وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الأحزاب - تفسير الآيتان 69-70 يُطْبع المؤمن على الخِلال كلّه إلا الكذب والخيانة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، يقول الله جل جلاله في آخر سورة الأحزاب:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً(69)﴾

[سورة الأحزاب]

 أوَّل ملاحظة، أنَّ الأنبياء العِظام، وأولوا العَزم، والذين غيَّروا مَجْرى الحياة، والذين نشَروا الفضيلة ورسَّخوا الحق، بماذا جاءوا ؟ جاءوا بالكلمة ! إلا أنَّ هذه الكلمة يؤكدها الواقِع، فمتى يكْفر الناس بِالكلمة ؟ إن كان الواقِع لا يُؤكِّدُها، وإن كانت الكلمة في واد، والواقِع في وادٍ آخر لذلك حينما جاءت الممارسات تُناقض الادِّعات كفَر الناس بالكلمة، ولمَّا كفروا بالكلمة استهزئوا بِكُلّ كلمة، والآن الكلمة التي تُقال اسْتِهزاءً لأيِّ دَعْوَة: دون فلْسفة، وكلام فارِغ، لأنَّ الناس ألِفُوا أن يسْمعوا كلامًا لا يُؤَكِّدُه الواقِع، وأن يسمعوا كلامًا هو في وادٍ والواقِع في وادٍ آخر ! أضْرِبُ لكم مثلاً ؛ لو أنَّ أبًا شاذًّا جائِعًا أشَدَّ الجوع، وحَوْله أولاد يموتون من الجوع، فجاء هذا الأب بِطَعامٍ نفيس وأكلَهُ على مرأى مِن أولادِهِ ! فالأولاد مَقْهورون وهو جبَّار، إلا أنَّهُ أضاف إلى العَمَل أن قال لهم: إنَّني أُحِبُّكم ! فهل لِهذه الكلمة أساس ؟ وإذا كفر الأطفال بِهذه الكلمة فهل لهم الحق ؟! كل الحق معهم، لأنّ سُلوك الأب يتناقض مع ما قال، لذا إن أرَدْتَ أن تُحَطِّمَ مبْدأً اُنْشُرْهُ بِلِسانِك وخالفْهُ بسُلوكِكَ، لذلك ماذا فعَلَ الأنبياء ؟ جاءوا بالكلمة ولكنَّ الواقِعَ كلّه يُؤَكِّدُها، وحياةُ النبي كلُّها تَجْسيدٌ لِهذه الكلمة التي جاء بِها فَمَن مِنَّا لا يعْرِف موضوع التَّواضُع، فقد كان النبي مع أصحابه في سفر وأرادوا أن يعالجوا شاة ليأكلوها فقال أحدهم:  عليَّ ذبحها و قال الثاني: عليَّ سلخها وقال الثالث: عليَّ طبخها وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: عليَّ جمع الحطب ! فهُم ما سمعوا التواضع منه كلامًا ولكنْ رأوه ممارسة، لذلك تعلَّقوا به أشدَّ التعلُّق، و بالمقابل إذا جاء الأنبياء بالكلمة بماذا جاء أعداؤهم ؟ بالكلمة المضادة و بالتكذيب والتسفيه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))

 

[ رواه البخاري ]

 فالإنسان متى يُفْلِح ؟ إذا عدَّ كلامه مِن عَمَلِهِ، فإذا ظنَّ أنَّ الكلام حديث فقط، فأنت لا تفْقَهُ الدّين، فلا يستقيم إيمان عبْدٍ حتَّى يستقيم قلبهُ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لِسانُهُ، فهذه قالت حسبُكَ مِن صفِيَّة أنَّها قصيرة، فالإنسان متى يَجِدُ الطريق إلى الله تعالى سالِكًا ؟ إذا ضَبَط لِسانَهُ وإذا كفَّ عن الغيبة والنَّميمة، وعن البُهتان وعن الافْتِراء، وعن السُّخْرِيَّة والاحْتِقار، والاسْتِعْلاء، لذا قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً(69)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 فَهُم ما ضَربوه فالله يحْفظه، ولكنَّهم طَعَنوا بِدَعْوَتِهِ، وهناك مُنْحَرفون كثيرون لا يَحْلو لهم إلا الطَّعن بالعلماء وتَجْريحِهم، حينها يرْتاحون، فلو كان هناك مستقيم لأقيمتْ عليه الحجَّة، وإما أن يطْعن بالجميع فيرْتاح، لذا الإنسان قد يتكلَّم الكلمة لا يلقي لها بالاً قد يهْوي بِها سبْعين خريفًا و سَمِعْتُ مرَّةً مُقابلة مع رجل سألوه عن الأُضْحِيَة فقال هذا تَقْليد ‍! فقد كانوا يُضَحُّون بالفتيات وأصبَحوا بعدها يُضَحُّون بالخِرْفان !! وموضوع الأضحية لا علاقة لها بالدِّين إطْلاقًا !!! هذا كلامٌ خطير ! لمَّا تَعُدُّ الدِّين تُراثًا، وفُلْكلور، وتقاليد، وعادات فالإنسان قد يتكلَّم الكلمة لا يلقي لها بالاً يهْوي بِها سبْعين خريفًا برنامج مِن ملفَّات القضاء ؛ امرأة زَنَتْ مع شابّ، ووعَدَها بالزَّواج ثمّ لم يَفِ بِوَعْدِهِ فلمَّا طالبَتْهُ بالزَّواج، قال لها: أعْطِني مِفتاح دُكَّان أبيك فلعلَّي آخُذ منها مائة ألف ليرة أطْلُبُكِ بِها، فناوَلَتْهُ المِفْتاح مِن تحت ميلاء ! هذا وكأنَّه دليل على أنَّها مُتَحَجِّبَة ؛ زانِيَة وخائِنَة تُعْطي مفتاح دُكَّان أبيها من تحت الملاية ! هذه كلمة كُتِبَت في ملف، فهذا يُشْعِر أنَّ المُحَجَّبات يفْعَلن ويفْعَلن ! فهذه كلمة تكلَّم ؛ لا يلقي لها بالاً قد يهْوي بِها سبْعين خريفًا، فلذا قبل أن يطْعن الإنسان، وقبل يُلْقي التُّهَم العَشْوائِيَّة، وقبل أن يُقَلِّل من قيمة دعوة إلى الله تعالى، لماذا اتُّهِمَت السيِّدَة عائِشَة في شَرَفِها وهِي السيِّدة المصون، وزوْجَةُ النبي عليه الصَّلاة والسلام ؟ لِتَكون قُدْوَةً لِكُلّ فتاةٍ طاهِرَة اِفْتُرِيَ عليها، وهي ليسَت كذلك ! لذا قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً(69)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 أحيانًا تكون هناك دعوة إلى الله كلُّها إخلاص وصِدق وحِرْص، فلأنَّهُ مُنْحرِف وشَهَواني، وضَعيف أمام نفْسِهِ تراه يطْعَنُ بالآخرين، فهذه كلمة، وأحيانًا الإنسان يستفيد من المسْجد، فلا يحْلو لأصْدِقائِهِ إلا أن يطْعنوا بِهذا المسْجِد، فكما أنّ الأنبياء جاءوا بِكَلِمَة، فأعْداء الله تعالى جاءوا بِكَلِمَة ؛ كلمة طَعْنٍ وتَفْريغٍ مِن مَضْمون، وكلمة تَقليل أهَمِيَّة قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً(69)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)﴾

 

[سورة الأحزاب]

 وقد وردَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنَّه يُطْبع المؤمن على الخِلال كلّه، تجد مؤمنًا اجْتِماعيا، وآخر انْعِزاليا، فَكِلاهما على العَين والرَّأس وهذا مؤمن ينفق كثيرًا، ومؤمن إنفاقه أقلّ، وذاك يُحِبّ لِقاء إخْوَتهِ ومؤمن يحبّ أن يبقى لوَحده، وآخر يحبّ السَّفر، ومؤمن يحب الحضر، ومؤمن يعتني بِبَيْتِهِ كثيرًا، ومؤمن أقلّ اعْتِناء، فهذه طِباع ويُطبَع المؤمن على الخِلال كلِّها إلا الكذب و الخيانة، فإذا صدقنا مع ربّنا ومع أنفسنا ومع الآخرين فإن أغلب المشاكل سَتُحل وقال لي أحد الإخوة المحامين: هناك سبعة آلاف دعوى كيدية لقصر العدل لا أساس لها من الصِّحة، إرهاق للقضاة والمحامين، فالعلم هو الوصف المطابق للواقع، فإذا كنتَ مع الواقع فأنت عالم و إذا قلَّلت من قيمته فأنت مغرض و إذا بالغتَ فأنت واهم، والعالم ليس واهمًا وليس مغرضًا لا يقلِّل من قيمة الشيء و لا ينفخ فيه لذلك النبي عليه الصلاة والسلام خطب أحدٌ أمامه فقال: ما شاء الله وشئتَ فغضب عليه الصلاة والسلام وقال:

((أجعلتَني لله نِدًّا قل: ما شاء الله وحده، فهو عبده ورسوله ))

 قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً(69)﴾

 

[سورة الأحزاب]

﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾

[سورة السجدة]

 اِلزم الصدق، ودائما يتوهَّم الإنسان أوهاما باطلة، فيقولون: الكذب ملح الرجال، والعياذ بالله، إنَّ الصدق من خلُق المؤمن، فكن صادقا وكلمة الحق لا تقطع رزقا ولا تقرِّبُ أجلا، كن صادقا في البيع والشراء، قال لي أحد الإخوة: عندي قطعة تبديل للسيارة منذ خمس سنوات، وسعرها عشرون ألف ليرة، جاء الزبون فقال له: عندك القطعة الفلانية ؟ قال: نعم، قال: هل هي أصلية ؟ فوقع البائع في صراع، ثم قال له: ليست أصلية، قال له: أعطنها، فكلمة صدق واحدة جعلت البيع مشروعا، وكلمة أخرى قد تجعله حراما، فقولوا قولا سديدا في البيع و الشراء و لا تخَفْ، ولا تُدَلِّس، قال لي مرة واحدٌ من الناس: ما هو التدليس ؟ قلتُ: شخصٌ خطَب فتاة وقال لها: أنا عندي بيت في حيِّ المالكي، فوافق الوليُّ فورا، ثم ظهر أنَّ بيته في حيِّ الملكي بمنطقة ببيلا على طريق السيدة زينب فهو ما كذب ولكنه دلَّس والتدليس أخ الكذب، وفي البيع آلاف أنواع التدليس كالإيهام، تكتب إيطالي، هذه موديل إيطالي ولكن ليس بِضاعة إيطالِيَّة فالتَّدْليس والكذب والغِشّ ؛ هذا لا يجْلبُ رِزْقًا، ونحن في العيد قلنا: الله أكبر فَمَن قال: الله أكبر ألف مرَّة وكذب، ورأى أنَّ هذا المَبْلغ الذي سيَأتيه عن طريق هذه الصَّفقَة بالكذب أغلى عنده مِن طاعة الله فهو ما قال الله أكبر ولو مرَّة ولو ردَّدَها بلِسانِهِ ألف مرَّة، وإذا الإنسان رأى أنَّ إرْضاء زوْجتِهِ أغلى عنده مِن طاعة ربِّهِ فما قال الله أكبر ولو مرَّة ولو ردَّدَها بلِسانِهِ ألف مرَّة، فأنت إذا أطَعْتَ تكون أمام شَخْصيْن أحدهما: معه سيْفَين، والآخر سبْعَين ! فمَن تُطيع ؟ السَّيْفَين فالإنسان إذا أطاع مَخلوقًا وعصى الخالق، فهذا لا يعرف الله ولو قال الله أكبر ولو مرَّة ولو ردَّدَها بلِسانِهِ ألف مرَّة، لذلك مِن علامات تخَلُّف المسلمين ؛ هذه الكلمات الضَّخْمة، مُفَرَّغَة مِن مَضْمونها نُرَدِّدُها ولكنَّنا لسْنا في مستواها، قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)﴾

 

تحميل النص

إخفاء الصور