وضع داكن
19-04-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 20 - حبيب رب العالمين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

أعلى مراتب المحَبَّة أن يحب الإنسان الله و يحبه الله :

 أيها الأخوة المؤمنون، في هذا الدرس بالذات يُرْجى أن تُغلَق الكتب، وتُطوى، لِحِكْمَةٍ سَتَرَوْنها بعد قليل.
 يقول مؤلِّف الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: "وحبيب رب العالمين"، ثبت له صلى الله عليه وسلَّم أعلى درجات المحَبَّة وهي الخُلَّة، كما صحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ:

((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا...))

[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ ]

 فالإنسان مُرَكَّب في فِطْرتِهِ أن يُحِب، وأن يُحَبّ، فإذا أحَبَّك الله أو أحْبَبْتَ الله والأصحّ أن تُحِبَّهُ ويُحِبَّك؛ هذه أعلى مراتب المحَبَّة.
 وقال عليه الصلاة والسلام:

((وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا))

[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ ]

 فالنبي عليه الصلاة والسلام خليله الرحمن، ولو اتَّخَذ أحداً من أهل الأرض لاتَّخذ عليه الصلاة والسلام أبا بكر.

 

الحبّ في الله و الحبّ مع الله :

 هذا ينقلنا إلى مقولة دقيقة لأحد العلماء؛ هناك حبّ في الله وهو من كمال الإيمان، وهناك حبّ مع الله وهو عَيْنُ الشِّرْك، فاحْذروا من المحبَّة مع الله، وعليكم بالمحبَّة في الله لأنَّه من كمال الإيمان؛ فَهَل هناك ضوابط؟ نعم فلو أنَّ هذا الذي أحْببْتَهُ في الله أساء إليك فَمَحَبَّتَك له لا تحيد عن هَدَفِها، فقد تَعْتَبُ عليه، أما أن تنقلب المحبَّة عداوَةً وبغْضاء فهذا لا يقع، فهذا الذي أحْبَبْتَهُ مع الله، إذا أَحْسَنَ إليك صار مَحْبوباً، فهو قد يكون مُنْحِرِفًا، ويسيء إليك، فتنقلب المحبة عداوةً، فالحب في الله من كمال الإيمان، والحب مع الله عَيْنُ الشرْك، وأدَقُّ آيةٍ في هذا المعنى قوله تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 24]

 فالآية مِحْوَرُها؛ أنَّهُ إن حَمَلَكَ حُبُّك لِزَوْجَتِكَ أن تعْصِيَ الله، وأن تُرْضِيَها، فهذا هو الحب مع الله! وإن أحبَبْتَ تِجارَتَك حيث أكلْتَ مالاً حراماً من أجلها، فهذا هو الحب مع الله، وإن أحْببْتَ مسْكَنًا مُغْتَصَباً، وآثَرْتَهُ على إعْطائه لأصْحابه، فهذا هو الحب مع الله، فالحب في الله من كمال الإيمان، والحب مع الله عَيْنُ الشرْك.
 والحديثان في الصحيح يُبْطِلان قَوْل من قال: الخُلَّةُ لإبراهيم، والمحبَّة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإبراهيم خليل الله، ومحمد حبيبه؛ وهذا القول مجرد مقولة، فهذان الحديثان يُبْطِلان هذه المَقولة.

 

الآية التالية من الآيات الدالة على محبَّة الله لِخَلْقه :

 وفي الصحيح أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنْدَبٌ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ:

((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا...))

[مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ النَّجْرَانِيِّ ]

 والمحبَّة قد ثبتَتْ لغيره صلى الله عليه وسلم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حبيب الله؛ فهل معنى ذلك أنَّ الله تعالى لا يُحِبُّ غيره؟ لا، قال تعالى:

﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 76 ]

 وغيرها من الآيات الدالة على محبَّة الله لِخَلْقه، فَمَن خصَّ الخُلَّة بإبراهيم والمحبَّة لمحمَّد صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ، والعلماء قالوا: الخُلَّة خاصَّة والمحبَّة عامَّة ! لكنّ حديث عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِنَّ اللَّهَ أَدْرَكَ بِيَ الْأَجَلَ الْمَرْحُومَ وَاخْتَصَرَ لِيَ اخْتِصَارًا فَنَحْنُ الْآخِرُونَ وَنَحْنُ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنِّي قَائِلٌ قَوْلًا غَيْرَ فَخْرٍ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ وَمُوسَى صَفِيُّ اللَّهِ وَأَنَا حَبِيبُ اللَّهِ وَمَعِي لِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...))

[الدارمي عن عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ]

 هذا الحديث ينقض كلّ الذي ذَكَرْناه !! لكنَّ هذا الحديث لا يثبت.

 

مراتب المحبة :

 المحبَّة مراتب؛ أوَّلُها: العلاقة، وهي تَعَلُّق القلوب بالمَحبوب، وثانيها الإرادة؛ وهي مَيْلُ القلب إلى مَحْبوبه، وطلبُهُ له، فالإرادة حركة الإنسان نحو المَحْبوب.
 والصَّبابة؛ اِنْصِباب القلب إليه، حيث لا يمْلِكُهُ صاحبهُ، كانْصِباب الماء في المُنْحَدَر، يقول لك: الأمر خرج من يدي، ولا أستطيع إلا أن أُحِبَّهُ؛ هذه هي الصَّبابة.
 الغرام؛ هو الحبّ اللازِمُ للقلب، ومنه الغريم لِمُلازَمِتِه غَريمَهُ، ومنه قوله تعالى:

﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾

[سورة الفرقان: 65]

 الخامس: المودَّة؛ الوُدّ هو صَفْوَةُ المحبَّة، وخالِصُها، وقالوا: السُّلوك المادي الذي يُجَسِّدُ المحبَّة، وقال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾

[ سورة مريم : 96]

 والسادسة: الشَّغَف؛ وهي وُصول المحبَّةِ إلى شغاف القلب.
 والسابعة: العِشْق؛ وهو الحبّ المُفْرِط الذي يُخاف على صاحِبِه منه، و واللهِ كلَّما سَمِعْتُ بعض الدُّعاة يقول: عِشْقُ الله عز وجل، فَنَفْسي لا ترْتاح إلى هذا المصْطلح، ولا يوصَفُ به الربّ تعالى، ولا العبْدُ في محبَّةِ ربِّه؛ فلا ينبغي أن تقول: أنا أعْشِقُ ربِّي، ولا أن تقول: إنَّ الله تعالى يَعْشِقُ عِباده، والعِلَّة أنَّ العِشْق محبَّةٌ مع شَهْوَة مادِيَّة.
 الثامنة: التَّيْمُ؛ تقول: فلانٌ مُتَيَّم مِنَ الوَلَهِ، وهو التَّعَبُّد.
 التاسعة: العبادة، فهي من مراتب المحبَّة، أي خالص الحب، والإخلاص، والطاعة؛ كلّ هذه المعاني مَجموعة في التَّعَبُّد، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

 العاشرة: الخُلَّة، وهي المحبَّةُ التي تَخَلَّلَتْ روح المُحِبّ وقلبِهِ.
 وقيل في ترْتيبها غير ذلك، أي أنَّ هذا الترتيب مُفْتَعَل، وهو تَقْريبٌ حَسَن، ولا يُعْرَفُ حُسْنُهُ إلا في معانيه.

 

المحبَّة لا تُحَدُّ بحَدٍّ أوْضَحَ منها :

 واعْلَم أنَّ وَصْف الله بالمحبَّة والخُلَّة هو ما يليق بالله عز وجل كسائر صِفاتِه تعالى، وإنَّما يوصَفُ الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة الوُدِّ والمحبَّة والخُلَّة حَسْبما ورد في النُّصوص؛ نتقيَّد بالنُّصوص.
 قال: وقد اخْتُلِفَ في تَحْديد المحبَّة على أقوال نحو ثلاثين قوْلاً، ولا تُحَدُّ المحبَّة بحَدٍّ أوْضَحَ منها؛ فلو قيل لك: صِفْ لنا التُّفاح! ستَجِدُ في النِّهاية أنَّ لا وَصْف أحسَن مِن وَصْف التُّفاح بأنَّهُ تُفاح!! أمور المشاعر؛ الحُدود تزيدُها غُموضاً، فأوْضَحُ ما فيها صِفَتُها الأساسيَّة.
 قال: وخفاء هذه الأشياء الواضِحَة لا تَحْتاج إلى تَحْديد كالماء، والهواء، والتراب، والجوع، والشّبَع؛ ونحو ذلك، فلو قلتَ: ما هو الشِّبَع؟! كُلْ، وحينها تعرِفُ الشّبَع؛ فالتفاصيل لا تزيد هذا إلا غُموضاً.

من ادّعى النبوة بعد النبي الكريم فهو كاذب لا محالة :

 أنا قلتُ لكم: أغْلقوا الكتُب كي أجْعل هذه الجَلْسَة جلْسَة أسْئلة، وهذا مِن أجل أن تعرفوا حقيقة العقيدة الصَّحيحة.
 ولْنطْرحْ سؤالاً؛ قال: لما علِمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلَّم خاتَم النَّبِيِّين، عُلِمَ أنَّ الذي ادَّعى النُبُوَّة بعدَهُ كاذِب، فلو جاء مُدَّعي النُبُوَّة بِالمُعْجِزات الخارقَة والبراهين الصارِخَة، فما نقول فيه؟! مادام الله تعالى قرَّر في القرآن الكريم أنَّ محمَّداً خاتَم النَّبيِّين، فأيّ إنسان يدَّعيها ليس معه بُرْهان، بل معه ضلالات وأشياء مُخْزِيَة لأنَّنا نقول: هذه لا يُتَصَوَّر وجودها، وهو من فرْطِ المُحال، لأنّ الله تعالى لما أخْبَر عن محمَّدٍ أنَّهُ خاتمُ النبيِّين، فَمِن باب المُحال أن يأتي مُدَّعٍ يدَّعي النُبُوَّة، ولا يظْهر أمارة كذبِهِ في دَعْواه، فيَجِبُ إذًا أن يكون كذب مُدَّعي النبُوَّة صارِخًا؛ لأنّ الله عز وجل ختمها بالنبي محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، فَكُلّ دَعْوى بعده فهِيَ غيّ وهوى، فالغَيّ ضِدّ الرَّشاد، والهَوى عبارة عن شَهْوة في النَّفْس، إذًا تِلْك الدَّعْوة عبارة عن هَوى النَّفْس لا عن دليل فهي باطلة.
 والنبي عليه الصلاة والسلام وهو المَبْعوث لِعَامَّةِ الجنّ، وكافَّة الوَرَى بالحقّ والهُدى، وبالنور والضِّيَاء.
 فهل عندكم دليل أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مَبْعوث إلى الجنّ والإنس كافَّة ؟! قال تعالى:

﴿ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾

[ سورة الأحقاف : 31]

 وداعِي الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فالعقيدة لا تَحْتَمِل الآراء الشَّخْصِيَة، ولا تسْتطيع ولا في أدَقِّ تفاصيلِها ولا في جُزْئِيَّاتِها أن تعْتَمِدَها إلا بِدَليل قَطْعِيّ الدلالة والثبوت.

 

النبي عليه الصلاة والسلام مَبْعوث للوَرى كافَّةً :

 يا ترى ! هل أرسل الله إلى الجنّ رسولاً قبل النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى:

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾

[ سورة الأنعام: 130]

 معنى ذلك أنَّه لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام النبيَّ الوحيد الذي أرسِلَ إلى الجنّ، بل أرسَل الأنبياء من قبله.
 وهل الرسُل من الإنس فقط أم من الإنس والجنّ؟! لولا الدليل لقال من شاء ما شاء! الدليل ليس من القرآن الكريم، ولكنه من قَول ابن عبَّاس رضي الله عنه: الرُّسل من بني آدم، ومن الجنّ نُذر، وظاهر قوله تعالى حِكايَة عن الجنّ:

﴿ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة الأحقاف: 30 ]

 يدلّ أيْضاً على أنَّ كتاب موسى مُنْزَلٌ إليهم.
 إنّ النبي عليه الصلاة والسلام هل هو مَبْعوث للوَرى كافَّةً؟ الدليل قوله تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة سبأ : 28]

 وقال تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأعراف: 158 ]

الحكمة من أن النبي الكريم أرسل لكافة الناس :

 وهنا سؤال: ما حِكْمَة أنَّ كلّ نبِيّ أتى إلى قَوْمٍ بِعَيْنِهم أما النبي محمدٌ عليه الصلاة والسلام فقد أرْسَلَهُ إلى الناس كافَّةً؟! الأُمَمُ التي تأتي بعد النبي عليه الصلاة والسلام مُنْتَشِرَة في كلّ القارات؛ أمريكا، وكندا، والبرازيل، والمِكْسيك، والقطْبَين، لما خُصَّت الأقْوام السابقة بِكُلّ نبيّ، بينما النبي عليه الصلاة والسلام عربِيّ، وهناك لُغات، وشُعوب، مُوَزَّعَة في بِقاع الأرض، فلِمَ لمْ يَكُن لِكُلّ قَوْمٍ من هؤلاء نِبيّ خاص؟! هذا مِن عِلْم الله، وقد صار العالَم كلُّه قَرْيَة، بِمَعْنى أنّ الإنسان أحْيانًا وهو مُضْطجِع على فِراشِه يتابِع أخبار العالم خبراً بِخَبر، وسائل الاتِّصال لم تكن متوفرة من قبل! بينما الآن يُمْكِن لشريط كاسيت أنْ يتوزَّع في العالم كلِّهِ، ومُمْكن مُحاضرة تُنْقَل عَبْر الأقْمار الصِّناعِيَّة، ومُمْكِن كُتب تُتَرْجم للُّغات كُلّها، الأدوات المسْموعة والمَقْروءة تفوق حدَّ الخيال! فيَكْفي أن يأتي النبي بِشَريعة خاتِمة للشرائع كلِّها، وأن تنْتشر هذه الشريعة بِكُلّ الآفاق؛ وهذا شيء مَلْموس، فالجامعات الموجودة بالعالم كلِّه؛ أمريكا، وكندا، معها أشرطة مُتَرْجمة وكأنَّها في الشرق الأوْسَط، لذا واضح في عِلْمِ الله تعالى أنَّ هناك اتِّصالات سَتَغْدو منتشرة، تَجْعل العالم قَرْيَة صغيرة، فهذه الاتِّصالات هي التي سَهَلَّتْ الدَّعْوَة المُحَمَّدِيَّة أما لو فرضنا عدم توفُّر الاتِّصالات، وجاء النبي إلى جزيرة، وبَقيَت هذه الدَّعْوة فيها، فرَحْمَةُ الله تَقْتضي أنَّ لِكُلّ أمَّة وقَوْمٍ نَبِيًّاً خاصًّاً بهم، قال تعالى:

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأعراف: 158 ]

 أي وأنْذِر من بلَغَهُ، وقال تعالى:

﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾

[ سورة النساء: 79 ]

 قال تعالى:

﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ﴾

[ سورة يونس : 2]

 فهذه الآيات تُؤَكِّد أنَّ دَعْوة النبي عليه الصلاة والسلام عامَّة، وللناس كافة، وقال تعالى:

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾

[ سورة الفرقان : 1]

 وقال تعالى:

﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾

[ سورة آل عمران : 20]

أصلُ المساجد لِتَعْليم العلْم ونَشْر الهُدى أما الصلاة فأيُّ مكان لك أن تُصَلِيَ فيه :

 الحديث الشريف الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))

[متفق عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ]

 فالمَسْجد له دَوْر أخْطر من أن يُصَلَّى فيه فقط! وهو دورُ الدَّعْوَة، وتعليم العِلْم، أما الصلاة فأيُّ مكانٍ في الأرض هو مَسْجِد.
 فهذا الحديث بِشَكل واضِح، وقَطْعي، وجَلِيّ، يبَيِّن فيه النبي أنَّ الأنبياء من قبله بُعِثوا إلى أُمَمِهِم خاصَّةً، وبُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام إلى أُمَمِ الأرض عامَّةً.

 

الإسلام لا يُجَزَّأ إنَّما يؤْخَذُ بالكُليَّة :

 حديث آخر:

((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

[ سورة آل عمران: 85 ]

 وكان صلى الله عليه وسلَّم مَبْعوثًا للناس كافَّةً، وهذا مَعْلوم من الدِّين بالضَّرورة، فَمِنَ البديهِيَّات التي لا بدَّ ألاّ يكون أحدٌ جاهِلاً بها أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام مَبْعوث إلى الناس كافَّةً، أما قولُ بعض النَّصارى مِن أنَّهُ مَبْعوث إلى العرب خاصَّة فهُوَ ظاهِرُ البُطْلان، لمَّا صدَّقوا بالرِّسالة لَزِمَهم تَصْديقُهُ في كُلّ ما يُخْبِرُ عنه، فالإسلام لا يُجَزَّأ إنَّما يؤْخَذُ بالكُلِيَّة.

 

عدم استعمال كافَّة في كلام العرب إلا حالاً :

 وقوله: وهو مَبْعوث إلى عامَّة الجنّ وكافَّةِ الورَى، جرّ كلمة كافَّة فيها نَظَر‍! إذا قلنا في مسألة فيها نظر أيْ أنَّها قَضِيَّة خِلافِيَّة! لذلك قَوْل المؤلِّف: وهو مَبْعوث إلى عامَّة الجنّ وكافَّةِ الورَى؛ هذه عِبارة فيها نَظَر، فإنّهم قالوا: لا تُسْتَعْمَل كافَّة في كلام العرب إلا حالاً، فكان ينبغي أن يقول: وهو المَبْعوث إلى عامَّة الجنّ والوَرَى كافَّةً.
 قال: واخْتَلَفوا في إعْرابِها في قوله تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة سبأ : 28]

 إعْراب كافَّةً! بالمناسبة إذا شكّ الإنسان في إعْراب بعض الآيات عليه أن يكون له مرْجِع، ولطيفٌ جداً من أخواننا الدُّعاة المُتَفَوِّقين أن يكون في مَكْتَبَتِهِم إعراب القرآن!.
 قال: هناك ثلاثة إعرابات لِكَافَّة؛ أحَدُ هذه الإعْرابات أنَّها حال، والحال يَحْتاج إلى صاحب، تقول: دخل الطالب ضاحِكًا؛ مَن صاحب الحال؟ الطالب، ورأيْتُ الطالب ضاحِكًا! مَن صاحب الحال؟ المفعول به، فنحن إذا قلنا: إنّ كافَّة حالاً، فَمَن هو صاحِبُها؟ الكاف في قوله تعالى: أرْسلْناكَ، إذًا هي حال من الكاف في أرْسَلناك، وهي اسم فاعِل والتاء فيها للمُبالغة؛ أيْ كافًّاً للناس عن الباطل، وقيل: هي مَصْدَر كفَّ؛ بِمَعنى أن تَكُفَّ الناس كفًّاً.
الثاني: أنَّها حالٌ من الناس، واعْتُرِضَ أنَّ حال المَجْرور لا يُتَقَدَّمُ عليه، فإذا كانت (الناس) حالاً، فَصَاحب الحال الذي هو شبْه جملة لا يتأخَّر عن الحال، إذًا هذا وَجْهٌ ضعيف.
 الثالث: أنَّها صِفَةٌ لِمَصْدَر مَحْذوف، أيْ رِسالةً كافَّةً! وإرْسالاً كافًّاً، وأصْبَحَت بهذا نائب مَفْعول مطْلق.

 

الحق والضياء والنور والهدى أوْصاف الدين الذي جاء به الرسول الكريم :

 وقيل: بالحق والضياء والنور والهدى؛ هذه أوْصاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الدِّين، والشَّرْع المُؤَيَّد بالبراهين الباهرة مِن القرآن وسائر الأدِلَّة، والضِّياء أكْمَل من النور؛ قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾

[ سورة يونس: 5 ]

 فالضِّياء أكْمل من النور.
 وفي الدرس القادم إن شاء الله نبْدأ بالقرآن الكريم، وهو قوله: "وإنَّ القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وأنْزلَهُ على رسولِهِ وَحْياً، وصدَّقَهُ المؤمنون على ذلك حقًّاً، وأيْقَنوا أنَّهُ كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بِمَخلوقٍ ككلام البرِيَّة، فَمَن سمِعَهُ، وزعم أنَّهُ كلام البشر فقد كفَر، وقد ذَمَّهُ الله تعالى، وعابَهُ، وأوْعَدهُ بِسَقَر"، حيث قال تعالى:

﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾

[ سورة المدثِّر : 26]

 فعلمنا مِن هذا أنَّ هذا لا يُشبه قَول البشر! فهذا نشْرَحُهُ في درس قادِمٍ إن شاء الله تعالى.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور