وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 1116 - الاستقامة4 ، استقامة الأصول 2 - استقامة أصول الدين - قصة أبو وداعة مع معلمه.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وآل بيته الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

بنود استقامة أصول الدين :

     أيها الأخوة الكرام، انطلقت في هذه السلسلة من الخطب من أن الاستقامة هي حجر الزاوية في الدين، فالإنسان ما لم يستقم على أمر الله لن يقطف من ثمار الدين شيئاً، فلذلك من دون استقامة يغدو الدين ثقافة، وتراثاً، وعادات، وتقاليد، ولا يقدم ولا يؤخر، والمسلمون يعدون مليار وخمسمئة مليون لا وزن لهم في الأرض، وليست كلمتهم هي العليا وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل، وهذه حقيقة مرة أراها أفضل ألف مرة من الوهم المريح.
     وبينت في خطب سابقة أن هناك استقامة السرائر وهي تزيد عن خمسة عشر بنداً، ثم انتقلنا إلى استقامة الأصول بدأتها في الأسبوع الماضي وأتابعها في هذا الأسبوع.

1 ـ ألا تتبع الأغلبية المسيئة:

     من بنود استقامة أصول الدين ألا تتبع الأغلبية المسيئة:

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116) ﴾

( سورة الأنعام )

     الأكثرية تعيش لحظتها، الأكثرية تعيش شهوتها، الأكثرية تعيش مصالحها، الأكثرية غفلت عن الدار الآخرة، الأكثرية همها الدرهم والدينار، وهمها بطنها وفرجها، هذا الوضع المأساوي في العالم الإسلامي هذا الذي قاد إلى ضعف المسلمين، وإلى تفرقهم، وتشتتهم.

 

جماعة المؤمنين لا تقيّم بالعدد تقيّم بالمضمون :

     لذلك البطولة أن تكون مع أهل الحق ولو كانوا قلة، أن تكون مع جماعة المؤمنين ولو كانوا واحداً، لأن جماعة المؤمنين لا تقيّم بالعدد تقيّم بالمضمون، فلذلك:

(( لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، و إن ظلموا ظلمنا، و لكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، و إن أساؤوا فلا تظلموا ))

[ الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه]

     أنت مؤمن معك مبادئ، معك قيم، تسعى للدار الآخرة، لك طبيعة خاصة، لك تصور خاص، لك مبادئ خاصة، لك قيم خاصة، لك عالم خاص، لك طموحات خاصة، لا يمكن أن تكون مع عامة الناس، مع دهماء الناس، مع سوقتهم، مع السواد الأعظم، أنت مع الخاصة:

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (116) ﴾

( سورة الأنعام )

﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(36) ﴾

( سورة يونس )

     لذلك هناك صرعات، هناك أجهزة، هناك صحون، حينما تتبع ما في بيئتك من دون تقييم، من دون متابعة، فهذا نوع من أنواع الإمعة التي نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، أما رجل مبدأ قدوته النبي عليه الصلاة والسلام:

(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[ السيرة النبوية ]

عقائد الدين والعبادات توقيفية لا يضاف عليها ولا يحذف منها :

     المؤمن صاحب مبدأ، صاحب قيم، لا تغريه سبائك الذهب اللامعة، ولا تخيفه سياط الجلادين اللاذعة، رجل مبدأ يقول كلمة الحق ولا تأخذه في هذه الكلمة ملامة لائم، شيء آخر: المؤمن يتحقق من دينه لذلك يبتعد عن كل بدعة:

(( َكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ))

[ مسلم والنسائي، واللفظ له عن جابر]

     طبعاً في العقائد وفي العبادات، أما في الدنيا ينبغي أن نبتدع، ينبغي أن نحسن ظروف معيشتنا، ينبغي أن نؤمن سكناً لشبابنا، ينبغي أن نستثمر خيراتنا، أن نستصلح أراضينا، أن نستخرج ثرواتنا، ينبغي أن نصلح معاشنا، ينبغي أن نبتدع في الدنيا، وأن نتبع في الدين، فكيف إذا كان المسلمون قد ابتدعوا في دينهم وقلدوا في دنياهم فتخلفوا، الابتداع في الدنيا كلما هيأنا سبل العمل، و ظروفاً للعمل جيدة، و فرصاً للعمل، وبيوتاً للشباب، شجعنا الزواج، و خففنا من الانحراف، كلما هيأنا الجامعات لشبابنا، الجمعيات الخيرية لمن يحتاج المساعدة، هذا كله ابتداع لكنه ابتداع محمود، هذا معنى ما ورد في بعض الأحاديث:

(( مَن سَنَّ في الإِسلام سُنَّة حَسَنَة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها من بعده ))

[مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي]

     عقائد الدين والعبادات توقيفية لا يضاف عليها، ولا يحذف منها، والأصل فيها الحظر، ولا تشرع عبادة إلا بالدليل القطعي والثابت، أما الأشياء الأصل فيها الإباحة، ولا يحرم شيء إلا بالدليل القطعي والثابت، هذا منهج في أصول مناهج الدين، لذلك فيما ورد:

(( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ))

[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

     انطلاقاً من قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

( سورة المائدة: الآية 3 )

     الإكمال نوعي والإتمام عددي، أي أن عدد القضايا التي عالجها الدين تام عدداً، وأن طريقة المعالجة كاملة نوعاً، فلا يضاف على الدين، ولا يحذف منه، وأي كلمة تجديد تنسب إلى الدين فلا تعني إلا أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه.

2 ـ مخالفة أهل الباطل:

     أيها الأخوة، من بنود استقامة الأصول مخالفة أهل الباطل، لذلك عاداتهم، حفلاتهم، أفراحهم، أتراحهم، مآسيهم، اختلاطاتهم، إباحيتهم، تفلتهم، أهل الباطل لهم طريقة في الحياة ينبغي ألا تكون معهم، لك أن تقيم علاقة عمل مع أي إنسان كائناً من كان هذه العلاقة مشروعة ولا شيء فيها، أما العلاقات الحميمة مع من شرد عن منهج الله هذه تفسد عليك دينك، لذلك ينبغي أن يتميز المؤمن لا بعباداته بل بأخلاقه، بمبادئه، بتفاصيل حياته، باحتفالاته، بمآسيه، المؤمن متميز، إذا فهمت الدين خمس عبادات ليس غير لا يميز المؤمن إلا العبادات، أما إذا فهمت الإيمان معه خمسمئة ألف بند من تفاصيل منهج الله عز وجل فالذي يميزك عن بقية الناس مبادئك، بيعك، نوع بضاعتك، طريقة زواجك، طريقة احتفالاتك، مئات بل ألوف البنود تميزك عن غير المؤمن.

3 ـ إتقان العمل:

     شيء آخر: إتقان العمل من استقامة الأصول:

(( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ))

[الجامع الصغير عن عائشة]

     أنت تعمل في مجال المحاماة، ينبغي أن تعد مرافعة متقنة، تراجع فيها بنود القوانين، وإلا تنقل موكلك من البراءة إلى الاتهام، فإن لم تتقن عملك ما قيمة عباداتك ؟ أنت طبيب إن لم تراجع بعض المراجع قبل أن تصف الدواء تسرعت في التشخيص، وفي وصف الدواء، فانتكس المريض أنت محاسب عند الله، من لم يعهد منه طب فهو ضامن، الموضوع ما تابعته، أنت مهندس لم تحضر تنفيذ البناء، سحب الحديد فوقع البناء و مات أناس كثيرون أنت مسؤول، فأحد بنود الاستقامة إتقان عملك، هندسة، طب، محاماة، تدريس، تاجر، تشتري مادة تتأكد من سلامتها قد تكون فيها مواد مسرطنة، قد تكون مغشوشة، إتقان العمل جزء من الدين، لأن إتقان العمل يبعد عنك المسؤولية، إن لم تتقن فأنت ضامن:

(( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ))

[الجامع الصغير عن عائشة]

     لأن الله عز وجل أعطانا نموذجاً قال عن ذاته العلية:

﴿ الَّذِي أَحْسَن كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾

( سورة السجدة: الآية 7 )

     وأنت في كل حركاتك وسكناتك كن متقناً.

4 ـ الاستفادة من الوقت:

     أيها الأخوة، ومن بنود استقامة الأصول أن تستفيد من الوقت:

(( اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك ))

[الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، و أحمد عن عمرو بن ميمون ]

     والله سبحانه وتعالى يقول:

(( اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك ))

[ أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، وأحمد عن عمرو بن ميمون ]

     لماذا كان بعض العلماء الأجلاء في دمشق يأخذون أخوانهم صبيحة يوم العيد إلى المقابر ؟ ليعرف أخوتهم قيمة الحياة، أنت حي ترزق بإمكانك أن تتوب، بإمكانك أن تراجع نفسك، بإمكانك أن تؤدي ما عليك من حقوق، بإمكانك أن تعتذر ممن ظلمته، بإمكانك أن تطلب العلم، بإمكانك أن تنفق المال.

 

نعمتا الصحة و الحياة لا يقدران بثمن :

     نعمة الحياة:

(( اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك ))

[ أخرجه الحاكم، والبيهقي عن ابن عباس، وأحمد عن عمرو بن ميمون ]

     الإنسان لا يشكو من شيء هذه نعمة لا يعلم أبعادها إلا من فقدها، هناك مرض خبيث أنت دخلت في متاهة استئصال، أم معالجة كيماوية في الشام، أو خارج الشام، والعملية تحتاج إلى مليونين، ولا تملك منها شيئاً، كنت بحال دخلت بحال آخر، مادمت صحيحاً معافى في جسمك، الأجهزة سليمة كلها، لا يوجد عندك مشكلة صحية، الأمراض العضالة تجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، فاشكروا الله على الصحة، واستخدموا الصحة في طلب مرضاة الله:

(( وصحتك قبل سقمك ))

     شاب تصعد الدرج مسرعاً، بالستين درجة درجة، بالسبعين نصف درجة نصف درجة من شدة التعب:

(( اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك))

[ أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس، وأحمد عن عمرو بن ميمون ]

 

من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهاية مشرقة :

     أنا أغبط الشباب، لا يوجد مسؤولية، ولا زوجة، ولا أولاد، الطفل ارتفعت حرارته، دخلنا بمتاهة الذهاب إلى الطبيب، و القيام بتحليل، أو تشخيص، أو صور معينة، أو مصاريف، ما دمت شاباً قبل الزواج استخدم هذا الوقت لمعرفة الله، من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهاية مشرقة، استفد من فراغك قبل شغلك:

(( وشبابك قبل هرمك ))

     بل استفد من شبابك قبل هرمك، الهرم يحتاج إلى راحة، إلى تمدد، إلى اضطجاع، إلى أدوية كثيرة، أي طاقته ضعفت، احتياطه نفد:

(( وغناك قبل فقرك ))

     معك مال أنفق المال قد يأتي وقت يفقد الإنسان ماله، لذلك الحديث الذي يقصم الظهر:

(( بادروا إلى الأعمال الصالحة ما ينتظر أحدكم من الدنيا ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]

     نحن جميعاً:

(( هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]

     وكيل شركة سحبت منك الوكالة، مثلاً صاحب تجارة رائعة قامت شركة عملاقة امتصت كل زبائن السوق:

(( هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنىً مُطْغِياً ؟ ))

     غنى من دون علم تميل النفس معه إلى الفسق، والفجور، والانحراف أحياناً:

(( أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوْ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]

 

المؤمن مرح لطيف يميل إلى الدعابة ليأنس به من حوله :

     أيها الأخوة، لكن يقول سيدنا علي رضي الله عنه: " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كرهت عمِيت، وما ساعة الراحة إلا ساعة عون للنفس على العبادة، فهي ضرورية ".
     المؤمن مرح، حامل أعباء كبيرة، معه دعوة كبيرة، يبحث عن عمل جليل يقدمه لله عز وجل، ومع ذلك مؤنس، مرح، لطيف، يميل إلى الدعابة ليأنس به من حوله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يمزح مع أصحابه على علو قدره وكان يقول:

(( الهوا والعبوا فإنى أكره أن أرى فى دينكم غلظة))

[البيهقى فى شعب الإيمان، والديلمى عن المطلب بن عبد الله]

5 ـ دوام العمل الصالح:

     أيها الأخوة، من بنود الاستقامة في أصول الدين دوام العمل الصالح:

((أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ))

[البخاري عن عائشة رضي الله عنها]

     لك درس أسبوعي حافظ عليه، لك ركعتا قيام ليل حافظ عليهما، لك عمل صالح من حين لآخر حافظ عليه، لك إنفاق في سبيل الله:

((أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ ))

[البخاري عن عائشة رضي الله عنها]

6 ـ التسامح عند الاختلاف:

     أيها الأخوة، التسامح عند الاختلاف، هذا المتشدد الذي ينحاز بقوة إلى ما يعتقد من اعتقاد ظني بدليل ضعيف، ويقاتل، ويشرك، ويبدع، ويتهم، ويكفر، هذا ليس من صفات المؤمن أبداً، المؤمن متسامح شعاره نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، أو نتعاون فيما اتفقنا وينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا، ليس متشدداً، وليس متزمتاً، وليس قاسياً، وليس عنيفاً، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، ومن نهى عن منكر فينبغي أن ينهى عن هذا المنكر بغير منكر.

7 ـ الاستشارة و الاستخارة:

     أيها الأخوة الكرام، الاستشارة والاستخارة من بنود الاستقامة في أصول الدين أن تستشير أولي الخبرة من المؤمنين بالضبط، أن تستشير في موضوع ما، تجارة ما، في سفرة ما، في علاقة ما، في مشروع ما، أن تستشير أولي الخبرة من المؤمنين لأن غير المؤمنين لا ينصحونك، يفسدون عليك دينك، ومع الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين الاستخارة، والاستخارة في المباحات لا في الفرائض، ولا في المحرمات، في زواج، في سفر، أن تستخير الله عز وجل، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))

[البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]

     لذلك قال بعض العلماء: ما كان الله ليعذب قلباً بشهوة تركها صاحبها في سبيل الله:

(( فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))

     مثلاً خطبت امرأة بارعة الجمال ولم ييسر الزواج منها بعد أن استخرت الله عز وجل، اسأل الله عز وجل ألا تبقى متعلقاً بها، اصرفها عنك، هذا من صفات المؤمن:

(( وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي قَالَ وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ))

     أيها الأخوة الكرام، هذه بعض بنود استقامة الأصول، هذه البنود مهمة جداً في اتباع الكتاب والسنة، وترك البدعة، وترك الأكثرية من الناس، لئلا يكون الواحد إمعة، والاستشارة والاستخارة، فلعل الله عز وجل يعيننا على متابعة خطب الاستقامة، لأن الاستقامة عين الكرامة.
     أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

 

* * *

الخطبة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.

قصة زواج ابنة سعيد بن المسيب  :

     قصة أحببت أن أطلعكم عليها، لتعلموا أن هؤلاء المسلمين الذين وصلت فتوحاتهم إلى مشارق الدنيا ومغاربها كيف كانت أخلاقهم ؟
     عن أبي وداعة قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت ؟ قال: توفيت أهلي، فاشتغلت بها. فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها ؟ أي شهدنا جنازتها، قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هل استحدثت امرأة ؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟ فقال: أنا.فقلت: أو تفعل ؟
     سعيد بن المسيب يعطيني ابنته ؟
     قال: نعم. ثم حمد الله تعالى، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين أو قال: ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ قرضاً، وممن استدين، فصليت المغرب، وانصرفت إلى منزلي، واسترحت، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أفطر كان خبزاً وزيتاً، فإذا بآت يقرع الباب قلت: من الطارق ؟ قال: سعيد. قال: فتفكرت بكل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير أربعين عاماً إلا بين بيته والمسجد.
     ما خطر في باله ولا واحد بالمليار أن الطارق سعيد بن المسيب، فقمت، فخرجت، فإذا سعيد بن المسيب، فظنت أنه قد بدا له شيء، غير رأيه، وندم على تزويجي ابنته، فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ قال: لأنت أحق أن تؤتى. قلت: فما تأمر ؟ قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، العقد تمّ سابقاً وهذه امرأتك. فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيدها، فدفعها إلى بيتي، وأغلق الباب وانصرف، من شدة حيائها وقعت على الأرض، فاستوثقت من الباب، ثم قدمت إلى القصعة التي فيها الزيت والخبز فوضعتها في ظل السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك ؟ قلت: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاء بها على غفلة ؟ فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك ؟ قلت: نعم، وها هي في الدار.قال: فنزلوا هم إليها وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.أهيئ لها ألبسة مثل العادة، قال: فأقمت ثلاثة أيام ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج. قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان قرب الشهر أتيت سعيداً أي والدها، وهو في حلقته في المسجد، فسلمت عليه فردّ علي السلام، ولم يكلمني حتى انفض أهل المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان ؟ قلت: خيراً يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو. قال: إن رابك منها شيء فقل لي ـ إذا في أخطاء ـ فانصرفت إلى منزلي، فوجه إلي مبلغاً كبيراً كي يعينني على إنفاقه، الشاهد ليس هنا، الشاهد قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، الذي أقام الجامع الأموي حين ولاه العهد، فأبى سعيد أن يزوجه فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مئة سوط في يوم بارد، وصبّ عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف. قال عبد الله وابن أبي وداعة هذا هو من أخوانه الفقراء.
     أراد أن يكون زوج ابنته مؤمناً يبحث عن رضاء الله عز وجل، ولم يعبأ بفقره.

من آثر رضوان الله عز وجل على الدنيا و ما فيها ربح الدنيا و الآخرة معاً :

     لذلك هذه الأمة التي وصلت فتوحاتها إلى أطراف الدنيا لها شأن آخر، والله مرة استوقفني إنسان قال لي: خطب ابنتي شاب وسيم، له معمل باسمه، وبيت، ومركبة، لكن دينه ضعيف جداً، ما قولك ؟ قلت له: اقرأ القرآن الكريم :

﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾

(سورة البقرة: الآية 221 )

     والله زوجه إياها ولم يعبأ بنصيحتي وبعد أشهر طرقها، طلقها وركلها بقدمه في الزبداني، فعادت بمركبة عامة إلى بيتها.
     المجتمع اختلف اختلافاً كبيراً جداً، حينما تبحث عن مؤمن تزوجه ابنتك فأنت على منهج الله عز وجل.
     أيها الأخوة الكرام، السلف الصالح وصل إلى ما وصل إليه باستقامته، ومآثرته رضوان الله عز وجل، خطبها عبد الملك لابنه الوليد ولي العهد الذي أنشأ الجامع الأموي، أرادها أن تكون زوجة فقير، يحفظ لها دينها، وما أراد أن يفتنها بأن تكون المرأة الأولى في البلاد.

 

الدعاء :

     اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور