وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة السجدة - تفسير الآيات 28-30 خِيارُكَ مع الإيمان هو خِيار وَقْت. 
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة والعشرون، والتي بعدها مِن سورة السَّجدة، وهي قوله تعالى:

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾

[ سورة السجدة ]

 هاتان الآيتان تُشيران إلى معنى خطير جدًا ؛ الفَتْحُ هو النَّصْر بِمُطْلق معانيه، فَيَوْمُ القيامة هو يوم الفَتْح، وفيه تنْكشف الحقائق، ويظْهر الحق أبلج، وسيختفي الباطل ويسقط، وإذا نصَر الله دينه في الحياة الدنيا فهذا يوم الفتْح.
 الفتْحُ هو النّصر، فهم يقولون: متى هذا الفتْح اسْتِهزاءً ‍! الجو بدقيق جدًا، قال تعالى:

 

﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)﴾

 

[ سورة السَّجدة ]

 لو أنَّ أستاذًا قال لِطُلابِهِ غدًا مُذاكرة، وسوف يكون لها تأثير كبير في نجاحِكُم هذا العام، فأحدُ الطلاب ما عبأ بِهذا التَّنبيه، ولم يدْرس، ففي اليوم التالي إذا دَخَل المُدَرِّس، وقال افْتَحوا الأوراق واكْتُبوا الأسئِلة فهذا الذي فتَحَ الأوراق ولم يعْبأ به، ألم يوقِن الآن يقينًا قَطْعِيًا أنَّ الآن يوجد مُذاكرة ؟! وهل ينفَعُهُ هذا اليقين ؟ ماذا نسْتفيد من هاتين الآيتين؟! نسْتفيد الحقيقة التالِيَة وهو أنَّ الإنسان في موضوعات كثيرة له خِيار قَبول ورفْض إلا في موضوع الدِّين فَخِيارُهُ خِيار وَقْتٍ فقط ! فإمَّا أن يؤْمِنُ الآن في الحياة، والقلبُ ينبِض، ويتمتَّعُ بِصِحَّتِهِ، أو لا بدّ مِن أن يؤْمِن حينما يأتيهِ ملكُ الموت، وسوف يؤْمِن، ولكنَّ هذا الإيمان الذي سيأتي مُتأخِّرًا لا قيمة له إطْلاقًا.
 يُمْكِن أن نقول الفِكْرة الأساسيَّة في هاتين الآيتين ؛ خِيارُكَ مع الإيمان هو خِيار وَقْت، وليس خِيار قَبول أو رفْض، قال تعالى:

 

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾

 

[ سورة السجدة ]

 هم يقولون هذا اسْتِهزاءً ! ولكنَّ الحقيقة إن لم تؤْمِنوا الآن بِيَوم القيامة وتسْتَعِدُّوا له، وتسْتقيموا على أمْر الله، حينما يأتي اليوم الآخر سوف تُؤْمنون به إيمانًا يقينِيًّا مِن أعلى درجة ولكنَّ هذا الإيمان لا ينْفعُك قال تعالى:

 

﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)﴾

 

[ سورة السَّجدة ]

 فما قَوْلُكَ أيُّها الأخ الكريم أنَّ أكْفَرَ كُفَّار الأرض مِن دون اسْتثناء والذي قال:

 

﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾

 

[سورة القصص]

 والذي ذبَّحَ بني إسْرائيل، هذا الطاغِيَة فِرْعَون حينما أدْرَكَهُ الغرق قال، كما قال تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ(90)﴾

[ سورة يونس ]

 فكان الجواب من الله عز وجل، قال تعالى ":

 

﴿أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(91)﴾

 

(سورة يونس )

 أرجو الله تعالى أن يُوَفِّقني لإيضاح هذه الفِكْرة، أنت سوف تُؤمِن شئْتَ أم أبَيْت ! ولكن إن لم تؤمن الآن وأنت صحيح الجسم وقوي ومُدرِك، وفي بَحْبوحة، فإيمانُكَ بعد فوات الأوان لا قيمة له، ولن يُجْدِيَكَ إطْلاقًا، فأنت إما أن تؤمن الآن، وإما لا قيمة لإيمانك بعد فوات الأوان، قال تعالى:

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾

[ سورة السجدة ]

 تروي كُتُب الأدب أنَّ بِرْكة ماءٍ فيها سمكات ثلاث ؛ كيِّسَة وأكْيسُ منها وعاجِزة، قيل:

 

 فاتَّفقَ مرَّة في ذاك المكان صيَّادان، فأبْصَرا الغدير، وما فيه مِن السَّمَك، فتَوَاعَدا أن يرْجِعا ومعهما شِباكُهما لِيَصيدَا ما فيه مِن السَّمَك - هذه قِصَّة رمْزِيَّة رواها ابن المُقَفَّع في كتابه كليلة ودِمنة- قال: فسَمِعَت السَّمكات قولهما، أما أكْيسُهُنّ فإنَّها ارْتابَتْ وتخوَّفتْ وقالتْ: العاقل يَحْتاط للأمور قبل وُقوعِها، ولم تعْرُج على شيءٍ حتَّى خرجَت من المكان الذي يدْخل منه الماء من النَّهر إلى الغدير فَنَجَتْ قال: وأما الكيِّسة أو الأقلّ عقْلاً فَمَكثَتْ في مكانِها حتَّى عاد الصَّيَدان فذَهَبَت لِتَخرج من حيث خرَجَت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدّ، فقالتْ: فرَّطت وهذه عاقبة التَّفريط ! إلا أنَّها قالتْ: لكنَّ العاقِلَ لا يقْنطُ مِن منافِعِ الرَّأي، ثمَّ إنَّها تماوَتَتْ فطفَت على وَجْه الماء فأخذَها الصَّياد بيَدِهِ ووضَعَها على الأرض بين النَّهر والغدير، فوثَبَتْ في النَّهر فنَجَتْ ! قال: وأما العاجِزَة فلم تزلْ في إقبال وإدْبارٍ حتَّى صِيدَتْ وهذا المثَل ينطبق على بني البشَر فهناك العاقل جدًا، قال عليه الصلاة والسلام:
 عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[ رواه الترمذي ]

 فالعاقل دان نفْسه، بِمَعنى ضبطَ، ضَبَطَ دَخْله وتحرَّى الحلال وضبَطَ بيْتَهُ وزوْجته، وبناتِه وضبط لِسانه، وعينه وسمْعه، وضبط ما يأكله أَحَلال أم حرام ؟ وضبط ما يخرج من الكلام ! فالمؤمن كيِّس.
 أيها الإخوة الكرام، كلّ إنسانٍ يعيش لحْظته دون أن يُفَكِّر في المستقبل هو إنسانٌ غَبِيّ ! لأنَّ هذه اللَّحْظة الراهنة لا تدوم، فالدُّوَل العُظْمى تُخَطِّط لِسَنة ألفين وألفين وعشرة، والدُّوَل أقل تطوُّر تعيش بِرُدود الفِعْل، والأكْثر تَخَلُّف تتحدَّث عن ماضيها، فالذَّكاء أن تُخَطِّط للمستقبل، فالإنسان إذا أغْفل موضوع الموت من بين حِساباته اليَوْمِيَّة وأغفَل دُخول القبر، وأغْفل أنَّهُ سَيُسْأل عن كلّ ما يفعله، سوف يُصْعق عند الموت، لذلك من حاسب نفسه في الدنيا حِسابًا عسيرًا كان حِسابُهُ يوم القيامة يسيرًا، ومن حاسب نفسه في الدنيا حِسابًا يسيرًا كان حِسابُهُ يوم القيامة عسيرًا ! فالمعنى الذي بين هاتين الآيتين أنَّكَ لا بدّ أن تؤْمن بأعلى أنواع الإيمان، ولكنَّ هذا الإيمان الذي يأتي مُتأخِّرًا وعن النِّزاع، وفي فِراش الموت ؛ فهذا الإيمان لا ينْفعُكَ إطْلاقًا وكأنَّه لم يكُن، فالعِبْرة أن تؤمن في الوقت المناسب، وخِيارك مع الإيمان خِيار وَقت ؛ احْفظوا هذه الجملة.
 وكما تعلمون أنَّ الإنسان بين أيَّام ثلاثة، قالوا: ما مضى فقد فات والمُؤَمَّلُ غَيب، ولك الساعة التي أنت فيها، وكثير مِمَّن ينامون ولا يسْتيقظون، وخرج ولم يرْجع، هذا شيء بديهي، ومَن أعدَّ غدًا مِن أجلهِ فقد أساء صُحْبة الموت، فما دُمْتَ لا تمْلِكُ نِهاية الحياة، فلأسْتَغِلّ هذه اللَّحظة التي أنا فيها، وقد ورد بالحِكم أنْ هلك المُسوِّفون ! المُسَوِّف هو الذي يُؤَجِّل التَّوبة والصلاة والاسْتِغفار والاسْتِقامة.
 قال تعالى:

 

﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)﴾

 

[ سورة السجدة ]

 المستقبل في صالح المؤمن، وليس في صالح الكافر، والباطل يجول جَوْلةً ثمَّ يضْمَحِلّ أما المؤمن ينتظِر من المستقبل كلّ المستقبل، قال تعالى:

 

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 فَمُضِيّ الزَّمن في صالح المؤمن لأنَّه يزيدُه إيمانًا وتألُّقًا، وعملاً صالِحًا ولكنَّ الزَّمَن مع الكافر يَحوي مُفاجآت، فهو ينتظر عِقاب الله تعالى وتَدْمير مالهِ، وينتظر قصْم العلاقات الزَّوْجِيَّة، فالزَّمَن لا يلِدُ إلا المصائب للكفار، ولا يلِد إلا الإكرام والعطاء للمؤمنين، وفي قوله تعالى:

 

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

 

[ سورة التوبة ]

 سرٌّ، تقول: هذه الآلة لي ؛ هذه لامُ المُلْك، ولا يُمَلَّك إلا شيء ثمين، أما على فَهِي تُفيد المسؤوليَّة، قال تعالى:

 

﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)﴾

 

(سورة البقرة )

 على تُفيد القهْر، أما اللام فَهِي تُفيد التَّملّك، فالآية جاءت:

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

[ سورة التوبة ]

 فَفَرْقٌ كبير بين كتَبَ لنا وبين كتَبَ علينا !
 قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ(15)﴾

 

[ سورة الجاثية ]

 فعلى تُفيد القهْر، أما اللام فَهِي تُفيد التَّملّك.
 أيها الإخوة، نَخْلص من هاتين الآيتين إلى أنّ خِيار الإنسان مع الإيمان خِيار وَقت، وليس خِيار قَبول ورفْض، وطوبى لِمَن عرف الله في الوقت المناسب، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

((أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ جَسَدِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَعُدَّ نَفْسَكَ فِي أَهْلِ الْقُبُورِ فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا ))

[رواه الترمذي]

تحميل النص

إخفاء الصور