وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة العلق - تفسير الآية: 8 - 19، الفرق بين أخلاق المؤمن وأخلاق غير المؤمن
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الله سبحانه وتعالى علَّم كل الخلائق بدءاً من الخلية :

 أيها الأخوة الكرام: وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 فالله سبحانه وتعالى علم، من علم؟ كل الخلائق بدءاً من الخلية، في كل خلية في نواتها محفظة فيها معلومات تربو على خمسة آلاف مليون أمر، من علم هذه الخلية أن تنقسم بهذه الطريقة مروراً بالجراثيم؟ لها طباع؛ لها مضادات، ولها طرائق بالتكاثر والفيروسات كما يسميها العلماء، الفيروسات جراثيم الجراثيم، أي حجم الفيروس بالنسبة إلى الجرثوم كحجم الفيروس بالنسبة إلى الإنسان، كيف عرف العلماء أن هذه الفيروسات كائنات حية؟ من تكاثرها فقط، فالذي علم علَّم كل كائن كيف يهتدي إلى حاجته، الأسماك التي تولد في أعالي النيل كيف ترحل إلى بحر الشمال؟ تنتقل من منابع النيل عبر بعض المنابع الشرقية إلى السودان ومصر ثم تخرج إلى البحر المتوسط وتتجه نحو الغرب إلى أن تعبر مضيق جبل طارق وتتجه نحو الشمال محاذية لسواحل إسبانية تعبر بحر المانش ثم تنتقل إلى بحر الشمال، الذي علم بالقلم علمها كيف تنتقل لهذه المسافات الطويلة، من هدى الطائر في طيرانه؟ الله سبحانه وتعالى، من علم النبات أنه إذا انقطع عنه الماء عليه أن يستهلك ماء الأوراق أولاً ثم ماء الأغصان ثانياً ثم ماء أغصانه الكبيرة ثالثاً ثم ماء الجذع رابعاً ولا يستهلك ماء الجذر إلا في آخر المطاف، لو أن الأمر بالمنطق لوجب أن يستهلك ماء الجذر أولاً لأنه أقرب أنواع الماء إليه، من علم النبات أن يستهلك ماء الأوراق أولاً حفاظاً على ماء الجذر الأمل الوحيد في إعادة الحياة مرةً ثانية.

آيات كثيرة دالة على عظمة الله سبحانه :

 الذي علم كل خلية، كل كائن؛ الفيروسات والجراثيم وحيوانات وحيدة الخلية، الفقاريات وكل أنواع الحيوانات، وكل أنواع النباتات، هذه النحلة من علمها صنع هذه المسدسات مِن الشمع مَن؟ وكأنها رسمت بأدوات هندسية، مَن علم النحلة أن ترقص رقصةً تشعر صويحباتها أن الزهر على مسافات بعيدة، ولها حركة أخرى تشعرها أن الزهر على مسافات قريبة، من علمها أن تهوي الخلية، من علم بعض العاملات أن يكن حارسات على الأبواب، من أعطى نحلات هذه الخلية كلمة السر لا تدخل نحلة إلى وكرها إذا لم تكن من هذه الخلية، ولا تدخل نحلة إلا إلى خليتها، وإن لم تكن من هذه الخلية لا يسمح لها بالدخول، من علم النحلات ذلك؟ من علم النحلات أن هناك عاملات لهن مهمات خاصة منهن الوصيفات ومنهن ناقلات العسل ومنهن الحارسات، منهن المنظفات، منهن معدات الطعام للملكة، من علمهن ذلك؟

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

 من علم النملة إذا أرادت أن تختزن القمح أن تأكل الرشيم لئلا ينبت القمح في مخزنها وهناك بعض الحبوب فيها رشيمان والنملة تأكل هذين الرشيمين معاً؟ الذي علم بالقلم.
 في الكبد خمسة آلاف وظيفة من علم هذه الخلية غير العاقلة أن تقوم بكل هذه الوظائف، الكبد يفرز مادة من أجل تجلط الدم ومادة أخرى هرمونية من أجل تميع الدم وإفراز هذين المادتين بشكل دقيق جداً بحيث يبقى الدم بين التميع والتجلط، فلو نقص بعض الهرمونات التي يفرزها الكبد لأصبح الدم في الشرايين كالوحل تماماً ولو نقص الهرمون الآخر لصار الدم بالشرايين مائعاً كالماء تماماً يسيل كله من جرح بسيط، من أعطى هذه الوظائف للكبد؟ من علمه أن يقوم بها؟ من علمه أن يفحص السميات؟ إما أن يقيدها وإما أن يحلها وإما أن يرسلها إلى خارج الجسم عن طريق الكلية، من علمه ذلك؟

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

القلم رمز الكتابة والكتابة رمز الثبات :

 الأرض من علمها في سيرها حول الشمس إذا اقتربت من القطر الأصغر للمسار البيضوي أن تزيد من سرعتها؟ الله سبحانه وتعالى علمها، لا شك أن الجمادات كائنات غير عاقلة فإذا بدا لك تصرف عاقل من جماد فلا بد أن يكون وراء هذا الجماد عقلاً كبيراً، أي إن كنت في مكان مرتفع ورأيت سيارةً تقف عند الإشارة الحمراء وتطلق بوقاً للطفل الذي يعبر أمامها وتنحرف عن الحفرة وأنت في مكان مرتفع تحكم بأنه لا بد لهذه السيارة من سائق عاقل، الحديد لا يدرك إذاً لا بد من رجل سائق، ماهر، عاقل، يسيِّر هذه السيارة هذه الفكرة التي ألح عليها، إن رأيت تصرفاً حكيماً عاقلاً من نبات من حيوان أعجم ما تفسير ذلك لا بد من إله علمه، وتعليم الله سبحانه وتعالى:

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

 علم كل الكائنات، علم المجرات والكواكب والأرض والشمس والقمر، وعلم جميع الكائنات الأسماك والأطيار، الإنسان، الحيوان، الأجهزة في باطن الإنسان من علمها أن تقوم بتصرفات ذكية؟

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

 القلم رمز الكتابة والكتابة رمز الثبات، فهذه البذرة إذا وضعتها في التربة تنبت أصلها هذا الثبات في القوانين، هذا الثبات توهمه بعض العلماء أن هذه البذرة مبرمجة، لا الله سبحانه وتعالى علمها ولكن تعليمه بالقلم تعليم ثابت، لا يعقل أن تزرع بذرة هذا النبات إلا وينبت أصله، هذا الثبات في الخلق توهمه الناس غرائز وتوهمه الناس في النباتات برمجة، بذرة فيها تعليمات، لكن الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ولكن تعليمه أخذ وضعاً ثابتاً مستمراً، وهذا الوضع الثابت المستمر كأنه كتابة، لذلك الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾

[ سورة الأنعام: 45]

 حيثما وردت كلمة (كتب) في القرآن الكريم تعني الثبات، تعني أن هذا قانون لا يمحى ولا يعدل ولا يبدل.

الثبات في الخصائص والاستمرار بها هذا ما تعنيه كلمة (بالقلم) :

 قال تعالى:

﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾

[ سورة المجادلة: 21]

 بمعنى الثبات قانون دائم، فلذلك الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾

 هذا التعليم رمز الثبات، أنت مطمئن، أعطى الحديد هذه القوة، وهذه القوة مستمرة فيه، حيثما وجدت الحديد في سطح الأرض فهو صلب، ثبات الأشياء واستمرارها، كل أنواع الحديد في الأرض لها ميزات واحدة، كل أنواع الفولاذ لها ميزات واحدة، كل أنواع النحاس لها ميزات واحدة، وكل أنواع الذهب لها ميزات واحدة.
 فكلمة بالقلم أي كل كائن حي بدءاً من أصغر خلية، والخلية كائن معقد، أي بدءاً من الذرة وانتهاءً بالمجرة؛ تصرفاتها وحركاتها وسكناتها من تعليم الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا التعليم أخذ شكل القوانين المكتوبة.
 إذاً علم بالقلم، الكهرباء لها قوانين من قننها؟ الله سبحانه وتعالى، الماء له قوانين، لا ينضغط، والهواء له وزن معين، والماء له وزن معين لا لون له ولا طعم ولا رائحة يتبخر في درجات دنيا من علم ذلك؟ الله سبحانه وتعالى، فهذه آية واسعة جداً يدخل بها خصائص الأشياء، الكون مؤلف من مئات العناصر، كل هذه العناصر من تصميم الله سبحانه وتعالى؛ الذرات، المجرات، الكائنات، والأحياء، النباتات، الإنسان، ملخص الكلام أن كل خلية فيها محفظة وفيها تعليمات تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة، أمر، هذا هو الأمر الإلهي الذي علم بالقلم والثبات في الخصائص والاستمرار بها هذا ما تعنيه كلمة بالقلم.

الله أعطى كل حيوان قدرة على الإبصار محدودة لكنه أعطى للإنسان عيناً وفكراً :

 قال تعالى:

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 الإنسان له وضع خاص، كل الكائنات علمها الله سبحانه وتعالى أشياء محددة بحسب وظيفتها، فالطائر علمه كيف يطير بسهولة ويسر، البط علمه كيف يسبح، السمك علمه كيف يحيا في الماء وكيف يأكل رزقه، الطفل حينما يولد علمه كيف يلتقم ثدي أمه، لكن كل مخلوق علمه الله أشياء محددة من أعلى مستوى تمشياً مع وظيفته إلا الإنسان أعطاه إمكانية التعلم وأعطاه فكراً، فالإنسان مثلاً له قدرة بصرية محدودة، النسر يفوقه في البصر، عينا الصقر تفوق الإنسان ثمانية أضعاف بدقة الرؤية، ولكن الله سبحانه وتعالى خلق مع هذه العين فكراً وهذا الفكر استطاع أن يرى المجرات، مرصد بانومار في أمريكا استطاع أن يرصد مليون ملْيون مجرة مع أن العين المجردة لا ترى إلا بعض الألوف من النجوم، الإنسان أعطاه عيناً ومع العين فكراً، بهذا الفكر وصل إلى المجرات، وبهذا الفكر اخترع الميكروسكوب فرأى الجراثيم، ثم اخترع الميكروسكوب الإلكتروني رأى به الأجسام مكبرة به تسعين ألف مرة، لذلك رأى الإنسان بهذا المجهر العجب العجاب، فالله سبحانه وتعالى أعطى كل حيوان قدرة على الإبصار محدودة لكنه أعطى للإنسان عيناً وفكراً، بالفكر رأى أشياء لا يراها أي مخلوق، الإنسان لا يطير لكنه خلق له مع هذا الجسم الذي لا يطير فكراً فركب الطائرات وطار إلى الفضاء ووصل إلى القمر، هذه الآية:

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 تشير إلى هذا الفكر العظيم الذي امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات. الإنسان ولد عارياً لكنه بهذا الفكر ارتدى أجمل الثياب والإنسان ليس له عش يأوي إليه ولا وكر ينام فيه ولا مغارة يرقد فيها، ولكن هذا الفكر جعله يبني أجمل البناء ويسكن في أفخم القصور.
 لا أدعي أن هذه الإنجازات مقبولة ولكن هذا الفكر شيء عظيم جداً حيثما وجهته أعطاك المستحيل، نقل الصوت عبر العالم، العالم صار قرية صغيرة الآن، أي إنسان بالهاتف يخبر أي مكان في العالم عن طريق هذا الفكر الذي أودعه الله سبحانه وتعالى فينا، نقل الصوت والصورة يمكن أن تشاهد مشهد بطرف العالم الآخر ينقل لك بالوسائط المعقدة.

فضل الله على الإنسان فضل عظيم بهذا الفكر :

 إذاً:

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 كأن الله سبحانه وتعالى يشير بهذه الآية أن فضل الله على الإنسان فضل عظيم بهذا الفكر، ولا مخلوق امتاز بالفكر إلا الإنسان، مجتمع من الحيوانات ولم ترتفع مجتمعات الحيوانات وترتقي منذ أن خلقت وحتى اليوم هي كما هي.
يقولون إن الإنسان أصله قرد، هل مجتمع القرود ركب طائرات؟ هل اخترع أشياء؟ قال بعضهم: إن الفرق بين الإنسان والحيوان فرق بالطبيعة لا بالدرجة.

﴿ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 أعطاه هذا الفكر، بالفكر انتقل عبر العالم وركب الطائرات، بالفكر غاص في أعماق البحار، بالفكر بنى محطات استخراج نفط وسط البحار، (علم الإنسان ما لم يعلم)، لكن الله سبحانه وتعالى سوف يخاطب الإنسان ويعاتبه يوم القيامة، يقول له: يا عبدي لقد وصلت إلى الفضاء وغصت في أعماق البحار ونقلت الصوت ونقلت الصورة الملونة واخترعت من الأجهزة ما لا يصدق وكل هذا يحتاج إلى جهد كبير، أعجزت أن تعرفني، هذا الفكر سخرته لخدمة مآربك فأعطاك المستحيل، ولو أنك بذلت مِعشار معشار ما تبذله من أجل الدنيا لعرفتني، أليس موقف الإنسان المعرض عن الله يوم القيامة مخزياً؟!!
 انظر إلى أي آلة صنعها الإنسان بالغة التعقيد، مثلاً تاجر يخبر شركة بأقصى اليابان أو بأمريكا الشمالية عن طريق جهاز، إذا ضرب في دمشق على هذا الجهاز حرف الراء، هذا الحرف ينطبع في أقصى مكان في الدنيا على الورق، هذا اختراع ليس سهلاً. الإنسان أمام هذه المخترعات سوف يحاسب ألم تعرفني؟ عرفت كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى، أخضعت كل شيء للفكر والمنطق، اتجاهك الاجتماعي وسلوكك اليومي أخضعته إلى منطق الإيمان؟ فلذلك الله سبحانه وتعالى قال:

﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

النشاط الفكري نشاط مذهل وهذا من فضل الله علينا :

 أعظم شيء أودعه الله في الإنسان هذا الفكر، وفكر الإنسان ينتقل به من الجزئيات إلى الكليات، من المحسوسات إلى المجردات، الإنسان بالفكر يصل إلى المفاهيم، ما المفاهيم؟ هذه الشجرة تنبت وتنمو لها أوراق خضراء ولها ثمار، وهذه كذلك من استقراء أنواع الأشجار يصل إلى مفهوم الشجرة، فالإنسان يتخاطب باللغة عن طريق المفاهيم.
 تقول: النحاس أي نحاس، لو وضعت قطعة نحاس أمام حيوان هل يكشف ما هذا المعدن؟ الإنسان يعرف ويتصور ويحاكم ويتذكر ويقارن ويقايس، يخترع ويكتشف، يتخيل، هذا النشاط الفكري نشاط مذهل وهذا من فضل الله علينا.

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

 والله الذي لا إله إلا هو لا أجد أن في الإمكان أن أعبر عن الحقيقة إلا بيسر يسير جداً، كلمة (علم الإنسان ما لم يعلم) هذا الكون أمامك، هذا الإنسان أمامك ماذا فعل؟ ماذا حقق في الحياة من أشياء لراحة جسده؟ ألا ينبغي أن يعرف ربه؟ قال الله سبحانه وتعالى:

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾

 مع هذا العطاء الكبير ومع هذه الدرة الثمينة التي هي الفكر التي أودعها الله فينا بها نعرف وبها ندرك وبها نشعر وبها نوازن وبها نقارن ونستنتج ونستنبط، ومع هذه الدرة الثمينة التي هي الفكر مع هذا يطغى، معنى يطغى الإنسان أي يتجاوز حده الإنساني. القرآن مجمل والتفسير فيه تفصيلي، وبلاغته في إيجازه، وإعجازه في إيجازه، قال تعالى:

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾

 يتجاوز حده مع الناس قد يأخذ ما ليس له، قد ينظر إلى ما لا يحل له، قد يعتدي على شيء ليس في حوزته هذا طغيان، يطغى على جاره، يطغى على زوجته، يطغى على أخوته وعلى أبنائه وعلى من هم دونه، ويطغى على مرؤوسيه، يطغى على أبناء حيه.

الفرق بين المؤمن وغير المؤمن أن المؤمن لا يطغى :

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾

 لماذا يطغى؟ لأنه رآه فاستغنى، حينما يرى الإنسان نفسه مستغنياً أي في أوج قوته، في أوج نشاطه، في غناه، إن كان قوياً أو غنياً، شديداً، صحيحاً أو متمتعاً بمكانة اجتماعية يطغى.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 هل يحق له ذلك؟ هل ينبغي له ذلك أن يطغى؟ أن يتجاوز حده الإنساني؟ هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن لا يطغى، الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن، مقيد يرى حجمه بالنسبة إلى هذا الكون العظيم، يرى حجمه حينما يرى ربه، عرف نفسه عرف ربه، فالمؤمن لا يطغى يقول إني أخاف الله رب العالمين، لكن غير المؤمن يطغى، يتجاوز الحد المعقول، يتجاوز الحد الإنساني، قد لا تروق له هذه الزوجة فيطلقها لأسباب تافهة هذا طغيان، جعلها مشردة قد تسقط في صحيفته، قد يطمع بالمال فيحمل ابنه على عمل السيئات من أجل تحصيل المال، هذا طغيان.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

في هذه الآية عتاب للإنسان على طغيانه :

 لو الإنسان نظر إلى وضعه حينما كان جنيناً، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ ﴾

[سورة يس: 43]

 لو أن هذا الجنين غرق في بطن أمه يد من تستطيع أن تنقذه، الإنسان ما رأى ضعفه حينما كان جنيناً، ما رأى ضعفه حينما خرج من أضيق مكان، ما رأى ضعفه حينما كان طفلاً لا يستطيع تأمين قوته ولا رد الأذى عنه كيف كان مفتقراً لأمه تطعمه وتسقيه وتنظفه وتدفع عنه الحر والقر، الآن طغى بعد أن كان رجلاً، بعد أن قوي عوده، بعد أن كثر ماله، بعد أن عز سلطانه يطغى، ألم يكن نطفة من ماء مهين.
 الحقيقة في عتاب شديد؛ الآن تطغى؟ تذكر حينما كنت طفلاً، تذكر حينما كنت جنيناً، تذكر حينما كنت حيواناً منوياً يسعى إلى البويضة، لو لم يصل إليها لما كنت أنت بهذا الحجم الكبير.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾

 الآن تطغى نسيت أصلك، خرجت من عورة إلى عورة وخرجت من عورة، من ماء مهين يستحي به صاحبه أن يُرى على ثيابه.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 أحياناً يتجبر الإنسان في بيته، يهدد، يتوعد، يشعر الآخرين أن رزقهم في يده إن شاء قطعه عنهم، يشعر الآخرين أن بيده سعادتهم وشقاءهم هذا طغيان، من أنت؟ أنت عبد فقير، ماذا تفعل لو تجمدت نقطة دم في أحد الشرايين في الدماغ؟ إن جاءت نحو البصر فقد البصر، ونحو السمع فقد السمع، نحو الحركة أصبح مشلولاً، نحو الذاكرة فقد ذاكرته، يد من تدخل إلى الدماغ وتحرك هذا الدم دون أن يتجمد:

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾

 لو أصيب الإنسان بشلل ماذا يفعل؟ لو فقد سمعه، لو فقد بصره، لو فقد عضلة المثانة التي تضبط البول كيف يكون حاله بين الناس وفي بيته؟

الإنسان بحسب معرفته بالله يتواضع :

 الإنسان العاقل يرى أصله ويرى مصيره، مصيره إلى التراب يكون إنساناً ملء السمع والبصر ثوان ويصبح أثراً بعد عين، صار تحت التراب انتهى، وأُخذَت منه كل حاجاته؛ أمواله المنقولة وغير المنقولة.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 الإنسان بحسب معرفته بالله يتواضع، بحسب معرفته بالله يقف عند حدود الله، سيدنا عمر كان وقافاً عند كتاب الله، هذه تجوز هذه لا تجوز، إني أخاف الله رب العالمين، لا أفعل هذا خوفاً من الله عز وجل ولو أني أستطيع أن أفعل هذا.
 مثَّل كفار قريش بالمؤمنين حينما قتلوهم، أخرجوه وعذبوه وائتمروا على قتله وحاربوه وفعلوا المستحيل من أجل القضاء عليه فلما مكنه الله منهم وانتصر عليهم وقتل من قتل منهم، قيل له: يا رسول الله مثل بهم، قال: لا أمثل بهم فيمثل الله بي ولو كنت نبياً. له حدود الإنسان لا يتجاوزها، أرسل خادماً فغاب طويلاً فغضب الرسول الكريم قال له: لولا خشية القصاص لأوجعتك بهذا السواك. يقف عند حدود الله هذه تجوز وهذه لا تجوز، هذه تصح وهذه لا تصح، أدق تعبير للفاجر الكافر أنه إنسان لا يخضع لقاعدة ولا لنظام ولا لقيم.

﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾

 حينما يرى نفسه مستغنياً قوياً عتيداً صحيحاً يطغى، أما المؤمن لا يزيده المال إلا تواضعاً، ولا يزيده المال إلا وقوفاً عند حدود الله، ولا تزيده القوة إلا تواضعاً لله، ولا تزيده القوة إلا وقوفاً عند ما أمر الله، وحشي الذي قتل سيدنا حمزة الذي كان من أغلى الناس على قلب النبي عليه الصلاة والسلام ومثل به وقبض الثمن، قتله مرتزقاً ليس صاحب قضية، قتله بالأجر قتله وأعتق، ومع ذلك حينما نطق بالشهادة حقن دمه، وقال عليه السلام: اجلس خلفي.
حينما دخل مكة كان عليه الصلاة والسلام يستطيع أن يقضي على أهلها قضاءاً مبرماً قال: اذهبوا وأنتم الطلقاء، الإيمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن.

دعوة من الله عز وجل إلينا أن نتتبع سلوك المعرضين :

 قال تعالى:

﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾

 لكن هذا الطغيان مسجل كله، مسجل على الإنسان كل حركة وسكنة وكلمة وهمس مسجل، والدليل:

﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾

 أيها الطاغي سوف تعود إلينا ونحاسبك عن كل أعمالك واحدة وَاحدة ولن تفلت من يدنا (إن إلى ربك الرجعى). المؤمن يقول إني أخاف الله رب العالمين.

﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى* أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 دعوة من الله عز وجل إلينا أن نتتبع سلوك هؤلاء المعرضين:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 دعوة الآية انتهت هنا، يظن الإنسان أن لها تتمة، أي أيها الإنسان تفحص هذا الرجل الذي ينهاك عن الصلاة، تفحص سلوكه تراه خائناً، تراه كاذباً، تراه أنانياً، تراه دنيئاً، تراه قذراً، وقد تراه يحب نفسه، تراه غير منصف، تراه مستعلياً، تراه متكبراً ولئيماً، هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى تفحص أخلاقه، إذا حاككته بالدرهم والدينار أخذ ما ليس له، إذا تواضعت له ظنه ضعفاً استعلى عليك، إذا جاورته تجاوز معك الحدود، إذا جلست معه كذب عليك، حدثك عن نفسه ما ليس فيها:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 هذا الذي ينهى عن الصلاة تتبع عمله لا يمكن إلا أن يكون منحرفاً وشاذاً وخسيساً ولئيماً يحب ذاته ويكره الناس جميعاً.

أخلاق الإنسان الكافر :

 قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 تتبع حياته، انظر علاقته مع زوجته مبنية على الأنانية، إن أصابها مرض عضال قال لها: ماذا أفعل بك أنت عبء علي، يطلقها، إن أعطاها أهلها نصيب من ميراثها أخذه منها وهددها بالطلاق إن لم تعطه إياه، وعندما يأخذه يطلقها.

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 إذا باعك شيئاً وشعر أنك بحاجة إلى هذه البضاعة ضاعف السعر يستغلك أبشع استغلال، يكاد يمص دمك، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) تتبع حياته، تتبع علاقته بزوجته وبأولاده، بزبائنه، بمن هم دونه تجبر، بمن هم فوقه تذلل، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) لؤم مع نفاق مع تملق مع استعلاء مع دناءة، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) لو التقى بزوجة صديقه ينظر لها نظرات شهوانية يغريها، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)، تتبع حياته وأخلاقه، سلوكه، قيمه، نشاطه، وعلاقاته الاجتماعية.
 سيدنا عمر قال: أتعرفه؟ قال: نعم أعرفه، فقال له: هل جاورته؟ قال: لا، قال له: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال له: هل حاككته بالدرهم والدينار؟ قال: لا، فقال له: أنت لا تعرفه. (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)، لو أن الإنسان الكافر أخلاقي لشك في الدين كله.

الفرق بين أخلاق المؤمن وأخلاق غير المؤمن :

 قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾

[ سورة الماعون: 1-2]

 هو نفسه، إذا قيل لك: الدين غير صحيح، الدين سلوك بشري أساسه الشعور بالضعف، والدين من صنع البشر، لا تسمع هذا الكلام وتتبع سلوك قائله، انظر أين يسهر مساءً؟ وأين يذهب ويأتي؟ تراه منحطاً، سافلاً:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 انظر أعماله غير مؤتمن، يحل لنفسه كل شيء، تدينه مبلغاً من غير إيصال لا يعطيك شيئاً، تكتب باسمه محلاً من أجل بعض الإجراءات يقول لك: هذا المحل لي، (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)، تكتب بيتاً باسمه من أجل إجراءات معينة يقول لك: هذا البيت ملكي، تضع عنده أمانة يقول لك: ليس لك عندي شيء، هذا هو غير المؤمن، لو كان غير المؤمن أخلاقياً، صادقاً، أميناً، عفيفاً لشك في الدين كله. لكن هذه صفات المؤمنين حصراً، العفة والأمانة والصدق هذه للمؤمنين، وما سوى المؤمنين إن كانوا أذكياء يخفون في أنفسهم العيوب الكبيرة فإذا استفزوا ظهروا على حقيقتهم. ربما تلقى رجلاً لا دين له، لبقاً وناعماً ولسانه لطيف يبدو أنه متواضع ما دامت الأمور على ما يريد هذه أخلاقه المصطنعة المزيفة، فإذا استفز بدا وحشاً كاسراً. أما المؤمن هو كما هو.

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

الآية التالية فيها إشارة إلى مرتبتين :

 اتبع الآن صنفاً آخر قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى*أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾

 انظر المؤمن كيف أخلاقه، وعده صحيح، عنده حياء صادق إذا وعد وفى، وإذا ائتمن لم يخن، إذا حدث صدق، إذا خاصم خاصَم بالحق، إذا دعي إلى العفو يعفو، إذا استرضي يرضى، إذا طلب مالاً له طلبه بالحسنى، إذا كان عليه أداه بالحسنى، علاقته مع بيته مبنية على التواضع، على الإحسان، إذا دخل إلى بيته كان واحداً من البيت دون استعلاء، إن كان له زوجة يحسن إليها، له أولاد يرعاهم، له جيران يحسن إليهم.

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴾

 هذا الشيء بديهي، الإنسان ذو دين تراه عفيفاً، صادقاً، أميناً، جاء جندي بتاج كسرى بكامله وضعه أمام عمر، فقال سيدنا عمر: سبحان الله، ما هذه الأمانة؟ تاج ثمنه ملايين كله جواهر نفيسة يحمله جندي بمفرده ويأتي به من المدائن إلى المدينة، لماذا لم يذهب به إلى القسطنطينية كان عاش ببحبوحة طول حياته، قال له: سبحان الله، فقال سيدنا علي: أعجبت من أمانته لقد عففت فعفوا ولو وقعت لوقعوا:

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾

 عامل مؤمن يحفظ القرش محفوظ لأنه يخاف من الله عز وجل، يحاسب نفسه على الشعرة، ناس يعملون ببعض السلع ترى تساهلاً في تعاملهم، بينما المؤمن منهم ورع يقول لك: هذا ليس لي، المؤمن ورع وصادق وعفيف صاحب نخوة ومروءة، شجاع لا تأخذه في الله لومة لائم لا ينافق ولا يستخذي، لا يخنع ولا يتكبر ولا يتجبر ولا يحتقر الآخرين.

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 هذه واحدة:

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾

 هذه الثانية، إذا كان على الهدى هو مؤمن أما إذا ارتقى إلى أهل التقوى وصار تقياً، لم يهمه نفسه صار همه الآخرين أن ينجو وينجي الآخرين من عذاب النار. هذه الآية فيها إشارة إلى مرتبتين أرأيت إن كان على الهدى؛ مؤمن، أو أمر بالتقوى، بلغ التقوى وصار يأمر الناس بالخير.

التولي من نتائج التكذيب والتكذيب أحد أسباب التولي :

 قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾

 كذب بالحق وأدار ظهره له لأن هنا مجاوزة، كذب وتولى لو أنه كذب ولم يتولى لما كذب، علامة التكذيب التولي ومن دلائل التولي التكذيب. نقول لإنسان: لماذا لا تحضر مجالس العلم؟ يقول: مشغول، هذا ظاهره، أما ماذا في أعماقه؟ الدرس لا قيمة له عنده. التولي علامة التكذيب، التولي من نتائج التكذيب والتكذيب أحد أسباب التولي.

﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى*أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾

 الله يرى كل شيء، هذه الآية وحدها تكفي، كل إنسان الله يراقبه، يعرف ماذا في نفسه وبأعمق أعماقه يراه، مكشوف أمام الله عز وجل، خواطرك ورغباتك، تكلمت كلاماً مبطناً لك غاية أخرى:

﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾

 هذا تهديد من الله عز وجل، يا عبادي أنا مطلع عليكم، على سرائركم، على خواطركم، على ألسنتكم، على قلوبكم:

﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾

نحن مدعوون من قبل الله عز وجل أن نرى بأم أعيننا المعرضين عن الله والمؤمنين:

 الله عز وجل قال:

﴿ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[ سورة النحل: 36]

 أي اتبع، انظر المؤمن كيف نهايته سعيدة وانظر الفاجر نهايته شقية، انظر الذي يخون الناس في أموالهم نهايته الفضيحة والخسران والفقر انظر الأمين نهايته السعادة والغنى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى ﴾

 انظر نهايته، نهايته فضيحة، الإنسان له أيام معدودة في هذه الأيام إما أن يثبت أنه مؤمن إنساني أخلاقي وإما أن يثبت العكس، إن ثبت العكس فالنهاية وخيمة.
 نحن الآن مدعوون من قبل الله عز وجل أن نرى بأم أعيننا هؤلاء المعرضين كيف أخلاقهم؟ وكيف سلوكهم؟ وكيف علاقاتهم الاجتماعية؟ وكيف مصيرهم؟ وهؤلاء المؤمنون أخلاقهم العلية الرضية، صفاتهم الراقية، أمانتهم صدقهم هذه دعوى من الله، قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى*أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى*أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى*أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى*أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾

 ورحمة الله تقتضي أن هذا المكذب المتولي وهذا الذي ينهى عبداً إذا صلى لا بد من أن يعالجه الله عز وجل، الإنسان يعطى فرصة.

الله عز وجل يمهل ولا يهمل :

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 الناصية الرأس، والرأس مركز المحاكمة والفكر:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 السفع هو الضرب واللطم، لا أحد ضربك ولكن خبر مؤلم فكأنك قد لطمت، هذا الذي يتعدى يطغى يتجاوز لا بد من علاج حازم له بقدر الانحراف، الانحراف الشديد يحتاج إلى سفع شديد، لنسفعاً اللام لام التأكيد والنون نون التوكيد الثقيلة، أي هذا المعرض هذا الذي ينهى عبداً إذا صلى، هذا الذي كذب وتولى، لنسفعاً بالناصية لا بد أن نصيبه بمشكلة كبيرة بحجم انحرافه، هنا المؤمن تأتيه أشياء صغيرة، ما من عثرة واختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر، لكن في أشخاص انحرافهم شديد جداً والمصائب التي يقدرها الله لهم كبيرة جداً قد لا يقوون على تحملها قال تعالى:

﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 286]

 أحياناً نمرض مرضين جميع أدوية هذا المرض تزيد هذا المرض وجميع أدوية هذا المرض تزيد هذا المرض، مرضان متناقضان يقول الأطباء لا نستطيع أن نعطيه أي دواء.
 عملية جراحية مؤلمة جداً من دون بنج لأن البنج يتعب القلب، يصرخ ويتألم (لنسفعاً بالناصية)، هناك مصائب فوق احتمال طاقة البشر لماذا ساقها الله للبشر؟ لأن حجم انحرافهم كبير، الإنسان لا يتجبر ولا يطغى ولا يتجاوز حده الإنساني مع أي إنسان، بدءاً بزوجته، معه فرصة، الله عز وجل يمهل ولا يهمل.

أشد أنواع المصائب أن يرافقها إذلال :

 قال تعالى:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 هذه الفرصة يظنها الأحمق أنها لا شيء والله لم يبعث له شيء وهذا منتهى الحمق والغباء، وأن يكون الإنسان في صحة وبحبوحة ومال وفي مكانة اجتماعية وهو منحرف ويظن أن الحياة للأقوى، أنا قوي لا أخاف أحداً، لا هذه فرصة منحت فرصةً وبعدها العلاج:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 لا تنسوا لام التوكيد ونون التوكيد الثقيلة أي حتمية المعالجة لنسفعاً بالناصية. المصائب بأنواعها؛ مصائب النفس، مصائب الأولاد، مصائب القهر، مصائب الذل، هذه المصائب البلاغة في القرآن الكريم شملتها في كلمة واحدة: (لنسفعاً بالناصية)، تحترق يد الإنسان هذا الحرق يؤلمه لكن لو ضربته على وجهه ضرباً مبرحاً أمام الناس هذا الضرب مؤلم ومذل، أشد أنواع المصائب أن يرافقها إذلال، هناك أمراض مؤلمة لكن ليس فيها ذل، الإنسان يصيح منها لكن لا يهان، ربنا عز وجل على قدر انحراف الإنسان:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 أي ضرب على الوجه.

الناصية التي سفعت ناصية كاذبة خاطئة أما الصادق المستقيم فلا يستحق إلا التكريم:

 قال تعالى:

﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾

 هذا الوجه لماذا لطم؟ لأنه كاذب مخطئ، ناصية كاذبة خاطئة إذا أراد الله به تأديباً وعلاجاً من يستطيع أن ينقذه من الله؟ لا أحد، قال تعالى:

﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾

[ سورة الرعد: 11]

 كن فيكون، قال تعالى:

﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

[ سورة فاطر: 2]

 قد يكون معه ألوف الملايين وجاءه مرض خبيث لا أمل وآلام لا تحتمل، ماذا يفعل بالملايين هناك والموت حق، لكن قبل الموت عذاب سنوات:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾

 من يجيرك من عذاب الله؟ إذا كان الله عليك فمن معك؟ هناك مصائب لا قيمة للمال في حلها، أحياناً تنهار سمعته لو دفع مئات الألوف وصمة عار في حقه:

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

 هذه الناصية التي سفعت ناصية كاذبة خاطئة، أما الصادق المستقيم فلا يستحق إلا التكريم.

إذا قرر الله مصيبة لإنسان

 كل الذين يظنهم

 

أصدقاءه يتخلون عنه ويتركونه :

 

 قال تعالى:

﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَه ﴾

 استجر بمن تعرف، هذا كلام فارغ، إذا الله عز وجل قرر مصيبة لهذا الإنسان كل هؤلاء الذين يظنهم أصدقاءه يتخلون عنه ويعتذرون وينسحبون ويبقى وحده تحت المطرقة الإلهية.

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾

 فليدع هؤلاء الذين هم معه أشداء أقوياء يعينونه، أين هم؟

﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾

 أي:

﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾

[ سورة المدثر: 31]

 سمعت ببعض الدول المتقدمة جداً في العلم والحضارة والمتخلفة جداً في الأخلاق، جاء مرض على الحمضيات كافحته هذه الدول بالمبيدات، ليس لهذا المرض علاج إلا حرق المزرعة بكاملها، وحدود الحرق مئة وخمسين متراً زيادة عن المزرعة، بعض المزارع في كاليفورنيا تمد العالم بنصف ما يحتاجه من حمضيات وأصيبت بهذا المرض وأحرقت.
 هناك أمراض جنسية، الهربز ليس له حل، كل ما تملك الدول العظمى من إمكانات وهذا المرض ليس له حل، وملأ قلوب الناس بالذعر، كلما التقى رجل بامرأة تسأله: أمعك هربز من شدة الخوف والقلق.

عندما يريد ربنا عز وجل أن يذل قوماً لا يحتاج إلى أسلحة :

 عندما يريد ربنا عز وجل أن يذل قوماً لا يحتاج إلى أسلحة يبعث جراثيم لا ترى بالعين، قال تعالى:

﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾

[ سورة المدثر: 31]

 هذه جنود جرثوم الهربز بأمر الله عز وجل، الكوليرا شيء غريب؛ ينتقل الماء بجسم الإنسان من الأمعاء إلى الداخل، الجرثوم يعكس الآية ينقل كل الماء الداخل للخارج بخمس ساعات يموت.

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾

 الإنسان تحت ألطاف الله عز وجل، وإذا تعطل مركز يحتاج الإنسان كل ساعة حبة من علاج من أجل أن يبقى حياً، مثلاً إذا نمت الساعة التاسعة يجب أن تستيقظ الساعة العاشرة لتأخذ حبة، والساعة الحادية عشرة، وهكذا دواليك، عملية صعبة جداً.
 هذا مركز التنفس الآلي هل يشعر به أحد؟ مركز ضبط السوائل فوق الكلية في الكظر إذا تعطل عندها يقضي الإنسان أربعاً وعشرين ساعة بين الصنبور والمرحاض.
 أحياناً ينحل دم الإنسان يحتاج كل أسبوع إلى ثلاثين سنتيمتراً من الدم، الكلية تتوقف فجأةً لا حل لها إلا الزرع، ونجاح العملية ضئيل كورتيزون طوال الحياة أو غسيل كلية كل أسبوع مرتين.

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ﴾

الإنسان كلما حزبه أمر فليبادر إلى الصلاة :

 الله عز وجل عنده أدوية لا يعلمها إلا هو، في الجسم مليون مرض وكل مرض يظنه صاحبه أصعب مرض.

﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَاً بِالنَّاصِيَةِ*نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ*فَلْيَدْعُ نَادِيَه*سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ*كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

 قال عليه الصلاة والسلام:

(( أقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ ساجِدٌ ))

[مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه ]

 لذلك كان عليه الصلاة والسلام يسجد لله حين تأتيه نعمة وسماه العلماء سجود الشكر، أحياناً يسجد لله ويسأله حاجة، فالإنسان كلما حزبه أمر ليبادر إلى الصلاة.

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

 تشبيه بسيط؛ جندي في ثكنة تلقى أمراً من عريف وتلقى أمراً من لواء، والأمران متعاكسان، عليه أن يطيع من؟ أحياناً يتناقض أمر العبد مع أمر الرب، الله قال: لا تطعه واسجد واقترب، عندما يخاف الإنسان من عبد ويعصي الله عز وجل إيمانه صفر، لا يعرف الإيمان إطلاقاً لأنه خاف من عبد ضعيف لا يقوى على شيء، وعصى رافع السماء بلا عمد، ربنا عز وجل قال:

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

 أي أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى، لا تطعه واسجد واقترب، صل لأن هذه الصلاة أمر من عند الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، لا تطعه في كل أمر، في العلاقات المالية والشخصية، بالاختلاط، بالطعام والشراب، لا تطعه واسجد واقترب.

آيات التوحيد :

 لا تطعه الله نهانا عن هذا اللحم وهذا المشروب وهذه السهرة والحفلة وعندما يخاف الإنسان من مخلوق هذه علامة ضعف إيمانه، قال تعالى:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾

[ سورة الكهف: 26 ]

 لا أحد في الأرض شريك مع الله في الحكم قال تعالى:

﴿ إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾

[ سورة الأنعام: 57]

﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾

[ سورة غافر: 20]

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾

[سورة هود: 55]

 هذه آيات التوحيد:

 

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

 لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذه الآية واضحة وضوح الشمس، في الصيام، في الصلاة، في مشروب حرمه الله، في حفلة حرمها الله دعيت إليها ضُغِط عليك لا تطعه واسجد واقترب، اذهب وصل فأنت مع الواحد الديان ومع الواحد الذي لا إله إلا هو، قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

[ سورة الزخرف: 84 ]

 هذا الإيمان:

﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور