وضع داكن
16-04-2024
Logo
أمهات المؤمنين : سيرة السيدة زينب بنت جحش - الحكمة من زواجها, وإلغاء عادة التبني
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

السيرة الذاتية لزينب بنت جحش :

أيها الأخوة المؤمنون, مع سير الصحابيِّات الجليلات رضوان الله عنهن أجمعين، ومع أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش .
هي زينب بنت جحشٍ أم المؤمنين، وأمها أميمة بنت عبد المطلب, عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدت في مكة قبل البعثة بسبع عشرة سنة، وكانت من المهاجرات الأوَل ، وأسلمت قديماً، هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها الأخوة, كلمة المولى من أندر الألفاظ في اللغة، ففي اللغة العربية هناك أسماء لها معنيان متعاكسان، فالمولى هو السيد والعبد معاً، تقول: يا مولاي، تخاطب الله عز وجل، وقد تخاطب عبداً عندك, فتقول له: يا مولاي، فالمولى هو السيد والعبد .
كانت عند زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلقها، وتزوجها النبي عليه الصلاة والسلام بنَص القرآن الكريم، الزوجة الوحيدة التي أمر الله النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوَّجها، وبسببها نزلت آية الحجاب، وقد نزل فيها قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها من العمر خمس وثلاثون سنة .
أما الروايات التالفة، الساقطة، المُزوَّرة، المفتراة, التي وردت في بعض التفاسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الطريق، فرأى باباً مفتوحاً، فنظر إلى داخله، فإذا امرأةٌ حسناء, تغتسل عاريةً، وشعرها وصل إلى أسفل ظهرها، فوقعت في نفسه، فهذه روايةٌ من وضع الزنادقة، لا أصل لها، روايةٌ ساقطةٌ تالفة، إن قرأتموها في كتابٍ, اعتمد على رواياتٍ تالفة, فانبذوا هذه الرواية .
كانت هذه الزوجة الكريمة، أول نسائه صلى الله عليه وسلم وفاةً بعده، صلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها .

لماذا أمر الله نبيه أن يتزوج زوجة متبناه, وما هي علة تحريم التبني ؟

أما قصة زواجها من زيد وطلاقها فكما وردت في كتب السيرة، قال تعالى:

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

فالله عز وجل أمر النبي أن يتزوَّج زينب زوجة متبنَّاه، فأبطل الله عز وجل بها عادةً جاهليةً، وهي عادة التبني، كان الرجل يتبنى طفلاً، وينسبه إليه، وهو ليس ابنه، هذا الابن أجنبيٌ في هذا البيت، وبحسب الفطرة البشرية الأخ في البيت لا يشتهي أخته، والأب في البيت لا يشتهي ابنته، أما لو تبنى رجل فتاةً صغيرة، وكبرت هذه الفتاة، فهي عند صاحب البيت مشتهاة .
لو تبنى رجلٌ طفلاً صغيراً، ثم شب هذا الطفل، وفي البيت فتاةٌ في ريعان الصبا، ربما وقعت الفاحشة داخل البيت, دون أن يعلم أحد، لأن الطفل المتبنى، أو الطفلة المتبنَّاة، إذا شبَّت، وكبُرت، وأينعت، ليست من أحد أفراد الأسرة, إنها امرأةٌ غريبة، وإن هذا الابن شابٌ غريب، ربما وقعت الفاحشة في البيت .
لذلك أراد الله جل جلاله من خلال هذه القصة، أن يبطل عادةً جاهليةً هي عادة التبني ، وقد دفع النبي عليه الصلاة والسلام ثمن إبطال هذه العادة دفع غالياً، لأنه شيءٌ مألوف، شيءٌ دخل في صميم العادات والتقاليد، كيف يتزوَّج الإنسان زوجة ابنه المتبنى؟ شيءٌ لا يحتمل، وهذا معنى قول الله عز وجل:

﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

من أمثلة القرآن على تحريم عادة التبني :

كان زيد بن حارثة مولىً لخديجة رضي الله عنها، فلما تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهبته له، صار زيد غلاماً لرسول الله .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:

((أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ, حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

أصبح اسمه: زيد بن حارثة، وقد علم أبوه أنه عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأتاه هو وأخوه كعب لفدائه، كان غلامًا عند خديجة، فلما تزوج بها النبي وهبته إياه، فهو عنده، فلما علم أبوه وعمه أن زيداً عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم، جاؤوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالا:

((يا بن عبد المطلب، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه, فقال عليه الصلاة والسلام: ادعوه فخيروه، فإن اختاركم, فهو لكم بغير فداء, وإن اختارني, فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداءً .

-هل في الأرض كلها شاب أو صبي, يؤثر رجلاً على أبيه وعمه، أو على أبيه وأمه؟ ماذا تلقَّى من محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ من معاملة طيبة، من إكرام بالغ، من رحمة واسعة ، من لطف بالغ، حتى آثر النبي على أمه وأبيه؟!- .
قال: فدعاه, فقال: هل تعرف هؤلاء؟ -لعلهما ادعيا أنهما أقرباؤه- قال: نعم, هذا أبي، وهذا عمي, فقال عليه الصلاة والسلام: فأنا من قد علمت, ورأيت صحبتي لك, فاخترني أو اخترهما, فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم, -عندئذٍ كاد أبوه ينفجر- فقال: ويحك يا زيد, أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك, وعمك, وأهل بيتك ؟ فقال زيد: لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً .
-أيها الأخوة, الإنسان أحياناً يتساءل، النبي عليه الصلاة والسلام عنده زيد، وهو غلامه، ويعلم أن له أباً، وأماً، وأهلاً، وهو سيد الخلق، هو أكمل خلق الله، فكيف يسمح النبي لنفسه أن يبقي عنده زيد؟ .
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام يعرف من هو؟ يعرف أن رحمته أكبر من رحمة أبيه وأمه، يعرف أن السعادة كلها عنده، يعرف أن خير الدنيا والآخرة في صحبته، ما تركه عنده قسراً، والدليل: لما جاء أبوه وعمه, يدفعان مالاً وفيراً ليفتديانه, اختار زيد رسول الله، إذاً: هو واثقٌ من نفسه، واثق أن صحبة زيد لرسول الله أفضل له من كل شيء؛ من أمه وأبيه-.
فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الموقف الوفي، -والنبي عليه الصلاة السلام سيد الأوفياء- أخرجه إلى الحِجر, -إلى حجر إسماعيل- أمسكه بيده, وقال : اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه .
فلما رأى ذلك أبوه وعمه, طابت أنفسهما وانصرفا)).

ومن هذه اللحظة: دعي زيد بن محمد، حتى جاء الإسلام، وجاءت البعثة؛ بعثة النبي العدنان، صار اسمه زيد بن محمد، وليس في القرآن الكريم كله اسم صحابيٍ إلا زيد، لأنه خسر نسبه إلى النبي بعد أن أبطل الله عادة التبني، كان اسمه بين كل الصحابة زيد بن محمد، فلما أبطل الله عادة التبنّي، عوَّضه خيراً من هذا الاسم، فجعل اسمه في القرآن الكريم:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

لم يرد في القرآن كله اسم صحابيٍ إلا زيد .

إليكم قصة زواج زينب من زيد وطلاقها منه :

أما قصة زواجه من زينب فقد حكتها زينب نفسها، قالت:

((خطبني عدة رجالٍ من قريش، فأرسلت أختي إلى رسول الله أستشيره .
فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين هي ممن يعلمها كتاب الله وسنة نبيها؟.
قالت: ومن هو يا رسول الله؟ .
فقال عليه الصلاة والسلام: زيد بن حارثة .
قال: فغضبت أختها غضباً شديداً .
قالت: يا رسول الله! أتزوج ابنة عمتك مولاك؟ .
-ليس هناك تناسب، وهذه العادة الجاهلية سارية المفعول حتى الآن، زينب من قريش، وقريش من أعظم قبائل العرب، تسكن في مكة، وهي سيدة القبائل، وهي بنت عمَّته، يزوجها لعبدٍ أسود؟! يزوجها لمولاه؟! .
حينما داس بدويٌ من فزاره إزار جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة, ضربه ضربةً هشمت أنفه، فشكاه إلى عمر رضي الله عنه، قال له:

أرضِ الفتى لا بد من إرضائه ما زال ظفرك عالقاً بدمائه
أو يهشمن الآن أنـــــفك وتنــــال ما فعلته كفك

جبلة ملك الغساسنة، قال:

كيف ذاك يا أمير، هو س وقةٌ، وأنــا عرشٌ وتاج؟
كيف ترضى أن يخر النجم أرضًا؟

قال له:

نزوات الجاهلية، ورياح العنجهية قد دفناها أقمنا فوقها صرحاً جديداً
وتساوى الناس أحراراً لديناً وعبيداً

قيَم جديدة، قيم الجاهلية تحت الأقدام, قال:

كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عنــــدك أقوى وأعز
أنا مرتـــــــدٌ إذا أكرهتني

قال:

عنق المرتد بالســيف تحز عالمٌ نبنيـــه، كل صدعٍ فيه
بشبا السيف يداوى وأعز الن اس بالعبد بالصعـلوك تساوى

زيد من أرومة قريش، وهو عبدٌ أسود، هذه قيمٌ جاهلية، سيدنا عمر خرج, وهو خليفة المسلمين، إلى ظاهر المدينة, لاستقبال سيدنا بلال الحبشي .
سيدنا الصديق وضع يده في إبط بلال, وقال:

((هذا أخي حقاً))

كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله, إذا ذكروا سيدنا الصديق, قالوا:

((هو سيدنا وأعتق سيدنا))

يعنون بلالاً، هذا هو الإسلام .
عبد؛ أبيض، أسود، ملون، هذه قيمٌ جاهليةٌ تحت الأقدام- .
النبي عليه الصلاة والسلام قال لابنة عمته زينب, قال: أزوجك زيد بن حارثة .
أختها غضبت وقالت: يا رسول الله! أتزوج ابنة عمتك مولاك؟! .
وقالت زينب: وجاءتني فأعلمتني، فغضبت أشد من غضبها, فقلت: أشد من قولها، فأنزل الله عز وجل قوله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 36]

-اسمحوا لي أن أقول لكم: هناك درجة في الإيمان إذا وضعت قضيةً, قضى بها القرآن، أو قضى بها النبي العدنان، إذا وضعتها على بساط البحث, فأنت لست مؤمناً .
شيءٌ بت به الشرع، شيءٌ محرمٌ بنص القرآن الكريم، شيءٌ حلالٌ بنص القرآن الكريم، إن أردت أنت أن تحلل أو تحرم، ولم تقبل حكم الله عزَّ وجل فلست مؤمناً, قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 36]

قالت: فأرسلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فقلت: إني أستغفر الله، وأطيع الله ورسوله، افعل يا رسول الله ما رأيت، فزوجني رسول الله زيد .
-الموقف لطيف، المؤمن إذا غلط تجده يدعو: أنا أستغفرك يا رب، يا رب سامحني, أنا تبت إليك .
بالمناسبة خصوص السبب شيء، والعموم؛ عموم القصد شيءٌ آخر، لعل هذه الآية نزلت في زينب، ولكن الآية نصَّها عام، فأي مؤمنٍ وضع قضيةً, قطع بها الشرع على بساط البحث, ليس مؤمناً, قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 36]

في ندوة أذيعت على الهواء مباشرة، سُئلت عالمةٌ كبيرة في مصر عن رأيها في التعدد, قالت: ما كان لي أن أدلي برأيي، وقد سمح الله به, هذا المؤمن .
لكن يبدو أن زينب ليست معصومة، ما تحمَّلت أن يكون زيدٌ زوجها، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ

﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ﴾

فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ, جَاءَ زَيْدٌ يَشْكُو, فَهَمَّ بِطَلَاقِهَا, فَاسْتَأْمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ, وَاتَّقِ اللَّهَ)) 

[أخرجه الترمذي في سننه]

تألم زيد، فأراد أن يطلقها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَك، فقال زيد: أنا أطلقها، قالت: فطلقني، فلما انقضت عدتي, لم أعلم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرني، لأن الآية الكريمة:

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

فالنبي تنفيذاً لأمر الله عز وجل ذكرها، وتزوج النبي امرأة زيدٍ بعده، وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه, من أن الذي يتبنَّى غيره يصير ابنه، لا .
فالعوام يقولون أحياناً: إن شاء الله مثل أخي، لا هذا ليس أخاكِ، فهذا أجنبي، وهذا قد يشتهيكِ، وهذا قد تزله قدمه معكِ، وقد يغريكِ، هذا كلام باطل ليس له أصل .
فكان زواجه من امرأة متبنَّاه بعد طلاقها, وانتهاء عدتها، تأكيداً لإبطال التبنِّي الذي ساد الجاهلية، لذلك قال الله تعالى:

﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 4]

الولد الذي يُتَبَنَّى ليس ابناً، إذا وجد الرجل لقيطًا, ماذا يفعل؟ يمكن أنْ يكون في البيت ، لكن ليس ابنه، فهو لقيط، يمكن أنْ يرعاه، ويقدم له كل مساعدة، يطببه، يعلمه، أما إذا بلغ, فلا بدَّ أن يعزله عن أهل البيت، فلا تمنع الآية العمل الصالح، أن تأخذ طفلا يتيما بلا أب ولا أم فترعاه، هذا موضوع ثان، أما أن يكون هذا المتبنى ابناً فهو ليس ابنك .

إليكم هذا الخبر الذي ورد في طبقات ابن سعد :

وفي خبر تزويجها عند ابن سعدٍ:

((فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة، إذ أخذته غشيةٌ فسري عنه، وهو يبتسم، ويقول: من يذهب إلى زينب ويبشِّرها، وتلا قوله تعالى:

﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد, لما يبلغنا من جمالها))

أصابتها الغيرة, وأخرى هي أعظم وأشرف، ما صنع لها؛ زوجها الله من السماء .
فهي المرأة الوحيدة التي زوَّجها الله عز وجل، وكانت تقول مفتخرةً:

((لقد زوجكم أولياؤكم, وزوجني رب العزة))

وقالت عنها عائشة:

((يرحم الله زينب, لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها, ونطق بها القرآن، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا))

فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنَّة، وأول زوجاته لحوقاً به زينب .

 

ماذا نستنبط من هذه الآيات ؟

الآن نريد أن نستشف الحكم الشرعي المستنبط من هذه القصة، قال تعالى:

﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 4]

فمثلاً هذا كأس ماء، لو أنك قلت شيئاً آخر، يبقى ماءً لا يتغير شيء، تغيير الاسم لا يغير حقيقة الشيء، قال تعالى:

﴿ومَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 4-5]

الآية الثانية:

﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 37]

فقد كان النبي بهذا مشرعاً، أمره الله عز وجل، وفي هذا الأمر إحراجٌ شديدٌ له صلى الله عليه وسلم .
فنحن الآن نرتدي ثيابًا جميعاً، لا يقبل ولا يعقل أنْ يمشي الإنسان بلا ثياب, خرج عن التقاليد والعادات، والذوق العام، فالقيم راسخة، والتقاليد راسخة، والأعراف راسخة، وهذا المتبنَّى ابن، وهذه زوجته، أن يقول الله عز وجل لنبيه المرسل: تزوج ابنة متبنَّاك، شيء فوق طاقة الاحتمال, ولكن النبي كان مشرعاً بهذا .
إذاً: نزلت هذه الآيات الكريمة لإبطال حكم التبنِّي، الذي ساد شيوعه في الجاهلية وصدر الإسلام .
كما نزل قوله تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]

وثمة حكمة ثانية: لحكمةٍ بالغةٍ بالغة لم يكن من ذرية النبي من الأحياء ولدٌ ذكر؛ لئلا يقول: أنا وريث النبوة، محمدٌ أبي، لئلا تقع منازعات، لئلا تقع خصومات، لئلا يكون قدوةً غير صالحةٍ لأتباع النبي عليهم رضوان الله، لئلا تنشأ مشكلة, قال تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]

لا حقيقةً، ولا تبنِّياً أبداً, قال تعالى:

﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]

ولحكمة بالغةٍ والله أعلم: أن أباه وأمه توفِّيا قبل أن يُبعث، لو أن أباه حي يرزق، فسيقول: هذا ابني، أنا ربيته، هذه تربيتي، لا، هذه تربية الله عز وجل، لو أن أمه حيةٌ ترزق لقالت: هذه تربيتي، أنا ربيته هكذا، ليس له أبٌ ولا أمٌ، ولا ولدٌ ذكرٌ من بعده، لأن الله سبحانه وتعالى اصطنعه لنفسه, قال تعالى:

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه الآية: 41]

لأن الله سبحانه وتعالى اصطفاه ليكون سيد الخلق, وحبيب الحق، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علمه, قال تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]


طبعاً بعد هذه الحادثة, هناك نهيٌ قطعي عن أن يقال: زيد بن محمد، اسمه زيد بن حارثة .
قال كُتَّاب السيرة: إنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولدٌ ذكرٌ, حتى بلغ الحُلُم، فجميع أولاده الذكور, ماتوا جميعاً صغارًا إلا بناته, فقد عِشْنَ وتزوَّجن، ومات له ثلاث بناتٍ منهن في حياته؛ هي زينب، ورقية، وأم كلثوم، وأما فاطمة فماتت بعده بستة أشهر، وأما أولاده الذكور الذين ماتوا, وهم صغار هم؛ القاسم, والطَيِّب، والطاهر، وهم من خديجة، وإبراهيم, وهو من ماريا القبطية .
إذن أذاقه الله موت الولد في حياته :

((إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وَإنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُون))

[أخرجه البخاري في الصحيح]


من هذا يتبيَّن: أن الله لم يشأ أن يكون لرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أبا أحدٍ من الرجال، لما خصه سبحانه وتعالى بخاتم الأنبياء والمرسلين، ولئلا يدعي أحدٌ من بعده من أبنائه وراثة النبوة بداعي النبوة، لذلك حرم الله تحريماً قدرياً وشرعياً أن يكون للنبي عليه الصلاة والسلام ولدٌ من بعده، أو أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أباً لأحدٍ من الرجال, قال تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]

سمَّاه العلماء: تحريم تشريعي, وتحريم قدري، أي أن الله عز وجل ما سمح لأحد أولاده أن يبلُغ الحُلم في حياته، ماتوا صغاراً، تحريم قدري، وتحريم شرعي, قال تعالى:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾

[سورة الأحزاب الآية: 40]

وقال علماء السيرة: ولتأكيد إبطال حكم التبني عموماً للناس وخصوصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، زوَّجه الله تعالى زوجة زيدٍ الذي كان قد تبنَّاه، وذلك أن الله قد حرم على الآباء زوجات أبنائهم، والولد المتبنَّى ليس بابنٍ على الحقيقة .
فنحن من يستطيع أن يتزوج زوجة ابنه؟ مستحيل، فلما أمر الله النبي أن يتزوج زوجة زيد، هذا إعلان صارخ أن زيدًا ليس ابنه، بدليل أن الله أمر النبي بزواجه من زوجة زيد، ولو كان ابنه, لكان مستحيلا أن يتم هذا الزواج .

الوليمة التي قدمها النبي في زواجه من زينب :

كانت هذه السيدة المصون زينب, تفتخر أمام ضرَّاتها، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ:

((فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ, وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

وكانت وليمة العرس حافلة؛ ذبح النبي صلى الله عليه وسلم شاةً، وأمر صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك, أن يدعو الناس إلى الوليمة, فترادفوا أفواجاً أفواجاً, يأكل فوجٌ فيخرج، ثم يدخل فوجٌ آخر، حتى أكلوا كلهم، وجلس جماعةٌ منهم يتحدَّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله جالسٌ، فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام, أي أنهم فرغوا من الطعام، والصحابة مستأنسون، استمروا في جلوسهم, وحديثهم مع النبي, فقال الله عز وجل في هذا الموطن:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 53]

فالإنسان أحياناً يستأنس, لكن هذا الذي تستأنس به مَجهود، مُتعب، أمضى ساعاتٍ طويلة في العمل المُضني، أنت مستأنس, أما هو متعب، فلا بد أن يلاحظ ذلك، فالإنسان الكامل ظله خفيف، هؤلاء مع رسول الله, وهو سيد الخلق، فاستأنسوا، وكان في حرج، والبيت ضيِّق، وزينب في مكان صعب، فلذلك قال تعالى:

﴿فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 53]

الخاتمة :

أيها الأخوة الكرام, موضوعٌ آخر متعلقٌ بهذه السيدة الكريمة زينب، فبمناسبة هذه القصة, نزلت آية الحجاب، وهذا موضوع الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
ولو أردنا أن نستنبط من هذه القصة بعض المواعظ: أن أي كلمة يقولها العوام: أن فلانة كأختي، أو فلان كأخي، فهذا مرفوضٌ شرعاً، ومرفوضٌ واقعاً، ومرفوضٌ عقلاً، الإنسان بفطرته السليمة؛ لا يشتهي أخته، ولا يشتهي أمه، ولا يشتهي ابنته، أما إذا تبنى طفل ، فهذا الطفل إذا كبر, فهو أجنبي, يشتهي من في البيت من النساء، لذلك مفسدة عظيمة جدًا أن ينشأ أجنبيٌ في بيت، ويعامل كأنه أحد أفراد البيت، وكل أنواع الفساد الأسري, أساسه هذا, لذلك استأصل الله عز وجل هذه العادة وأبطلها، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كُلِّف بهذا, حينما تزوَّج زوجة متبنَّاه سيدنا زيد .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور