- السيرة / ٠2سيرة الصحابيات الجليلات / ٠1أمهات المؤمنين
- /
- ٠12ميمونة بنت الحارث
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
من هم أقرباء ميمونة بنت الحارث, ومتى تزوجها النبي, ومن وكلت في عقد زواجها, وهل روت عن النبي, وممن روى عنها؟
ننتقل إلى زوجة أخرى من زوجات النبي، وهو الدرس الثالث والعشرون، وموضوع اليوم: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت أم الفضل زوجة العباس، وخالة عبد الله بن عباس, وخالة خالد بن الوليد، وكان اسمها (برة), فسماها النبي (ميمونة) .
من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يعطي أجمل الأسماء، وكان يأمرنا أن نخاطب الإنسان بأحب الأسماء إليه، لأن ثمة أسماء ليس محببة كثيراً، فمعلم المدرسة, أو مدير في دائرة, من علامات نجاحه في عمله, يخاطب موظفيهم بأحب الأسماء إليهم، وهناك أسماء أحياناً تثير الضحك، له اسم، وله كنية، كنيته تثير الضحك، نناديه باسمه، اسمه يثير الضحك, نناديه بكنيته، هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم .
أحيانا بالعكس: اسم عدوان مثلاً، عدوان سلام، يا سيد سلام، نادِ الإنسان بأحب الأسماء إليه، وإذا ناديته باسمه وغضب, فقل له: الله عز وجل ما ذكر إنساناً بكنيته إلا أبا لهب، لأن اسمه عبد العزى، ولو أن الله عز جل قال: عبد العزى, لرأوه إلهاً، فالله عز وجل ذكره بكنيته فقط، أما أحبابه فقال: يا يحيى، يا زكريا، يا عيسى، إلا أن القرآن كله ليس فيه خطاب للنبي باسمه, إلا بألقابه النبوية والرسالة، يا أيها النبي، يا أيها الرسول، وقد ورد اسم محمد، ولكن في معرض الخبر، محمد رسول الله، أما كخطاب فهذا مما انفرد به النبي صلى الله عليه وسلم .
فميمونة بنت الحارث زوج النبي, تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع, لما اعتمر عمرة القضاء، وبنى بها عقب مرجعه من العمرة في مكان بين مكة والمدينة، وكان الذي تولى تزويجها العباس رضي الله عنه بتوكيل منها، وكان قد أرسل صلى الله عليه وسلم جعفراً ليخطبها له، فأذن للعباس فزوجها منه، روت عن النبي أحاديث كثيرة، روى عنها ابن أختها عبد الله بن عباس، وابن أختها الأخرى عبد الله بن شداد، وابن أختها عبد الرحمن بن السائب، وابن أختها الأخرى يزيد بن الصم، وآخرون كمولاها عطاء بن يسار ، وكريب مولى ابن عباس، وكثيرون .
ما الخبر الذي روجه المشركون في مكة, وماذا فعل النبي حينما علم بذلك, ومتى تم عقد بناء النبي على زوجه ميمونة ؟
كلكم يعلم أن في الحديبية, حينما منع المشركون رسول الله والمؤمنون من أن يؤدوا العمرة، واتفقوا على صلح الحديبية، على أن يرجعوا هذا العام، ويأتوا في العام التالي، فهذه العمرة سُمِّيت عمرة القضاء .
أحب أهل مكة أن يعزوا أنفسهم، فأخلوا مكة، وتركوها لرسول الله في العام المقبل، فأشاعوا وأذاعوا في أرجاء مكة, أن المسلمين يعانون عسرة وجهداً، دائماً الكافر يتلقى الأخبار السيئة للمؤمنين براحة، ويتلقى الأخبار الطيبة بانزعاج .
بالمناسبة يمكن أن يكون هذا مقياسًا كبيرًا لإيمانك، إذا أصاب أخاك المؤمن خيرٌ ارتحت له, فهذه علامة إيمانك، وإذا تضايقت فهي علامة النفاق، المنافق إن تصبك حسنة تسؤه، وإن تصبك سيئة يفرح بها، هذا المنافق .
فأنت انظر مع أخوانك، أخ لك أخذ شهادة عليا، صار دكتور، أتتضايق أم تفرح؟ أخوك تزوج، واشترى بيتًا، أو احتل منصباً رفيعاً، له مكانة، فهذا مكسب لك، نحن عندنا قاعدة: المؤمنون كلهم لواحد، والواحد للمجموع، كل مؤمن لمؤمن، والمؤمن للجميع .
وقف أهل مكة عند دار الندوة, لينظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أصحابه, كيف أصابهم الجهد، وأنهكتهم العسرة، هناك معلومات مبنية دائماً على التباعد, والأوهام, والأخطاء، معلومات سيئة جداً عن أحوال المؤمنين، فالمشركون أرادوا أن ينظروا إلى أوضاعهم الصعبة، وعلم النبي بالخبر, فقال لأصحابه الكرام:
((أرملوا بالبيت, ليرى المشركون قوتكم، ولما دخل صلى الله عليه وسلم اضطبع بردائه، -يعني أخرج كتفه اليمنى, هذا الاضطباع بالحج والعمرة- أخرج عرضه اليمنى، ثم قال: رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، وأخذ يهرول، ويهرول أصحابه معه، فكان ذلك إظهاراً لقوتهم، وتكذيباً لإشاعات المشركين .
-هذا منه حكم شرعي، فأنت لا ينبغي أن تقف موقفَ ضعفٍ أمام كافر، لا ينبغي أن تتضعضع لإنسان كافر، وتتذلل أمامه، يجب أن تظهر بأعلى مظهر، لأن لله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، ابتغ الحوائج بعزة الأنفس، فإن الحوائج تجري بالمقادير، كافر بعيد عن الدين, رأى مؤمنًا يتذلل أمامه، يقول: هذا دين, نحن على حق، وليس هم، لأنك أنت حينما تذللت أمامه, ضعفت مركز الدين، أنت سفير للمؤمنين، لما تضعضعت أمامه, ضعضعت مركزك، وضعضعت مركز الدين أمامه، وفتنت الكافر، وأقنعته أننا أناس صغار, ضعفاء مسحوقون، وأنت قوي وفهمٌ، رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة .
أيها الأخوة, يمكن أن تشكو لمؤمن، فإن فعلت ذلك, فإنك تشتكي إلى الله، أما إذا اشتكيت لكافر, فكأنما اشتكيت على الله، أما أن تشكو الناس إلى الله, فهذا ضعف التوحيد، أما أن تشكو نفسك إلى الله, فهذا محض الإيمان- .
لما دخل النبي مكة, أمسك ابن رواحة خطام ناقة النبي، وقال:
خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله
يا رب إنـي مؤمن بقيـله أعرف حق الله في قبولـه
وأقام النبي عليه الصلاة والسلام في مكة ثلاث ليال بعد العمرة، وكان العباس قد زوجه ميمونة بمكة، وكان لها من العمر ست وعشرون عاماً، فعقد عليها بمكة بعد تحلله من عمرته، وبنى بها في طريق عودته إلى المدينة، وفي هذه العمرة نزل قوله تعالى:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾
-يقول كتاب السيرة: ما بقي أحد من المسلمين إلا وقد أيقن يومئذ أن يوم النصر الأكبر كاد قريباً وشيكاً، لأن بعد عمرة الحديبية عمرة القضاء، بعدها فتح مكة, قال تعالى:
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾
الناس في نشوة، هذه المعاني من العزة, والنصر, والفتح، وميمونة رضي الله عنها في نشوة سرورها، وفرحها، وابتهاجها بزواجها من رسول الله، ليست قضية زواج أن تكون امرأة زوجة رسول الله، شيء صعب أن يتصوره الإنسان .
أنا في الحج الماضي أمام قبر النبي, هذا أعظم إنسان في الكون، سيد الخلق، قمة المجتمع البشري كمالاً، وعلماً، وخلقاً، وأدباً، ومعرفة بالله، فكيف بامرأة تكون زوجته؟ .
بالمناسبة إذا كان لامرأة زوج مؤمن وضايقته, فلها عند الله عقاب أليم، لأن العلماء قالوا في قوله تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾
ممكن أن تأتي زوجة النبي فاحشة؟ مستحيل، فما معنى الآية؟ العلماء قالوا: زوجة النبي لو أنه ضايقته قليلاً، أو قصرت في حقه، أو حملته ما لا يطيق، أو أنها طالبته بالدنيا, لكان هذا عند الله فاحشة .
السيدة خديجة أين وجه عظمتها؟ أنها كانت أكبر معين للنبي، كثير من النساء إذا أحب زوجها أن يؤلف كتابًا لا تريحه، النساء الجاهلات عداوات الكتاب، ثمة عداوة مستحكمة بينها وبين الكتاب، لا تسمح لزوجها أن يكون متألقاً .
أحيانا تجد مؤلفًا يقول: أهدي الكتاب لزوجتي، التي كانت السبب، إنها كانت أكبر عونٍ على كتابته، لأن التأليف يحتاج إلى صفاء، وهدوء، وتفرغ، فتسعى بكل جهدها إلى أن يكون زوجها في راحة، فلذلك الآية دقيقة:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾
إذا أساءت إلى النبي قليلاً, فكأنما أتت الفاحشة، أمّا هنّ فمنزهات، هنّ العفيفات الطاهرات, منزهات عن أن يأتين الفاحشة، لكن الفاحشة في هذه الآية معناها: إذا أسأن إلى النبي, ولو إساءة طفيفة، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق:
((ما ساءني قط فاعرفوا له ذلك))
((سدوا علي كل خوخة إلا خوخة أبي بكر))
((وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر))
وعندما وصلت إلى المدينة, استقبلتها نساء النبي بالترحاب, والتهاني, والتبريكات))
مكة بلده الذي أُخرِج منه، وائتمر أهلها على قتله، وكادت له، وحاربته ثلاثة حروب صعبة، ثم أكرمه الله عز وجل، ودخل مكة منتصراً فاتحاً، العبرة بالنهاية، والعاقبة للمتقين، الأمور تدور، يصعد أناس، ويسقط أناس آخرون، وفي النهاية لا تستقر إلا على تكريم المؤمن.
ما هو الشرف الذي نالته السيدة ميمونة, وهل أذنت للسيدة عائشة في مطلبها, وهل كانت من المعمرات في الدنيا, ومتى توفيت, وأين دفنت؟
دخلت أم المؤمنين ميمونة بيت النبي، وقد اغتنمت من الدنيا نعمة الإيمان والإسلام, والشرف العظيم أن أصبحت زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت ميمونة تحظى بالقرب من رسول الله كثيراً، حتى إذا اشتد المرض برسول الله, نزل في بيتها، ثم استأذنتها عائشة بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم, لينتقل إلى بيتها, ليمرض حيث أحب في بيت عائشة، فحينما مرض أول مرحلة كانت في بيت ميمونة، والمرحلة الثانية في بيت عائشة، ومقامه الشريف الآن هو بيت عائشة، مكان دفنه الآن هذا بيت عائشة، وهذه نعمة من أجلِّ النعم أن قبر النبي ثابت، وقبور الآخرين لعله هنا، هنا قبر سيدنا يحيى في الأموي، ليس هناك شيء ثابت، أما لكرامة النبي عند الله كان قبره ثابتًا، ليس فيه مشكلة إطلاقاً .
فلما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى, عاشت ميمونة رضي الله عنها حياتها بعد النبي, في نشر سنته بين الصحابة والتابعين، حيث روى عنها كثير من الصحابة والتابعين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما رووا عن سائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وفي عام الواحد والخمسين, توفيت السيدة ميمونة، ولها ثمانون سنة .
عاشت زينب بنت خزيمة ثلاثين عاماً، وهذه عاشت ثمانين عاماً .
قال عطاء:
((توفيت ميمونة في المكان الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج هو وابن عباس إليها, فدفنوها في موضع قبتها, الذي كان فيه عرسها رضي الله عنها وأرضاها))
سكنت بمكان قريب البقيع في الحج، هذا البقيع كل الصحابة فيه، كبار الصحابة زوجات النبي، بنات النبي في هذه المقبرة، النبي عليه الصلاة والسلام ربى رجالاً أبطالا ونساءً .