وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة البينة - تفسير الآيات 1 – 7 ، قصة إسلام عبد الله بن سلام و بشارة النبي له بالجنة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

قصة بين يدي سورة :

 قصة قصيرة بين يدي سورة:

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

 هذه السورة تلقي عليها قصتنا ضوءاً كاشفاً، الحصين بن سلام كان حبراً من أحبار اليهود، وكان أهل المدينة على اختلاف مللهم ونحلهم يجلونه، ويعظمونه، فقد كان معروفاً بين الناس بالتقى والصلاح، موصوفاً بالاستقامة والصدق، وكان كلما قرأ التوراة وقف طويلاً عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة يتمم رسالات الأنبياء السابقين ويختمها، وكان يستقصي أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام وعلاماته، ويهتز فرحاً، لأنه سيهجر بلده الذي بعث فيه، وسيتخذ من يثرب مهجراً له ومقاماً.
 يقول الحصين بن سلام وهو يروي قصته بنفسه: << لما سمعت بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أتحرى عن اسمه، وعن نسبه، وصفاته، وزمانه، ومكانه، وأطابق بينها وبين ما هو مذكور عندنا في الكتب، حتى استيقنت من نبوته، وتثبت من صدق دعوته، ثم كتمت ذلك عن اليهود، وعقلت لساني عن التكلم فيه، إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه من مكة قاصداً المدينة، فعندما بلغ يثرب، ونزل بقباء، أقبل رجل علينا من اليهود، وجعل ينادي في الناس معلناً قدومه، وكنت ساعتئذ في رأس نخلة أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسة تحت الشجرة، فما إن سمعت الخبر حتى هتفت: الله أكبر، الله أكبر، فقالت لي عمتي حينما سمعت تكبيري: خيّبك الله، والله لو سمعت بموسى ابن عمران قادماً ما فعلت شيئاً فوق ذلك، فقلت لها: إنه والله أخو موسى، وعلى دينه، وقد بعث بما بعث به، فسكتت، وقالت: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدقاً لمن قبله ومتمماً لرسالات ربه؟ فقلت: نعم، فقالت: فذلك إذا، ثم مضيت من توّي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرأيت الناس يزدحمون ببابه، فزاحمتهم حتى أصبحت قريباً منه، فكان أول ما سمعته من قوله: أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، فجعلت أتفرس فيه، وأتملى منه، فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فيه صدق، ثم دنوت منه، وشهدت أنه لا إله إلا الله و أنه رسول الله، فالتفت إلي، وقال: ما اسمك؟ فقلت: الحصين بن سلام، فقال: بل عبد الله بن سلام، فقلت: نعم عبد الله بن سلام، والذي بعثك بالحق، ما أحب أن لي به اسماً آخر بعد اليوم، هذا هو اسمي، ثم انصرفت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتي، ودعوت زوجتي وأولادي وأهلي إلى الإسلام، فأسلموا جميعاً، وأسلمت معهم عمتي خالدة، هذه التي قالت قبل قليل: خيبك الله، وكانت شيخة كبيرة، ثم إني قلت لهم: اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى آذن لكم، فقالوا: نعم، ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له يا رسول الله، إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإني أحب أن تدعو وجوههم إليك- أي زعماءهم- وأن تسترني عنهم في حجرة من حجراتك، ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي، ثم تدعوهم إلى الإسلام، فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني، ورموني لكل ناقصة، وبهتوني، فأدخلني النبي عليه الصلاة والسلام في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه، وأخذ يحضهم على الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره، فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه في الحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم قال لهم: ما منزلة الحصين بن سلام فيكم؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، فقال: أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون؟ قالوا: حاشا لله، ما كان أن يسلم، أعاذه الله من أن يسلم، فخرجت إليهم وقلت: يا معشر اليهود، اتقوا الله، وأقبلوا على ما جاءكم به محمد، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وتجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، وإني أشهد أنه رسول الله، وأؤمن به، وأصدقه، وأعرفه، فقالوا: كذبت، والله إنك لشرنا وابن شرنا، و جاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيباً إلا عابوني به، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أقل لك يا رسول الله: إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإنهم أهل غدر و فجور على من يعرفهم.

 

بشارة النبي الكريم لعبد الله بن سلام بالجنة :

 أقبل عبد الله على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد، وأولع بالقرآن، فكان لسانه لا يفتأ رطباً بآياته البينات، وتعلق بالنبي صلوات الله عليه حتى غدا ألزم من ظله، ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشره بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بشره بها بشارة ذاعت بين الصحابة الكرام وشاعت، وكان لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عبادة.
 قال الراوي: كنت جالساً في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس، ويستريح به القلب، فجعل يحدث الناس حديثاً حلواً مؤثراً، فلما قام قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو عبد الله بن سلام، فقلت في نفسي: والله لأتبعنه، فتبعته، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقال: ما حاجتك يا بن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون عنك لما خرجت من المسجد: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فمضيت في إثرك لأقف على خبرك، لأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة، فقال: الله أعلم بأهل الجنة يا بني، فقلت: نعم، ولكن لابدّ لما قالوه من سبب، فقال: سأحدثك عن سببه، فقلت: هاتِه وجزاك الله خيراً، قال: بينما وأنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجل فقال لي: قم، فقمت، فأخذ بيدي، فإذا أنا بطريق عن شمالي، فهممت أن أسلك فيها، فقال لي: دعها، فإنها ليست لك، فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني، فقال لي: اسلكها، فسلكتها حتى أتيت روضة غناء، واسعة الأرجاء، كثيرة الخضرة، رائعة النضرة، في وسطها عامود من حديد، أصله في الأرض، ونهايته في السماء، وفي أعلاه حلقة من ذهب، فقال لي: ارفعْ عليه، فقلت له: لا أستطيع، فجاءني وصيف فرفعني، فرقيت حتى صرت في أعلى العامود، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما، وبقيت متعلقاً بها حتى أصبحت، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصصت عليه رؤياي، فقال: أما الطريق التي رأيتها عن شمالك فهي طريق أصحاب الشمال.

﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴾

[سورة الواقعة: 41]

 وأما الطريق التي رأيتها عن يمينك فهي طريق أصحاب اليمين من أهل الجنة.

﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾

[سورة الواقعة: 41]

 وأما الروضة التي شاقتك بخضرتها ونضرتها فهي الإسلام، وأمّا العمود الذي في وسطها فهو عامود الدين، وأما الحلقة التي في آخره فهي العروة الوثقى، ولم تزل مستمسكاً بها حتى تموت، قال ربنا عز وجل:

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

تفسير البينة ومعناها :

 ما هي البينة وما تفسيرها؟ الله سبحانه وتعالى فسرها فقال:

﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾

 فالمفسرون لهم في هذه الآية مذاهب عدة، مذهبهم الأول: أن كلمة:

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

 بمعنى منتهين عن كفرهم، أو تاركين كفرهم، لم يكن الذين كفروا، من هم الذين كفروا؟ من أهل الكتاب اليهود والنصارى والمشركين، أهل مكة، عبدة الأوثان، وبعضهم قال: والمشركين من أهل الكتاب، لأن اليهود قالت: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وهم مشركون.
 على كلٍّ الذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمشركون هم أهل مكة عبدة الأوثان، لم يكن هؤلاء اليهود والنصارى ولا هؤلاء كفار مكة منفكين، بمعنى تاركين كفرهم بمحمد، أو بالدين، أو بالوحدانية، حتى تأتيهم البينة، وتفسير البينة:

﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾

كتاب الله الكريم كتاب طاهر :

 النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم بَهَرَهم بأخلاقه العلية، بَهَرَهم بمنطقه، بَهَرَهم باستقامته، بَهَرَهم بكماله وخلقه العظيم، فكان النبي صلى الله عيه وسلم بينة لهم على صدقه، وعلى صدق دعوته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هو بينة بأخلاقه واستقامته، وطهره وعفافه، وإحسانه وكرم أخلاقه، ويتلو صحفاً مطهرة، هي بينة أيضاً، وهو القرآن الكريم، سماها ربنا صحفاً مطهرة أي مطهرة من الضلال، ومطهرة من الكذب، ومطهرة من الزيف، ومطهرة من الانحراف، ومطهرة من التناقض، ومطهرة من الخلل، مطهرة من الهوى، ومطهرة من كل ما يشوب كلام البشر، هل يوصف الكلام بأنه طاهر؟ نعم.
 قد يؤلف الإنسان قصة قذرة، فإذا قرأها الإنسان ثار كالثور، هذه قصة قذرة، قد يؤلف الإنسان مقالة تدعو إلى الاختلاط، فإذا حدث هذا الاختلاط اختلطت معها الأنساب، كهذا ابن فلان، وهو لا يدري، وهذا ابن فلان، وهو لا يدري، فهل يوصف الكلام بأنه قذر؟ نعم يوصف بأنه قذر، وبأنه نجس، لكن كتاب الله الكريم وصفه الله عز وجل بأنه طاهر:

﴿ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾

الكتب و الصحف :

 ما هي الكتب؟ صحف فيها كتب، أم كتب فيها صحف؟ الأولى أن يقال: كتب فيها صحف، ولكن القرآن صحف فيها كتب، والكتب هي موضوعات، هناك موضوعات في التوحيد، فاعلم أن لا إله إلا الله، وهناك موضوعات في التاريخ، قال تعالى:

﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[سورة آل عمران: 137]

 هناك موضوعات في الحكم، هناك موضوعات في المثل، هناك موضوعات في الحقائق الثابتة كأنها قواعد، هناك موضوعات في آيات كونية، هناك موضوعات في أخبار الأولين، هناك موضوعات في آيات منتزعة من واقعنا، موضوعات القرآن كثيرة، ففيه أمر ونهي، وحكمة، وفيه مثل وتاريخ، وفيه آية كونية، وفيه آية تعيشها.

 

﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾

 هذا موضوع، والكتب أيضاً كتاب الطلاق، وكتاب المواريث، وكتاب معاملة الزوجة، والحقوق الزوجية، ولو تصفحت القرآن الكريم لوجدته منطوياً على كتب، فربنا سبحانه وتعالى وصف كتابه الكريم بأنه مطهر من الزيغ، فيه كتب قيمة، معنى قيمة أي: مستقيمة، لا عوج فيها، وقد وصف الكفار الله سبحانه وتعالى فقال:

 

﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[سورة الأعراف : 45]

 الأمور عوجاء، وأيّ تشريع أرضي فيه عوج، لأنه يحقق مصالح أناس على حساب أناس، لكن كتب القرآن الكريم كتب قيمة لا عوج فيها ولا زيغ.

﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

كل إنسان له موقف و الرابح من وقف موقف المؤيد للحق :

 حينما جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقف الكفار والذين أوتوا الكتاب مواقف عدة، وكل إنسان حينما يبلغه أمر ما يأخذ موقفاً منه، فإما أنه موقف مؤيد، أو له موقف معارض، أو موقف حيادي، والموقف هو اتجاه وفق جهة معينة، ثم الشروع بالحركة، فإذا رأى الإنسان عدواً فإنه يأخذ موقف المدافع، وقد يأخذ موقف المهاجم، وإن رأى صديقاً أخذ موقف الصديق، أو المصافحة والدعوة، فكل إنسان له موقف، قد يأتي الإنسان بحديث، فإما أن تصدقه، وهذا موقف، وإما أن تكذبه وهذا موقف آخر.
 سيدنا عبد الله بن سلام أخذ موقفاً، فسعِد بهذا الموقف إلى أبد الآبدين، وأحبار اليهود وهم يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام نبي أخذوا موقف المعاند، فشقوا بهذا الموقف إلى أبد الآبدين.
 وأنت أيها الأخ الكريم، إذا عرض عليك الحق فإما أن تأخذ موقف المؤيد المستمسك، وإما أن تأخذ موقف المعارض الجاحد، وإما أن تأخذ موقف اللامبالي المستهتر، وموقف من هذه المواقف يسعدك إلى الأبد، وموقف آخر يشقي صاحبه إلى الأبد، والحياة كلها مواقف.
 قيل عن السيدة عائشة رضي الله عنها: إنها زنت، فأخذ أناس موقف التكذيب من هذا الافتراء، فسعدوا بهذا الموقف إلى الأبد، وأخذ أناس موقف التصديق والشماتة والفرح، فشقوا بهذا الموقف إلى الأبد.
 سيدنا الصديق أخذ موقف التصديق حينما بلغه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أسري به، وعرج به إلى السماء، فسعد بهذا الموقف إلى أبد الآبدين، بينما أبو جهل وأبو لهب أخذوا موقفاً آخر، ونحن في كل عصر لابد لكل واحد منا من موقف إذا عرض عليك الحق، فإما أن تأخذ موقف المؤيد، وإما أن تأخذ موقف المتشكك، وإما أن تقف موقف المعارض المعاند، فهنيئاً لمن وقف موقف المؤيد.

معنى الإكراه وضابطه :

 حينما ضاقت على النبي عليه الصلاة والسلام السبل، وحينما ضيق عليه الأحزاب من كل جانب، واجتمعوا لاستئصاله، ونقض اليهود عهدهم ربنا عز وجل قال:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾

[سورة الأحزاب: 23]

﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾

[سورة الأحزاب: 12]

 ظهر كذبهم، إن الحياة كلها امتحانات، قد يضغط على الزوجة أن تسفر، إما أن تقف موقفاً صلباً فتقول لزوجها: طلقني، ولا أسفر، وإما أن تقف موقفاً متساهلاً فتسفر، ثم يطلقها زوجها لسبب آخر.
 قد يضغط عليك أن تفعل منكراً، فتقول: إني أخاف الله رب العالمين، هذا موقف مسعد إلى الأبد، وقد ترضخ، وتقول: إني لا أستطيع، أنا مكره، لكن ما معنى مكره؟
 اتفق الفقهاء الذي يبيح للمرء معه مخالفة الشرع الخوف على الحياة، أو الخوف على أحد أعضائه، فإنْ أكره الإنسان تحت خطر أن يموت، أو أن يفقد أحد أعضائه أن يقول كلاماً لا يرضي الله، فإن قاله فلا تثريب عليه، لأنه تحت وطأة فقدِ حياته، أو فقدِ أحد أعضائه، هذه هي الضرورات التي تبيح المحظورات.

الضرورات تبيح المحظورات :

 أما الناس فقد توسعوا في فهمِ هذه الحقيقة، فجعلوا حياءهم ضرورة، وجعلوا مشقتهم من الصيام ضرورة، يقول لك: عندي امتحان، فهل أفطر؟ قال الله عز وجل:

﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: 184]

 من لا يطيق الصيام مع السفر والمرض وأفطر فليس عليه إلا القضاء، لكن من أطاق الصيام في السفر أو في المرض وأفطر فعليه فدية وقضاء، قال تعالى:

﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة البقرة: 184]

 فكلمة: الضرورات تبيح المحظورات هذه كلمة خطيرة جداً، وقد توسع فيها الناس حتى تفلتوا من قواعد الشرع تحت اسم الضرورة، الضرورة هي: فقد الحياة أو فقد أحد الأعضاء، هذه هي الضرورة التي تبيح المحظور، لذلك:

﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

سعادة من آمن وشقاء من كفر :

 لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام أناس صدقوا رسالته، وآمنوا به فسعدوا، وأناس رفضوا فشقوا، أين أبو لهب؟

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾

[سورة المسد: 1ـ5]

 أين أمية بن خلف، أين سيدنا الصديق؟

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[سورة الأعراف: 128]

﴿ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ﴾

[سورة الشورى: 22]

 أين سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي؟ في الجنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ ))

[ أحمد عن عبد الرحمن بن عوف]

 وأنت الآن تسمع الحق، فإما أن تؤمن به، وتصدق به، وتعمل به، فأنت من أهل الجنة، وإما أن تقول: هذا كلام سمعنا به كثيراً، والحياة صعوبات وضرورات، والحياة الواقعية خلاف هذا الكلام، وهناك تيار عام، وعلينا أن نمشي فيه، مثلُ هذا الكلام الشيطاني إذا تبنّيته ربما قاد صاحبه إلى النار.

﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

معنى مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ:

 

 

1 ـ الانفكاك هنا بمعنى الترك :

 مما يروى عن هذه السورة حديثٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:

(( إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: ]لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [، قَالَ: وَسَمَّانِي؟‍‍‍‍‍‍‍‌‌ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَبَكَى ))

[متفق عليه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 كاد يصعق، من؟ أنا، من أنا يا رسول الله حتى يأمرك الله وأنت رسوله وحبيبه أن تقرأ علي هذه السورة؟ استنبط العلماء من هذه القصة أن القراءة نوعان: قراءة مدارسة وقراءة فحص، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أُبّي هذه السورة من قبيل التواضع لمن تعلم، تواضعوا لمن تعلمون، على كلٍّ الانفكاك هنا بمعنى الترك، هذا هو المعنى الأول.

 

2 ـ لن يبلغ الإنسان نهاية عمره حتى تأتيه البينة :

 والمعنى الثاني.

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

 أي لن يبلغوا نهاية أعمالهم حتى تأتيهم البينة، فلن يبلغوا نهاية عمرهم حتى تأتيهم البينة، وهذا يعني أن الله رحيم بالكفار، قال تعالى:

﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾

[سورة النازعات: 17ـ19]

3 ـ مهلكين حتى تأتيهم البينة :

 والمعنى الثالث:

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

 بمعنى مهلكين حتى تأتيهم البينة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يهلك إنساناً حتى يعرّفه بالحق، إن هؤلاء الكفار من أهل الكتاب لا يتركون صفة النبي عليه الصلاة والسلام حتى يأتيهم، قبل أن يأتيهم كانوا معتقدين به، فلما جاءهم كفروا به، وهكذا قال الله عز وجل:

﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾

[سورة البقرة:89]

 قبل أن يبعث كانوا يذكرونه للناس، سيبعث نبي صفته كذا وكذا، فلما بعث كفرتم به، سبحان الله ‍‍‍‍‍‍‍!! هذا هو المعنى الثالث.

 

4 ـ تشبث الكفار بكفرهم :

 المعنى الرابع وقد ذكره بعض المفسرين: أن يا محمد، هؤلاء الذين قالوا: إن عيسى ابن الله متشبثون بكفرهم، لأن الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[سورة المائدة:17]

ظهور سيدنا المسيح من علامات قيام الساعة  :

 هؤلاء لم يتركوا كفرهم حتى يظهر المسيح نفسه في آخر الزمان، ويقول لهم: أأنا قلت لكم إني ابن الله؟

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾

[سورة المائدة:116]

 لذلك هناك أحاديث كثيرة تبشر بظهور سيدنا عيسى عليه السلام، وقد قال الله عز وجل:

﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾

[سورة الزخرف:61]

﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴾

[سورة النساء:159]

 إن ظهور سيدنا المسيح من علامات قيام الساعة، فمن أهل الكتاب يؤمن به نبياً لا إلهاً قبل موته، وبعض التفاسير تقول: رسول من الله يعني سيدنا عيسى.

﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ*رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ﴾

5 ـ البينة هي سيدنا عيسى :

 البينة هي سيدنا عيسى، ومتى يبعث هذا النبي الكريم؟ عندما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فيأتي عيسى فيملؤها قسطاً وعدلاً.

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[سورة يونس: 24]

﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

 فعلى التفسير الأخير البينة هي سيدنا عيسى، وأهل الكتاب أصبحوا يهوداً ونصارى بعد أن جاء سيدنا عيسى.

الخلافات بين الأديان والفرق والملل والنحل من صنع البشر المنحرفين :

 هذه الخلافات بين الأديان والفرق والملل والنحل ما أرادها الله عز وجل أبداً، هي من صنع البشر المنحرفين، وهذه العداوات وهذا الحقد بين أهل الأديان و الملل والفرق ما أرادها الله عز وجل، إنها من صنع الشيطان، كلها خلافات ما أنزل الله بها من سلطان، إنها من صنع البشر المغرضين، والدليل قوله تعالى:

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾

﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾

العبادة تسبقها معرفة بالله وتنتهي بسعادة كبرى :

 هذا هو الدين الصحيح، العبادة، والعبادة طاعة تسبقها معرفة، وتعقبها سعادة، أن تقول: العبادة هي السعادة غلط، العبادة تسبقها معرفة بالله، وتنتهي بسعادة كبرى، لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[سورة الذاريات: 56]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[سورة الحج: 77]

 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين، ليعرفوا الله فيطيعوه، فيسعدوا بقربهم له، وهذا يحتاج إلى إخلاص، لذلك: يا معاذ، أخلص دينك يكفك القليل من العمل، أخلص دينك.
 وفي الأثر: يا عبد الله بن عمر، دينَك دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذي مالوا، كل هذه الخلافات ما أنزل الله بها من سلطان، عد إلى ينابيع الدين الأولى، هذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عد إلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، أو ما صحّ منها، فهي النبع العذب الفرات، ودع الخرافات والأقاويل والترهات التي ابتدعها أهل العصر، لقد أصبح الدين في هذا العصر مستنقعاً آسناً، وأصله نبع صافٍ، عد إلى النبع.
 قال سيدنا عمر لبدوي: يا بدوي! بعني هذه الشاة، وخذ ثمنها، فقال له: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: إنها ماتت، أو أكلها الذئب، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها، فقال هذا البدوي الراعي: والله إنني لفي أشد الحاجة لثمنها، ولو قلت له: ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟ هذا هو الدين كله، اليوم يحضر دروس الفقه، والتجويد، والمواريث، والحديث، ويأكل مالاً حراماً، ليس هذا هو الدين، رأس الدين هو النصيحة، ورأس الدين الورع:

(( وركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))

[ الجامع الصغير عن أنس ]

(( من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله تعالى بسائر عمله ))

[ مسند الشهاب عن أنس بن مالك]

 والله لترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة من بعد الإسلام.
 قم فصلّ فإنك لم تصلِ، من شاء صام، ومن شاء صلى، ولكنها الاستقامة.

 

على الإنسان الخضوع لله في كل الأمور :

 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين- عبادة لله خالصة لا زيف فيها، ولا رياء، ولا نفاق، ولا خلل- له الدين حنفاء، له الدين أي له الخضوع في كل الأمور، حنفاء أي مائلون عن غيره إليه، مائلون عن الباطل إلى الحق، عن الشهوات إلى الطاعات، عن المحرمات إلى القربات، عن أهل الدنيا إلى أهل الآخرة، عن أهل المتع إلى أهل العلم، عن الوحول إلى الزهور.

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾

 الصلاة تقام، ولها دعائم، من دعائمها الاستقامة، ومن دعائمها العمل الصالح، ومن دعائمها معرفة الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾

[سورة البقرة: 177]

 وأقام الصلاة وآتى الزكاة.

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾

الإسلام خلق و قيم و انضباط و أمانة :

 الأديان في هذا الزمان تشبه محلات تجارية، لافتاتها براقة، والبضاعة خاوية، ما نفع اختلاف اللافتات؟ أين البضاعة؟

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

[سورة البقرة: 62]

 كلهم عند الله سيان، كن واعياً لحقيقة الدين، عازماً لله، مستقيماً على أمره، محسناً للخلق، هذا هو الدين، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل، وذلك دين القيمة، الدين الصحيح، لو أن الناس فهموا الدين هكذا لعمّ الدين أهل الأرض، لو كان المسلمون في أوربا فقط مسلمين حقاً لعمّ الدين أهل أوربا كاملاً، لو كان المسلمون في كل زمان مسلمين حقاً لما بقي غيرهم على غير ملتهم.
 لأن الإسلام شيء عظيم؛ خلق، قيم، انضباط، أمانة، نزاهة، عفة، مروءة، استقامة، ورع، من منا لا يحب أن يكون مثل هذا الإنسان؟ فالمسلم داعية بعمله، لو كان أبكم لهدى الناس بعمله.

 

الإنسان إما أن يكون فوق الملائكة أو دون الحيوان :

 ثم قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾

 شر البرية أي شر ما برأَ الله وخلق، إن الإنسان ركِّب من شهوة وعقل، وركب الملَك من عقل بلا شهوة، وركّب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركّب الإنسانُ من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
 لا يوجد حل وسط، فإما أن تكون فوق الملائكة، وإما أن تكون دون الحيوان، وهذه الآية دليل.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾

 أحقر حيوان بنظرك تشمئز منه نفسك يكون الكافر أسفل منه، وإذا عرفت الله عز وجل فأنت فوق الملائكة.

 

وتحسب أنك جرم صغير  وفيك انطوى العالم الأكبر
* * *

 وفي الأثر: ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن، خلقت السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن، أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين، وعزتي وجلالي إن لم ترض بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك، ولا أبالي، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عمن اقترفته عليك.

 

 

علامة معرفة الله الصبر على حكمه و الاستسلام له و التوكل عليه :

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾

 أي خير ما برأ الله وخلق، قال تعالى:

﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾

 معنى جنات عدن أي: جنات يستقرون فيها إلى الأبد، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه.
 قال أحدهم: يا رب! هل أنت راض عني؟ قال: يا عبدي، هل أنت راض عني حتى أرضى عنك؟ أنا أرضى عنك إذا رضيت عني، ولن ترضى عني إلا إذا عرفتني.
 وعلامة معرفة الله الرضى في قضائه، والصبر على حكمه، والاستسلام لحكمه، والتوكل عليه، هذه علامة الإيمان.

 

كل من آمن بلسانه وطبق الشرع بجوارحه و خشي الله فهو ناجٍ :

 

 كل من آمن بلسانه، وأعلن الإسلام بلسانه، وطبق الشرع بجوارحه، و خشي الله، و خشع قلبه لله، فهو ناجٍ، قال تعالى:

﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه ﴾

 والقلب لا يخشى إلا إذا كان عالماً، لأن علامة العلم الخشية، ومن نتائج العلم الخشية، ذلك لمن خشي ربه.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور