، علاقاتك كلها مع مؤمنين، أناس طاهرين، مهذّبين، محبّين، يصلّون، يذكرون، يتورّعون، تشعر أنّك بين أهلك في بحبوحة، لكنْ فجأةً خالطْ أهل الدنيا، فمِن مزاحهم الرخيص، من مزاحهم الجنسي، من قنصٍ، من تعليقاتهم اللاذعة، من وقاحتهم أحياناً، من انحرافهم الأخلاقي، من شهوانيتهم، تشعر أنك قد تلوثت وهبطت.
فأنا ألخِّص لكم الركن الخامس: إنّه لا يمكن أن تلتزم، وتتنامى، وينمو إيمانك إلا في بيئة طيبة، وهذا معنى قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اًمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أًَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾

[ سورة الممتحنة: 13 ]

وقال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اًمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾

[ سورة الممتحنة: 1 ]

آيات كثيرة، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخوانكُمْ وَأًَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أًَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأًَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 24]

الجماعة رحمة والفرقة عذاب :

إذاً بعد أن تتعرف إلى الله من خلال الكون، والحوادث، والقرآن، ومن خلال معرفته، ومعرفة أمره، ومن خلال التلقّي والإلقاء، من خلال الكون أو القرآن، وبعد أن تستقيم على أمر الله فتُزِيل كلّ العقبات من الطريق إلى الله، وبعد أن تعمل صالحاً فتتحرك على طريق الإيمان، وبعد أن تتصل بالله عز وجل بالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والذكر، والدعاء، والتسبيح إلى آخره، وبعد أن تفعل كلّ هذا لا بـدّ لك من بيئة مؤمنة تعيش فيها، لا يعرف ما نقول ـ كما قال ابن عطاء الله السكندري ـ إلا من اقتفى أثر الرسول.
الذين عاشوا في بيئات كافرة، وفي مجتمعات ضالّة، في مجتمعات ترتكب فيه الفواحش على قارعة الطريق، كلّ شيءٍ في هذا المجتمع يدعوك إلى معصية الله، كلّ شيءٍ في هذا المجتمع يدعوك إلى الفسق والفجور، هذا المجتمع لا حياة للمؤمن فيه، لذلك فمَن أكرمه الله عز وجل ببلدٍ طيبٍ، فيه مساجد، فيها ذكر، فيها مجالس علم، وهذا البلد فيه بقية حياء، وبقية ورع، وبقية صلاح، وبقية عمل صالح، هذه أرض مباركة، وبلدة طيبة، على الرغم من كلّ السلبيات لا تعرف قيمتها إلا إذا تركتها.
أحد أخواننا الكرام ذهب إلى بلد أجنبي بعيد جداً، وله منصب لا بأس به، ويعيش في طمأنينة هناك، وبحبوحة، حدّثني أنه سمع قرآناً يتلى من بعض المراكز الإسلامية في ذاك البلد الكبير، ذي الحضارة والتقدم، حنت نفسه إلى بلاده وشعر بأشواقه إلى بلده الإسلامية، وإلى المساجد وإلى مجالس العلم وتلاوة القرآن،فالمؤمن دائماً يشعر بانتمائه إلى إسلامه، وإلى بلده.
الركن الخامس تؤيِّده آيات كثيرة، وأحاديث مستفيضة، هذا الركن هو أن تكون بين جماعة مؤمنة، فلو سافرتَ مع ثلاثة مؤمنين تجد أنكم تثابرون على الصلوات، والذكر، سافر وحدك فأنتَ أمْيَل إلى التحلل والتفلت، الجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ:

((أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ اًبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ))

[الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ]

العبادة ثلاث مراحل طاعة قبلها معرفة وبعدها سعادة :

إذاً نتمنى أن نعود إلى كلّيات الدين، إلى أصول الدين، هذا هو الدين، أنا أذكر لكم دائماً أنّ الإنسان خُلِق ليعبد الله عز وجل، بدليل الآية القطعية بدلالتها، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

العبادة ثلاث مراحل: طاعة قبلها معرفة وبعدها سعادة، هذا كلّ الدين، سلوك مبني على معرفة، يفضي إلى سعادة، والسعادة هدف كلّ مخلوق حيّ، وفي النهاية أنت خلقت للجنة، والجنة كلّها سعادة، متاعب الدنيا متاعب مؤقتة، التكليف مؤقت، المشقة مؤقتة، مصارعة النفس مؤقتة، ولمّا يستحق الإنسان دخول الجنان يقال له:

﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ اًمِنِينَ ﴾

[ سورة الحجر: 46 ]

وقال تعالى:

﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾

[ سورة الزمر: 73 ]

المؤمن حينما يأتيه مَلَك الموت، ويطّلع على مقامه في الجنة يقول: لم أرَ شراً قط، ولو أن حياته كانت مفعمة بالمتاعب والمصائب يقول: لم أرَ شراً قط، والكافر حينما يعرف مكانه في النار يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لسحقوا يقول: لم أرَ خيراً قط، أين بيوته؟ أين مسراته؟ أين حفلاته ورحلاته؟ أين شأنه وسلطانُه؟ أين الطعام الذي أكله؟ أين النساء اللواتي التقى بهنّ؟ أين السهرات المخملية؟ أين هي؟ كلّها ذهبت وبقيت تبعاتها.
إذاً نحن بحاجة إلى مجتمع مؤمن، أنا أشعر بشعور: عندمّا يحضر الإنسان مجلسَ علم يقول لك: واللهِ تأثرت، وشعرت بصفاء، فداومْ عليه يومين أو ثلاثة مع ذكر، وتشعر بقرب، وطمأنينة، وقوة نفسية، ومعنويات عالية.

 

ملخص سريع لما ورد في الدرس :

إذاً نحن عندنا خمسة أركان أساسية في الدين: ركن معرفي، طلب علم بكل أنواعه؛ العلـم بالله، العلـم بأمره، الحـقيقة، الشريعة، التفكـر، التأمل، الدراسة، السماع، القراءة، طلب العلم على إطلاقه، ثم العمل بشقيه السلبي والإيجابي؛ السلبي الاستقامة، والإيجابي بذلٌ وعطاء، كإنفاق المال، إنفاق الجهد، والخبرة، ثم الاستقامة، ثم الاتصال بالله بكـل ألوانه؛ من صلاة، إلى صيام، إلى حج، إلى زكاة، إلى ذكر، إلى دعاء، إلى إقبال، إلى تلاوة قرآن، والشيء الخامس أن تحرص على أن تكون في مجتمع مسلم، فإنّ هذا المجتمع يقويك، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا فَقَالَ:

((أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ اًبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ))

[الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور