وضع داكن
19-04-2024
Logo
العقيدة الطحاوية - الدرس : 19 - وأنه خاتم الأنبياء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

القرآن هو الأصل :

 أيها الأخوة المؤمنون، وصَلْنا في العقيدة إلى قَول المؤلِّف: "وأنَّهُ خاتم الأنبياء"، قال تعالى:

﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾

[سورة الأحزاب: 40]

 في العنوان: وأنَّهُ خاتِمُ، وفي الآية: وخاتَم، فالقرآن هو الأصل، ومن يحْفظ القرآن الكريم فكأنَّ مُعْجَماً معه، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ))

[متفق عليه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا]

 كأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم جعل دَعْوة الأنبياء جميعاً كالبُنْيان، ودَعْوَتَهُ صلى الله عليه وسلَّم تمَّمَتْ هذا البُنيان، فأصْبَحَ تامًّاً مُكَمَّلاً، وهذا هو معنى قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾

[سورة المائدة: 3]

الفرق بين الحبّ و الشرك :

 ولا يَخْفى عليكم أنَّ الإكْمال عددِيّ ونَوْعي، وأنَّ أحداً مهما علا مقامُهُ فلا يسْتطيع أن يبْتَدِع، وما عليه إلا أن يتَّبِع، وحَسْبُنا قَول سيِّدنا الصِدِّيق رضي الله عنه في أوَّل خطبة: "إنَّما أنا مُتَّبِع ولسْتُ مُبتدعاً"، بالمناسبة فيما أعْتقِد أنه ليس مِن رجل أحبَّ رجُلاً كَحُبِّ سيِّدنا الصِّديق لِرَسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهذا الكمّ من الحبّ لم يُضْعِف سيِّدنا الصِّديق:

((أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى الشَّاكِرِينَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلَّا يَتْلُوهَا))

[متفق عليه عن عائشة]

 فقد يتعَلَّق الإنسان أحْيانًا بِمُرْشِدٍ، أو شَيْخٍ يَعْبُدُه من دون الله، وهو لا يدري، حُبٌّ قليل قد يؤدِّي إلى الشِّرْك، وحبّ عظيم مِن أبي بكر ما نقلَهُ إلى الشرْك؛ قال:

((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ ))

[متفق عليه عن عائشة]

 أرأيْتُم هذا الفرق الرائع بين الحب وبين الشِّرْك، فقد كان مُوَحِّداً، وكان مُحِبًّاً، فهناك من تجدُ فيه غِلْظة؛ يقول لك: لا فَضْل لأحَدٍ عليّ؛ فهذا الكلام فيه قَسْوة لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام:

((مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ))

[الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة]

 وقال تعالى:

﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾

[سورة لقمان: 14]

 وهناك حُبّ يؤدِّي إلى الشِّرْك، لكنَّ الصِّديق رضي الله عنه جَمَعَ بين التَّوْحيد في أعلى درجاتِه، وبين الحبّ في أعلى درجاتِهِ، فقد قال صلى الله عليه وسلمَّ:

((إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ))

[البخاري عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْهما ]

 فقد ذكر النبي بَعْضاً من أسمائِه.

 

كلام رسول الله أفصَحُ كلامٍ على الإطلاق بعد كلام الله تعالى :

 وفي صحيح مسلم أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:

((... وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ قَالَ ابْنُ عِيسَى ظَاهِرِينَ ثُمَّ اتَّفَقَا لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ))

[أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ ]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ))

[الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 لذا أفصَحُ كلامٍ على الإطلاق بعد كلام الله تعالى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ونحن لم نطَّلِع على دِقَّة نظْم النبي في كلامه، وهناك كُتب قليلة جداً تتحدَّث عن بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام، ودِقَّة نظْمِهِ، وَرَوْعة كلامه، فهذا الموضوع دُرِسَ قليلاً، وكُتَّابٌ قِلَّة وقَفوا عند البيان لا عند فَحْواه، بل عند سرّ نظْمه وصياغته.
 هل من أحَدٍ يُعْطيني شاهداً نبوياً فيه بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام مِمَّا تَحْفظون؟ التوازن اللَّفظي يُعْطي طابِعاً موسيقيًّاً ؛ قال تعالى:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

[سورة الغاشية: 17]

 فهذه الظاهرة موجود في بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام.
 كُنَّا في الجامعة، فسأل عميد الكليَّة إحْدى الطالبات، فلم تُجِب فقسَا عليها؛ فقالتْ له: ألم يقل النبي الكريم:

(( يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ ارْفُقْ بِالْقَوَارِيرِ))

[رواه الشيخان عن أنس وأحمد واللفظ له]

 لكنَّهُ أجابها إجابَةً أقْسى فقال هذا العميد: قال: "ارْفُقْ بِالْقَوَارِير"ِ، ولم يقل ارفق بالبراميل! فسَحَقَها، إلا أنَّه لابد أن يكون الرِّفْق في التعليم، وأن يكون رفيقًا بالطلبة، وبالمناسبة فالقوارير تُسْتَعْمل للعِطْر فقط.

 

بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام :

 ظاهرة أخرى في بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي الطباق، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

 وكالخير والشر والصالح والطالح.
 وكذا السجع في قوله صلى الله عليه وسلم:

((أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ))

[متفق عليه من حديث طويل عن البراء ]

 كقوله تعالى:

﴿ والعصر *إن الإنسان لفي خسر ﴾

[سورة العصر: 1-2]

 عصْر وخسر.
 وقوله صلى الله عليه وسلم:

((أنا أفصح العرب بيْد أنِّي من قريش))

[الطبراني عن أبي سعيد الخدري ]

 فهذا أُسلوب تأكيد المدْح بِما يُشْبِهُ الذمّ.
 وقوله صلى الله عليه وسلم:

((فإذا امرأة تُنازعني تريد أن تدخل الجنَّة قبلي))

[من تخريج أحاديث الإحياء عن السيدة عائشة ]

[ الأدب المفرد للبخاري ]

 هذه صورة وَصْفِيَّة، أتمَنَّى عليكم أن تقرؤوا بعْضاً من أبْحاث البلاغة، عندئذٍ كلّ شيءٍ تقرؤُونه في كتاب الله وسنَّة رسول الله سترون له بُعْداً بلاغِيًّاً كبيراً، وهو يُعَلِّمُكم الأسلوب البلاغي.

 

الحِوار والمثَل والقصَّة والتَّقْرير والتَّعَجّب مِن أساليب النبي الكريم :

 مِن أساليب النبي عليه الصلاة والسلام: الحِوارُ، والمثَل، والقصَّة، والتَّقْرير، والتَّعَجّب، فالواحد إذا قرأ الحديث الشريف؛ مِن رَوْعَة القِراءَة أن تضَع يدك عند الموطِن الجماليّ فيه، ثمَّ هذا يُعَلِّمُك أنواع الأساليب وتعددها، لأنَّكَ بِحاجة إلى أُسلوب في الكلام، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام موجَز وواضِح، وكلامُهُ يَعُدُّه العادّ، فالذي يُلْقي الكلام سريعاً فقد خالَفَ بلاغَةَ النبي، وهو يقول عليه الصلاة والسلام:

((نضَّر الله وَجْه مَن أوْجَزَ في كلامه واقْتَصر في حاجتِه))

[من تخريج أحاديث الإحياء عن ابن عباس ]

 وقوله صلى الله عليه وسلم:

((بعثْتُ بِمُداراة الناس))

[البيهقي عن جابر،والمشهور على الألسنة أمرت بالمداراة‏]

 رَوْعة الحديث بالباء! باء الاسْتعانة، أي أنَّني أسْتَعين على هِدايتِهم بِمُداراتِهم، أما لو قال: بعثْتُ لِمُدارات الناس أصْبَحت المُداراة هدفًا، وشتَّان بين أن تكون المُداراة هدَفًا، وبين أن تكون وسيلةً؛ وهذا فرق كبير كبير، فعند أهل الدنيا المُداراة هدف ووسيلة ومُجاملة، لكنَّ النبي يقول:

((بعثْتُ بِمُداراة الناس))

[البيهقي عن جابر،والمشهور على الألسنة أمرت بالمداراة‏]

 وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام نُصِرَ بالرُّعْب، لكنَّه حينما ترَكَت أُمَّتَهُ سُنَّتَهُ هُزِمَت بالرُّعْب.

 

أصلُ المساجد لِتَعْليم العلْم ونَشْر الهُدى أما الصلاة فأيُّ مكان لك أن تُصَلِيَ فيه :

 وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))

[ متفق عليه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏]

 ذَكَرْت في الخطبة نقطة دقيقة جداً ؛ وهي: إذا ظَنَنْنَا أنَّ المساجد من أجل الصلاة! فأيُّ مكانٍ في الأرض يصْلح أن يكون مسْجِداً، لكنَّ المساجد من أن أجل أن يجتمع الناس فيها يتْلون كتاب الله، ويتدارَسونه، عندئذٍ تتنزَّل عليهم السكينة، وتتغشَّاهم الرَحْمة، وتَحُفُّهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمَن عنده، فأصلُ المساجد لِتَعْليم العلْم، ونَشْر الهُدى، أما الصلاة فأيُّ مكان لك أن تُصَلِيَ فيه.
 وقال عليه الصلاة والسلام:

((وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً))

[ متفق عليه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ‏]

 ولو قال: بُعِثْتُ إلى كافَّة الخلق، أيُّهما أقرب إلى الصِحَّة؟ كافَّةً لا تأتي إلاّ حالاً، فلا نستطيع أن نقول: بلاغٌ إلى كافَّة المواطنين !! بل نقول: بلاغ إلى المواطنين كافَّةً، وهذا خطأٌ شائعٌ جدًّاً.

 

حَجْمُ مهمَّة النبي كَقُدْوَة أكبر بكَثير مِن حَجْمهِ كَمبلِّغ :

 وقال عليه الصلاة والسلام:

((وخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّون))

[مسلم عَنْ أبي هريرة ‏]

 وقوله: وإمام الأتْقِياء؛ الإمام الذي يُؤْتَمُّ به؛ أي يَقْتَدون به، وهناك فرق بين إمام وأمام؛ وهل هناك علاقة بين الإمام والأمام؟ فالإمام يجب أن يكون أمام المُؤْتَمِّين وليس في الصلاة فقط، الإمامة مقامٌ كبير، قال تعالى:

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة البقرة: 124]

 أي لن تكون إماماً لهم إلا إذا كنت أمامَهُم في كل شيء؛ مُتَفَوِّقٌ عليهم، وتَسْبِقُهم إلى كلّ فضيلة، وتُطَبِّقُ كلّ ما تقوله، فأنت ينبغي أن تكون أمامهم حتَّى تكون إمامهم، فما بين الكلمَتَين مِن علاقة؟ بين الكلمتين جِناسٌ ناقِص، هل يوجد بِكِتاب الله تعالى جِناس؟ قال تعالى:

﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴾

[سورة الروم: 55]

المرء تحت طيِّ لِسانِه  لا تحت طَيْلَسانِه!
إذا مَلِكٌ لم يكن ذا هِبَة  فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذاهِبَة
***

 وكم من ملِكٍ رُفِعَت له علامات، فلما علاَ ماتَ.
 كل هذا مِن الجناس.
 الإمام الذي يُؤْتَمُّ به أي يَقْتَدون به، والنبي صلى الله عليه وسلَّم إنَّما بُعِثَ للاقْتِداء به، لِقَول الله تعالى:

﴿ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة آل عمران]

 لذلك كما تعلمون، وكما ذَكَرْتُ هذا مِراراً: حَجْمُ مُهِمَّةِ النبي كَقُدْوَةٍ أكبر بِكَثير مِن حَجْمِهِ كَمُبَلِّغ، إذْ التَّبْليغ سَهْل، لكنَّهم يتمايَزون فيما إذا كانوا قُدْوَةً أم لا!

النبي الكريم صَفْوَةُ الله مِن خلْقِهِ :

 وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ))

[أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ]

 فالنبي في هذا الحديث الصحيح يُبَيِّن لنا أنَّهُ سيِّدُ الخلق وحبيب الحقّ، فهو عليه الصلاة والسلام لا يفْتَخِرُ ولكن يُبَيِّنُ.
 وفي أوَّل حديث الشَّفاعة:

((أَنَاْ سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ اْلقِيَامَةِ))

[البخاري عَنْ أبي هريرة ]

 وروى مسلم والترمذي عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ))

[مسلم عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ ]

 فهو صَفْوَةُ الله مِن خلْقِهِ.
 فإن قيل: يُشْكِلُ على هذا قوله صلى الله عليه وسلَّم: لا تُفضِّلوني على موسى، فالسؤال: كيف نَجْمع بين نهْي النبي على أن نُفَضّل وبين أنَّهُ فضَّل نفْسَهُ؟ والجواب أنَّ هذا كان له سبب، فإنَّ هذا كان مِن جرَّاء شكوى يهوديّ على مسْلِمٍ إذْ لطَمَه، فقال النبي هذا الحديث؛ لأنَّ التَّفْضيل هنا إذا كان على وَجْه الحَمِيَّة، والعَصَبِيَّة، وهوى النَّفْس، كان مَذْموماً، أما إن كان على وَجْه التَّوْضيح والتَّبْيين ولا فَخْر كان مَحْموداً فالافْتِخار شيء، والبيان شيء آخر.
وكذلك الجهاد، فإذا قاتل الإنسان حَمِيَّةً وعَصَبِيَّةً كان مذْموماً، فإنَّ الله تعالى حرَّم الفَخْر وقال:

﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾

[سورة الإسراء: 55]

 وقال تعالى:

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ ﴾

[سورة البقرة: 253]

 فَعُلِمَ أنّ المذموم إنَّما هو التَّفْضيل على وجْه الفَخْر.

 

الإنسان حينما يمْدح نفْسه يصْغُر وينكمِش فالأولى أن يدع الناس يتحدثون عنه :

 بالمناسبة؛ النبي عليه الصلاة والسلام مَعْصوم، ويوحَى إليه، ومعه مُعْجِزات، ولعلَّ الله أمَرَهُ أن يُبَيِّن أنَّهُ أفْضَلُ الناس، أما غير النبي فالأولى ألاّ يُبَيِّن، والأولى أن يدَعَ الناس يتكلَّمون عنه، ولا أن يقول هو عن نفْسِه، فهذا مِمَّا يُضَعِّفُ مكانته، والناس لهم أعْيُن ويعْرِفون، ومن ظنَّ الغباء في الناس فَهُوَ أغْباهم، لذلك لي كلمة مَشْهورة وهي: امْسِك كأساً من ماء، وصُبَّهُ في منْحَدَر، ثمّ قل له: اصْعَد! أو قل له: انْزِل، فهذا كلام لا معنى له، فليس هناك فائِدَة في أن تقول له: اِصْعد أو اِنْزل !! فمعنى كلامي: أنت عليك أن تتجه نحو الأكمل، ثمَّ اسْكُت، فكمالك سَيُنْبِئُ عن مكانتِكَ، لأنَّك لو أرَدْتَ أن تلفت نظر الناس إلى مكانتك ضعُفَت!
 قالوا: رقصت الفضيلة تيهاً بِفَضْلِها فانْكَشَفَت عَوْرَتُها! فالإنسان حينما يمْدح نفْسه يصْغُر وينكمِش، فالأوْلى أن تُغْفِلَ نَفْسَك، وأن تَدَعهم يتحدَّثون عنك؛ وهذا اسْمُه في عِلْم النَّفْس اسْتِجْلاء المديح؛ وهو مَوْقف ضعيف، وقلتُ اليوم في درْس: إنَّ النَّفْس بها أمراض كثيرة، وهي في الحقيقة أعراض لِمَرضٍ واحِد؛ فهذه الأمراض مِن نِفاق، وخَوف، وقلق، وضَعْف، ووَجَل، هي أعراض لِمَرض واحِد، هو ضَعْفُ التَّوْحيد، لذلك أنت شُجاع بِقَدَر تَوْحيدك، ومخلص بِقَدَر تَوْحيدك، ومطمئِنّ بِقَدَر تَوْحيدك، ومِقْدام بِقَدَر تَوْحيدك، وجريء بِقَدَر تَوْحيدك، وقد أجاب بعضهم بِجَوابٍ آخر، وهو أنّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلَّم: لا تُفضِّلوني على موسى، وقوله لا تُفَضِّلوا بين الأنبياء؛ نَهْيٌ عن التَّفْضيل الخاص، أي لا تُفَضَّلُ بعض الرُّسل على بعْض بِعَيْنِهِ بِخِلاف قوله: أنا سيّد ولد آدم، فأنت لك أن تقول: هذا الطالب أفضل الطلاب عندي؛ هذا تَفْضيل عامّ، أما أن تقول: هذا الطالب أفضل من هذا أصبَحَ هناك حزازات بينهم، فالتَّفضيل العام مَقْبول، أما الخاص فهو غير ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: أنا سيِّدُ ولَدِ آدَم، ولا فخْر فهذا تفْضيلٌ عام، ولا يمْتَنِعُ منه، كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد بِخلاف لو قيل: فلان أفضل منك!

عدم التَّفْضيل بين الأنبياء :

 وأما ما يُرْوى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: لا تُفَضِّلوني على يونس، وأنَّ بعض الشيوخ قال: لا يُفسِّر هذا الحديث حتى يُعْطَى مالاً جزيلاً، فلمَّا أعْطَوْهُ فسِّرَهُ أنّ قُرْبَ يونس من الله، وهو في بطْن الحوت كَقُرْبي من الله ليلة المِعْراج، ويُعَدُّ هذا تفْسيراً عظيماً! وهذا يدلّ على جهْلِهم بِكَلام الله، ورسوله لفْظًا ومعْنى، فإنَّ هذا الحديث بِهذا اللَّفْظ لم يَرْوِهِ أحدٌ من أهل الكتب، وإنَّما اللَّفظ في الصحيح عَن ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى))

[متفق عليه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ]

 فسيِّدُنا يونس أَبَقَ إلى الفلك المشحون، وخرج مُغاضِباً فظنَّ أن لن نقْدر عليه، ودخل في بطن الحوت، ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك، فنجَّاه الله، فإذا بِمُؤمِنٍ ساذج يأتي، ويقول: أنا لسْتُ كَيُونس!! هذا الحال كَحال أستاذ جامِعيّ نَسِيَ الهمزة، والطالب لم ينْسَها، فإذا بالطالب يقول: أنا أفضل من الأستاذ!! بينك وبينه كما بين الأرض والسماء، وإذا كان الله تعالى ذكر بعض الأنبياء بخلاف الأولى فلا ينبغي لأحَدِ المؤمنين أن يتوهَّم أنَّهُ أفضل من هذا النبي في هذا الموضوع، كما أنَّهُ لا ينبغي لِمَن هو في الحضانة أن يقول: أنا أفضل مِن هذا الدكتور! لذلك:

((لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى))

[متفق عليه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ]

 أي لا ينبغي لأحَدٍ أن يُفَضِّل نفْسه على يونس بن متَّى، ليس فيه نهي المسلمين أن يُفَضِّلوا مُحَمَّداً على يونس، وذلك لأنَّ الله تعالى قد أخْبر عنه أنَّهُ الْتَقَمَهُ الحوت، وهو مُليم، أي فاعِلٌ ما يُلام عليه، وقال تعالى:

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة الأنبياء: 87]

 فقد وقع في نفس بعض الناس أنه أكْمل من يونس، ومن ظنَّ هذا فقد كذَبَ، بل كلّ عَبْدٍ من عباد الله يقول ما قال يونس: أن لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين، كما قال أوَّل الأنبياء وآخرهم، فقد قال آدم:

﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[سورة الأعراف: 23]

 وأفضلهم وآخرهم قال في حديث الاسْتِفْتاح: اللهم أنت الملِك لا إله إلا أنت، أنت ربِّي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعْتَرَفْتُ بذنبي، فاغفر لي فإنَّه لا يغفر لي إلا أنت، وكذا قال موسى عليه السلام.

 

من يتوهم أن النبي يفعل خِلاف الأوْلى فَلِحِكْمةٍ بالغَةٍ أرادها الله :

 أتمنَّى عليكم مرَّةً ثانية أنَّ الله تعالى إذا ذكر على الأنبياء وقائِع، أو صِفات، فاعلموا أنَّها خِلاف الأولى، يجب أن تَعُدَّ هذا الكلام بعيداً عن أن يكون مذَمَّةٌ للنبي أو نَقْصٌ فيه، لأنّ الله عصَمَهم، فهذه قال عنها العلماء: خِلاف الأولى، وقالوا كلاماً طويلاً مُلَخَّصُه: أنَّ ما يفْعَلُهُ الأنبياء لِحِكْمةٍ بالغة بالغة، فمثلاً: لما صلَّى النبي عليه الصلاة والسلام ركْعَتَين فرْضَ الظهر قالوا له: أنَسيتَ أم قَصُرَت الصَّلاة؟ فقال: كل هذا لم يكن، فقال ذو اليدَين: بعضه قد كان، فلمَّا سأل النبي أصْحابه عرف أنَّهُ صلَّى ركْعَتَين، فقال: إنَّما نُسِّيتُ كي أسُنَّ! فهو صلى الله عليه وسلَّم نَسِيَ لِحِكْمَةٍ أرادها الله، ولما اخْتار مكانًا غير مناسب في بدْر، أليْس من الممكن أن يأتِيَهُ الوحي أو يجْتهِدَ اجْتِهاداً غير صحيح؟ فهو صلى الله عليه وسلَّم وقفَ المَوْقِفَ الكامل في إصْغائِهِ للنَّصيحة، ولأمَّتِهِ مِن بعدِه، ولا سيَّما العلماء والأُمراء، فإذا توَهَّمْنا أنّ النبي فعل خِلاف الأوْلى فَلِحِكْمةٍ بالغَةٍ بالِغَة أرادها الله، ثمَّ يجب أن نعلم أنَّ مقام الألوهِيَّة شيء ومقام النُبوَّة شيء آخر، فالنبي بشر والإله إله، فهذه التي ذَكَرها الله عز وجل بِخِلاف الأولى هي عَيْنُ الكمال.
 موضوع عدم التَّفْضيل بين الأنبياء أصْبَحَ واضِحاً وينْسَحِبُ عليه عدمُ الخَوْض فيما كان بين الصَّحابة، فإيَّاكم كَدُعاة أن تخوضوا فيما كان بين الصَّحابة لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول:

((إذا ذُكِرَ أصْحابي فأمْسِكوا))

[الطبراني في الكبير عن ابن مسعود]

 فَكُلّ نقاط الضَّعْف بين الصّحابة ينبغي أن نجْتنِبَها، وأن نشْتغل بما ينفعُنا، ونترك الخِلاف بينهم إلى الله عز وجل، لأنَّنا جميعاً أقلّ مِن أن نَحْكُم عليهم، فهم عُلماء حُكماء كادوا من فِقْهِهِم أن يكونوا أنبياء، كما وصَفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور