وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0354 - قيمة الحب1 ، من هم الذين لا يحبهم الله ؟ - النذير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الاولى
 الحمد لله، ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا لرُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر، ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الأكارم، قبل أسبوعَين كان موضوع الخطبة ؛ إنّ الله يحبّ المحسنين، والتوابين، والصادقين، إلى آخر الآيات التي تمّ شرحها بفضْل الله عز وجل.
 ولهذا الموضوع تَتِمّة، تَتِمّة هذا الموضوع ؛ من هم هؤلاء الذين لا يحبّهم الله عز وجل ؟ وقبل أن نتحدَّث عنهم، ما قيمة الحبّ في حياة الإنسان ؟ أيها الإخوة الأكارم، لا شكّ أنّ الإنسان فمٌ مفتوح ليأكل، وقلبٌ يحبّ، وعقلٌ يدرِك، أي أنّ في الإنسان جانبًا مادِّيًا، يتساوى فيه الإنسان مع كلّ البهائم، وفي الإنسان جانبٌ عقلي، أوْدَعَ الله فيه قوّة إدراكيّة، وفي الإنسان جانبٌ انفعاليّ عاطفيّ شعوري، وأيَّةُ دَعوةٍ تُخاطب العقل وحْدَهُ لا تنْجَح، وأيّة دعوةٍ تُخاطب القلب وحدهُ لا تنجح، لا بدّ من أن تخاطب العقل والقلب معًا، لأنّ الإنسان عقلٌ يدرك، وقلبٌ يحبّ، بل إنّ العقل في خِدمة القلب، لِقَول النبي عليه الصلاة والسلام:

((أرْجحكم عقلا أشدكم لله حبًّا...))

 كلّما نما عقلك نما حبّك.
 يا أيها الإخوة المؤمنون، النبي عليه الصلاة والسلام في حديثٍ جامعٍ مانعٍ يقول: عِشْ ما شئْت فإنّك ميّت، وأحْبِب ما شئْتَ فإنّك مفارق، واعْمَل ما شئْت فإنّك مَجزيّ به، كلماتٌ قليلة تنْطوي على معانٍ كثيرة، عِشْ ما شئْت، الليل مهما طال فلابدّ من طُلوع الفجر، والعمْر مهما طال فلا بدّ من نُزول القبر، من لوازم الموت أنّه ينهي كلّ حبّ، إذا أحْببْتَ المال فسوف يزول المال، إما أن يزول عنك، أو أن تزول عنه، إذا أحْببْتَ النِّساء، إما أن تزول عنهنّ، أو أن يزلْن عنك، إذا أحببْتَ العلوّ في الأرض فلا شيء يدوم إلا الواحد القيّوم، الليل مهما طال فلابدّ من طُلوع الفجر، والعمْر مهما طال فلا بدّ من نُزول القبر، من هو البطَل ؟ من هو الذكيّ ؟ من هو العاقل ؟ من هو الفائز ؟ من هو الناجح ؟ من هو المتفوّق ؟ الذي يحبّ ما يبقى، إذا أحْببْتَ ما يفنى فأنت مغبون، إذا أحْببْتَ شيئًا ينتهي عند الموت، فأنت لسْتَ عاقلاً، أحِبّ ما يبقى، قال تعالى:

 

﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾

 

[ سورة الرحمن ]

 عبدي، في أوّل ليلةٍ يوضع فيها في القبر، يقول الله عز وجل: رجعوا فتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحيّ الذي لا يموت، أنت مع الله إلى أبد الآبدين، ألا ينبغي أن تحبّه الآن ؟ ألا ينبغي أن تتعرّف إليه ؟ ألا ينبغي أن تعرف ماذا يحبّ ؟ وماذا يكره ؟ امرأة ذكِيّة عاقلة، في ليلة زفافها، سألَتْ زوجها: يا أبا أميّة إنّني امرأة غريبة، لا أعرف ما تحبّ، ولا ما تكره، فقُل لي ما تحبّ حتى آتِيَه، وما تكره حتى أجْتنبهُ، مِن أجل حياةٍ قصيرة، أمرها عقلها أن تسأل زوجها ماذا يحبّ ؟ وماذا يكره ؟ من أجل حياةٍ أبديّة لا تنقضي، ما معنى الأبد ؟ لو أنّ واحدًا في دمشق والأصفار ؛ الصّفر تلو الصّفر بينهما ميلي متر واحد إلى القطب الشمالي وإلى القطب الجنوبي، وإلى دمشق ثانيةً، وهذا رقمٌ محدود، هل تعلم ما هي اللانهاية ؟ كيسٌ من الدقيق كلّ ذرّة دقيق مليون مليون عام، ومع ذلك هذا الكيس ينتهي، رقمٌ محدود، اللانهاية شيءٌ أكبر من ذلك، هذا معنى خالدين فيها أبدًا، أشيءٌ قليل أن نضيّع آخرةً مديدة بِحَياةٍ دنيا قصيرة ؟ فيا أيها الإخوة المؤمنون، العاقل يعرف ما يحبّ، لا يحبّ شيئًا فانيًا ينتهي عند الموت، لا يتعلّق عند مخلوقٍ، لا يتعلّق بِمُتْعةٍ، بِشَهوةٍ، لا يتعلّق بشيءٍ لا يُمدّه بِسَعادةٍ أبديّة، من هنا كانت قيمة الحبّ، لكنّ الموضوع دقيق جدًّا، يجب أن تحبّ الله، ويجب أن يحبّك الله، لا يكفي أن تحبّه، أنت غارقٌ في النِّعَم ؛ نِعمة الوُجود، نِعمةُ الإمداد، نِعمةُ الأعضاء، نعمة الأجهزة، نِعمة القدرات، نِعمة الملَكات، نِعمة العقل، نعمة الأهل، نعمة الأولاد، نعمة الكسب، نعمة الرّزق، نعمة المأوى، أيّ عضْوٍ من أعضائك، أيّ جهازٍ من جهازك، أيّة غدّة من غددك إذا تعطّلَتْ قلبَتْ الحياة جحيمًا، لا تُطاق، أيُّ شيءٍ في جسدك إذا أصابهُ خلل قلبَ الحياة إلى جحيم، فأنت غارقٌ في نِعَم الله تعالى، فأن تُحِبّ الله شيءٌ بديهي، ولكنّ البُطولة أن يحبّك الله، كيف يحبّك ؟ هذا هو موضوع الخطبة.
 في خطبةٍ سابقة بيّنْتُ لكم أنّ محبّة الله مُقنّنة ؛ يعني لها قانون، أشخاصٌ كثيرون يحبُّون بِأَمْزِجَتهم، ليس هناك قاعدة، يُحبُّون شخصًا فيُغْدقون عليه العطايا، ويبغضون شخصًا فيحْرِمونهُ كلّ شيء، لو سألتهم لماذا ؟ لا يُجيبون، ولكنّ رحمة الله بنا، هذا الحبّ الذي نسْعدُ به إلى أبد الآبدين مُقنّن أيْ له قانون، وهذا القانون مستنبطٌ من كتاب الله، في الأسبوع قبل الماضي بيَّنْتُ لكم أنَّ هناك صفاتٍ إذا توافرَتْ في العبْد أحبَّه الله تعالى ولْيَكُن من كان، كلّنا عبادهُ، لا أنسى هذه الكلمة التي قالها سيّدنا عمر بن الخطاب لسيّدنا سعْد بن أبي وقاص، وسعْدُ وما أدراكم ما سعْدُ، إنّه خال رسول الله، كان إذا دخل على النبي يقول: هذا خالي، أروني خالاً مثل خالي، كان النبي يحبّه حبًّا جمًّا، كان يُداعبهُ دائمًا، في معركةٍ من المعارك الحاسمة كان يرمي عن رسول الله، يقول له: يا سعْدُ، ارْمِ سعْدُ فِداك أبي وأمّي، ما هذا المقام ؟ ما فدى النبي عليه الصلاة والسلام صحابيًّا من أصحابه إلا سيّدنا سعْد، ارْمِ سعْدُ فِداك أبي وأمّي، دقّقوا ‍! ماذا قال له عمر ؟ يا سعْدُ، لا يغرنّك أنّك خالُ رسول الله، فالخلق كلّهم عند الله سواسيَة، هذا كلامٌ لنا جميعًا، أنت عبْدٌ لله، لا تقل: الله حرمَنِي ! الله لا يحبّني، لا يريد أن يهْدِيَني، هذا كلام الشيطان، ما دُمْتَ إنسانًا فأنت عبْدٌ لله، والله عز وجل شرّفَكَ حينما أضافك إلى ذاته، قال تعالى:

 

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

 

[ سورة الزّمر ]

 أنت عبدٌ لله، ؟ يا سعْدُ، لا يغرنّك أنّك خالُ رسول الله، فالخلق كلّهم عند الله سواسيَة، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له، الطاعة وحْدها تقرِّبُك، والمعصيَة وحْدها تُبْعِدُك، والله سبحانه وتعالى يحبّك، إذا كنتَ محْسنًا - موضوع الخطبة السابقة - وإذا كنت توّابًا، وإذا كنت متطهِّرًا، وإذا كنت متصدِّقًا، وإذا كنت صابرًا، وإذا كنت متَّقِيًا، ولكنّ الشيء الخطير، متى لا يحبّ الله عبدًا من عباده ؟ هذا موضوع هذه الخطبة.
 إنّ الله لا يحــبّ المعتدين، صلِّ ما شئْت، وصُمْ ما شئت، وحجّ كلّ عام، وافْعَل من العبادات ما لا تطيق، وإذا اعْتَدَيْتَ على مخلوق، لا على مسلم، لا على إنسان، على حيوان، إذا اعْتَدَيْتَ على مخلوق خلقه الله عز وجل، وسخّره لك فالله لا يحبّك، عندئذٍ لا قيمة لعِباداتك، ولا لِصَلواتك، ولا لِصِيامك، ولا لِحَجّك، ولا لِزَكاتك، إنّ الله لا يحبّ المعتدين، هناك عُدوانٌ على الزّوجة، عُدوان أدبي، وعُدوان مادّي، هناك عُدوان قليل، وهناك عُدوان كبير، هناك عُدوان باللّسان، هناك عُدوان بالقلب، هناك عُدوان بالنّظَر، نظرةٌ مع ازْدِراء، هناك عُدوان بالإشارات، هناك عُدوان بالحِسابات، هناك عُدوان بالمواقف، هناك عُدوان بالتخلّي، إنّ الله لا يحبّ المعتدين، فإذا أردْت أن يحبّك الله عز وجل، فإيّاك أن تكون معْتَدِيًا، إيّاك أن تعلّق حُقوق الناس برقَبَتِك، إيّاك أن تسْلب من الناس مالهم، أو شُعورهم بالراحة، أو طمأنينتهم، إيّاك أن تعتدي على مخلوق حتى يحبّك الله عز وجل.
 أيها الإخوة الأكارم، هناك قاعدةٌ أصوليّة، وهي أنّ ترْك المفاسِد مُقدّم على جلب المنافع، يعني أن تبتعِدَ عن العُدوان والفساد والإفك والظّلم والاختيال والفخر والخيانة والظّلم والإسراف والاستكبار، والفرح بغير حقّ، أنْ تبْتَعِدَ عن هذه مُقدّم على أن تفْعَلَ على ما يحبّ الله عز وجل لأنّك إذا فعلْت ما يحـبّ الله عز وجل ووقعْتَ في بعض هؤلاء حبِطَ عملك وردَ في بعض الأحاديث أنّ السيِّدة عائشة رضي الله عنها بلغها أنّ بعضًا مِمَّن جاهَدَ مع رسول الله قد فعَلَ معْصِيَةً كبيرة، فقالَتْ لفُلان: إنّه أبْطَلَ جِهادهُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لا تغترّ بِصَلاتك وصيامك، معصيَة من هذه المعاصي، عُدوانٌ من العدوانات، عدلُ ساعةٍ يعْدِل عبادة ستّين عامًا، لا تعتدي، لا تعتدي على أحد ؛ لا على قريب، ولا على بعيدٍ، ولا على مخلوقٍ، ولا على حيوان، قال تعالى:

 

﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾

 

[ سورة الفرقان ]

 يعني إذا أردت أن تقتلَ عقربًا يجب أن تقتلهُ بالحقّ، أن تقتلهُ بِضَربةٍ واحدة، ألاّ تعذّبهُ، هذا إذا أمرك أو سمح لك أن تقتلَ هذه الحشرة، فلذلك أيّها الإخوة سألقي على مسامعكم الأعمال التي إذا فعلها الإنسان لا يحبّه الواحد الدّيان.
 إنّ الله لا يحبّ المعتدين، هذه مجموعة من كتاب الله كلّه مع حذف المتكرّر، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

 

[ سورة المائدة ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾

 

[ سورة المائدة ]

 قال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 قال تعالى:

 

﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 قال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾

 

[ سورة الأنفال ]

 قال تعالى:

 

﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾

 

[ سورة النحل ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾

 

[ سورة الحج ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾

 

[ سورة القصص ]

 هذه القائمة من الآيات التي وردَت في القرآن الكريم حصرًا مع حذف التكرار تبيِّن لك أنّ كلّ واحدةٍ منها إذا فعلتها خسرْتَ كلّ شيء، ماذا خسِرْت ؟ خسِرْت حبّ الله، وإذا خسرْتهُ خسِرْتَ كلّ شيء، وعندئذٍ لا وزْن لِعِباداتك، ولا قيمة لِصَلواتك، ولا شأْن لِحَجِّك ؛ لأنّ الله لا يحبّك، وإذا لم يحبّك الله عز وجل أبْعَدَك عنه، شعرْت بالوَحْشَة، شعرْت بالضِّيق، شعرت بالضّياع، شعرْت بالقلق، شعرت بأنّ جبالاً، وهمومًا كالجبال تربض على قلبك وإذا أحبّك الله تعالى قرّبَكَ، وإذا قرّبكَ أذاقك طعْمَ القُرْب، وإذا ذُقْتَ طعم القُرْب عندئذٍ تقول:

 

فليْتَكَ تحلو والحياة مريـرــةٌ  وليْتَكَ ترضى والأنام غِضابُ
وليْتَ الذي بيني وبينك عامـرٌ  وبيني وبين العالمين خـرابُ
إذا صحّ منك الوصْل فالكلّ هيِّنٌ  و كلّ الذي فوق التراب ترابُ

 إذا ذُقْت طعْم القُرْب قلتَ كما قال يزيد البسطامي: لو يعلمُ المُلوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسُّيوف، إذا ذُقْت طعْم القُرْب هانَتْ عليك كلّ مُصيبة ورضيتَ باليسير من العيش نظير ما حظيتَ به من قُرْب الله عز وجل عندئذٍ تقول: يا ربّ ماذا فقدَ من وجَدَك ؟! وماذا وجَدَ من فقَدَكَ ؟!
 يا أيها الإخوة الأكارم، موضوع خطير جدًّا، موضوعٌ مصيريّ، أنْ يحبَّك الله، أنْ تُحِبَّهُ شيءٌ بديهيّ، لأنَّكَ غارقٌ بالنِّعَم، نِعْمةُ السّمْع والبصَر، نعمةُ الشّمّ، نِعْمة البيان، نِعمة الأعضاء والحركات، نِعَمٌ لا تُعَدّ ولا تُحصى، ماذا أقول ؟ لو أنّ عضلةً واحدةً في جِسْمكَ تعطَّلَتْ، ولْتَكُن عضلة المثانة، أيْن مكانتُك في المجتمع ؟ لا بدّ مِن وَسائِلَ تمْنَعُ عنك هذا البَول، أيْن كرامتك ؟ أقربُ الناس إليك ينْبذُك، يتهرّب منك، يتمنى لك الوفاة، عضلة المثانة وحدها، لكم اسْترْخَت، دسّامٌ في القلب، لو لم يكن محْكمًا، تحتاجُ إلى سفرٍ طويل، وإلى ألوف الألوف، من أجل تركيب دسّام صِناعي، ولهُ صوتٌ في الليل يُزعِجُك، أين أنت ؟ أنت غارقٌ في النِّعَم، أنْ تُحبّ الله شيءٌ بديهي، إن كنت بطلاً عليك أن تسعى كي يحبّك الله عز وجل، والدليل قوله تعالى:

 

 

﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

 

[ سورة المائدة ]

 قدّم حبّ الله على حبّهم له لأنّ حبّ الله هو الأصْل، الأصلُ أن يحبّك الله، أما أن تحبّه وأنت مقصِّر فهذا نِفاق، هناك أُناسٌ كثيرون إذا سألتهم عن أحوالهم يقبِّلون أيديهم ؛ الحمد لله ! الله يحبّني وأعطاني، وهو مُقيمٌ على معاصي الله دخْلُهُ فيه شبهات، علاقاته الاجتماعيّة ليْسَت منضبطة بالشّرع، بيتهُ ليس مسلمًا، فأن تحبّ الله شيءٌ بديهي، وكلّ مخلوقٍ إذا أحْسنْت إليه يحبّك، قال:

 

ليس من يقطع طرقًا بطلاً  إنما من يتقي الله البطَل

 البُطولة أن تُراجع هذه الآيات ؛ الآيات التي تبدأ إنّ الله لا يحبّ، لئلاّ يحْبطَ عملك، لئلاّ تُجمع كلّ صلاتك في حياتك فتقذف في وجهك، إذا الإنسان كان معتديًا على الآخرين، مسيء للخلق، لا يرْحمهم، لا يعطفُ عليهم، إذا اعْتَدَى على حيوانات، إذا قتل عصفورًا لغير مأكلةٍ يأتي يوم القيامة وله دوِيّ كَدَوِيّ النحل، يقول: يا رب، سلْهُ لما قتلَني ؟ لمْ يأكلني ! هذا إذا بنَيْت هِواياتك على إيذاء المخلوقات، إذا بنَيْت مجْدكَ على أنقاض الآخرين، إذا بنَيْتَ غِناكَ على فقْرِهِم، إذا بَنَيْتَ حياتك على مَوْتِهِم، إذا بنَيْتَ أمْنَك على إخافتهم، أنت مُعتدٍ، لا قيمة لصلاتك، ولا لِصَومِكَ، ولا لِحَجِّكَ، ولا لِزَكاتك.
 يا أيها الإخوة الأكارم، كتاب الله بين أيدينا، كلامُ الله عز وجل كلامُ خالق الكون، يجبُ أن تأخذهُ مَأْخَذَ الجِدّ، يجب أن يكون لك موقفٌ واضحٌ جدًّا من كلام الله تعالى، إنّ الله لا يحبّ المعتدين، إيّاك أن تعتدي، إيّاك أن تعتدي على نمْلة، الدليل حديث:

 

 

((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت))

 

[ رواه أحمد ]

 وحديث :

 

((ذكر له امرأة وكثرة صومها وصلاتها لكن تؤذي جيرانها فقال "هي في النار))

 

[ أخرجه ابن حبان ]

 شيءٌ مخيف، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 المؤمن مركز إشعاع للخير، وموْضِعُ ثِقَة، وطمأنينة، يُقْبِلُ الناس عليه، ومظنّة صلاح مظنّة حِلْم، ومظنَّة عَفْو، مظنّة كرم، مظنّة إحسان وتجاوُز ؛ هذا هو المؤمن أوْدَعَ الله في قلبه رحمة يرْحمُ بها عباد الله، أما الذي يرحمُ بها أهلهُ فقط وأولادهُ فقط، هذه رحمةٌ نشْكُرك عليها، ولكنْ أنت والبهائم سيّان ! أيّ بهيمةٍ تحبّ أولادها وتحرصُ عليهم، وترعاهم، هذه رحمةٌ أوْدَعَها الله فيك من دون كَسْب، هذه رحمةٌ ليْسَت مكْتسبَة إنّما هي فِطريّة، وليس لك عليها أجر، النبـي عليه الصلاة والسلام قال: ولكنّها رحمة عامّة، أنْ ترْحَمَ عامّة الناس، يعني هل بإمكانك أن تُعامِلَ صانعًا في محلّك التِّجاري كما تُعاملُ ابْنَكَ، إذًا أنت مؤمن، فإذا عاملْتَ هذا الابْن مُعاملة في منتهى الرّقة والرّحمة، وخِفْتَ على ظهره أن يحْمِلَ شيئًا، وخِفْتَ عليه من الشّمْس أن يمْشي فيها، وجاء هذا الصانِعُ الذي ليس ابْنَكَ وحمَّلْتَهُ ما لا يُطيق، وجعلْتَهُ يجري في الشّموس، وتقول له: أنت شابّ !! لماذا خِفْتَ على ابنِكَ ولمْ تخف على هذا الصغير ؟! الذي هو أمانة بين يديك، البُطولة أن تكون رحمتكَ عامّة لا خاصّة، الرحمة الخاصّة، الذي أنْكر وُجود الله عز وجل يحبّ ابنَهُ، ويعْطِفُ عليه ويُطعِمُهُ، ويُلبسُه، ويحْرصُ على مستقبلهِ، هذا من رحمة الله بالعِباد أنّهُ أوْدَعَ في قُلوب الآباء والأمّهات قدْرًا من الرحمة يتراحمُ بها الناس، من أجل أن تسير الحياة، من أجل أن تسْتَمِرّ الحياة، ولكنّ الرحمة التي تُثابُ عليها هي الرحمة الكَسْبِيَّة لا الفِطريّة، الكَسْبيّة التي جاءتْكَ من إيمانك بالله تعالى، ومن اتِّصالك به، ومن إقبالك عليه، اصْطَبغَ قلبك بالرحمة، ترْحَمُ الناس كلّهم، والمخلوقات كلّها، ترْحَمُ عباد الله جميعًا من دون تَفريط، ومن دون تَمييز، حديث:

 

((من غشّ فليس منا))

 

[ رواه مسلم ]

 لو غششْتَ مجوسيًا فلسْتَ منَّا، لو غششْتَ إنسانًا يُنْكرُ وُجود الله عز وجل فلَسْتَ من أُمّة محمّد، المؤمن يُمَثِّلُ هذا الدِّين، المؤمن سفير، أنت على ثغْرةٍ من ثُغر الإسلام فلا يُؤتينَّ من قِبَلِكَ، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 مرّة ثانيَة، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

 

[ سورة المائدة ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾

 

[ سورة المائدة ]

 قال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 قال تعالى:

 

﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 قال تعالى:

 

﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾

 

[ سورة الأنفال ]

 قال تعالى:

 

﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾

 

[ سورة النّساء ]

 قال تعالى:

 

﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾

 

[ سورة الأعراف ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾

 

[ سورة النحل ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾

 

[ سورة الحج ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾

 

[ سورة القصص ]

 إن شاء الله تعالى في خطبةٍ قادمة نُعالِجُ بعض هذه الآيات، أو مجموعةً من هذه الآيات في خطبةٍ أو خطبَتَين قادِمَتين.
 عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، ومن حاسب نفسه في الدنيا حسابًا عسيرًا كان حِسابهُ يوم القيامة يسيرًا، ومن حاسب نفسه في الدنيا حسابًا يسيرًا كان حِسابهُ يوم القيامة عسيرًا.
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وما دام القلب ينبض فبابُ التوبة مفتوح، وما دام في القلب بقيّة فباب الصّلح مع الله مفتوح، وباب الإقبال على الله مفتوح، وباب العهْد مفتوح، وباب الإحسان مفتوح، وباب الإصلاح مفتوح، وباب المغفرة مفتوح، الأبواب كلّها مفتّحة الآن، فإذا توقّف القلب عن النّبْض خُتِم العمل، وانتهى الاختيار، وتوقّف الكسْب، وأصبَح الإنسان أسير عمله، قال تعالى:

 

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾

[ سورة المدثّر ]

 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

***

 الخطبة الثانية

 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 أيها الإخوة الأكارم، آيةٌ مرَّتْ بي البارحة تصفُ أهل النار، وهم يصْطرخون فيها، وهم يُعذّبون، ويصطرخون، ويصيحون، ويستنْجِدون، ويستغيثون، ويتلاوَمُون، ويتهاترون، قال تعالى:

﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾

[ سورة فاطر ]

 أيُّ نذيرٍ هذا ؟ الشَّيْبُ هو النّذير، عبدي شابَ شعْرُك، وانْحنى ظهرُك، وضعفَ بصرك، فاسْتحي منِّي فأنا أسْتحي منك، الشَّيْبُ هو النذير، والقرآن هو النذير، والنبي هو النذير، وسِنُّ الأربعين هو النذير، من بلغ الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة، وسِنُّ السِّتين هو أشدّ أنواع النذير، والدُّعاة إلى الله داخلون في هذه الآية ؛ همُ النذير، وموْتُ الأقارب هو نذير، والمصائب نذير، المصيبة نذير، موتُ القريب نذير، العلماء نذير، الأنبياء نُذُر، القرآن نذير، الأربعون في العمر نذير، السّتون في العمر نذير، الشَّيْبُ نذير، المصائب نذير، قال تعالى:

 

﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾

 

[ سورة فاطر ]

الدعاء

 اللهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيْت، وتولَّنا فيمن تولّيْت، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك، إنَّه لا يذلّ من واليْت، ولا يعزّ من عادَيْت، تباركْت ربّنا وتعاليْت، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنَّا، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، مولانا ربّ العالمين، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواك، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك، ولا تهتِك عنَّا سترَك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء، ومن السَّلْب بعد العطاء، يا أكرم الأكرمين، نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الذلّ إلا لك، ومن الفقر إلا إليك، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقّ والدِّين وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى إنَّه على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور