وضع داكن
13-11-2024
Logo
أمهات المؤمنين : سيرة السيدة ماريا القبطية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

من هي ماريا القبطية, وكيف أسلمت, وفي أي عام من الهجرة أنجبت إبراهيم؟

أيها الأخوة الكرام, مع الدرس الحادي والعشرين من دروس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من دروس صحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أمهات المؤمنين زوجاته الطاهرات، ومع مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماريا القبطية أم إبراهيم .
ماريا بنت شمعون، أهداها له المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية ومصر، أسلمت على يدي حاطب بن أبي بلتعة، وهو رسولُ رسولِ الله إلى المقوقس, هذا الذي ارتكب خيانة عظمى، وأنهضه النبي، وأخذ بيده، وصلح حاله، وهذه هي البطولة، قد يخطئ الإنسان فتسحقه ، أن تسحقه ليست بطولة، أما أن تأخذ بيده, وأن تصلحه, وأن يعود إنساناً عظيماً, هذه هي البطولة.
حاطب بن أبي بلتعة قبل فتح مكة, أرسل إلى قريش أن محمداً سيغزوكم, فخذوا حذركم، جاء الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بما فعل حاطب، فأرسل علي بن أبي طالب مع صاحب له إلى موضع, يقال له: الروضة بين مكة والمدينة, ليأخذ الكتاب من امرأة أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، وهذا الذي فعله حاطب في كل المقاييس خيانة عظمى، فجاء به النبي, فقال عمر:

((يا رسول الله, دعني أضرب عنق هذا المنافق .
-استمعوا أيها الأخوة إلى جواب النبي- قال له: لا, يا عمر، إنه شهد بدرًا، -لم يهدر النبي له عملاً- قال: يا حاطب, ما حملك على ما فعلت؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت، ولا ارتدت، وإني لست لصيقاً بقريش، أردت أن يكون لي يد عند قريش، فاغفر لي ذلك, -ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟- قال: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً))

أنهضه من كبوته، أعانه على نفسه، أعطاه فرصة ليصلح نفسه .
أقول لكم مرة ثانية : الإنسان قد يخطئ، البطولة لا أن تسحقه، لا أن تقصمه, لا أن تنهي وجوده، البطولة أن تصلحه، لذلك رويت لكم سابقاً قصة هنا موطن الاستشهاد بها، إمام أحد المساجد في دمشق قبل سبعين أو ثمانين عامًا, رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام ، وقال له: قل لفلان: إنه رفيقي في الجنة، الذي رأى الرؤيا خطيب مسجد الورد في ساروجا ، وهذا الذي معه البشارة, له بائع بسيط جداً في طرف المسجد، هذا الخطيب تأثر، هذه البشارة لي أم له؟ له، طرق بابه، وقال: يا فلان, لك عندي بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا أقولها لك إلا إذا أنبأتني بما فعلت مع ربك، طبعاً تمنع فاستحلفه، قال: والله تزوجت امرأة, وبعد خمسة أشهر من زواجنا, كانت على وشك الولادة، معنى ذلك: أن هذا الولد ليس ابنه، وأنها زلت قدمها، وأخطأت، وارتكبت خطيئة، قال له: بإمكاني أن أسحقها، وأن أفضحها، أو أن أطلقها، ولكنني رجوت الله أن يصلحها على يدي، علمت أنها تابت توبة النصوح، جئت بالقابلة، وولدتها، وأخذت الطفل الصغير، ودخلت المسجد بعد أن نوى الإمام الصلاة، ووضعته في طرف المسجد، وصليت مع الإمام، فلما انتهت الصلاة, بكى الطفل, فتحلق الناس حوله، جئتهم مستغرباً، قلت: خير، قالوا: تعال انظر، إنه طفل في زاوية المسجد ، قال: آتوني أنا أكفله، أرجعه إلى أمه، أمام الجيران سمعة الأم جيدة، لذلك إمام هذا المسجد رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال: قل لفلان: إنه رفيقي في الجنة .
أنت من الممكن أن تسحق إنسانًا، وأن تفضحه، وأن تقصمه، وأنْ تنهي وجوده، هذا شيء سهل, لكن البطولة أن تصلحه .
الآن في نقطة دقيقة جداً: عندك أمين مستودع خانك، اختلس بضاعة، أنت غفرت له ، لكن هل تبقيه في هذا العمل؟ لا، تنقله إلى عمل آخر، لا علاقة له بالبضاعة، النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يرفع معنويات حاطب، من أجل أن يجعله كما كان صحابياً جليلاً ، من أجل أن يأخذ بيده, كلفه بعمل من جنس خيانته، أرسله رسولاً له إلى مصر، إلى المقوقس، هذا هو حاطب بن أبي بلتعة .
فماريا القبطية أسلمت على يد حاطب، وهو قادم بها من مصر إلى المدينة، حين عرض عليها الإسلام، وكانت مولاة النبي عليه الصلاة والسلام، وضرب عليها الحجاب، ولدت له إبراهيم الذي عاش قرابة سنتين، وكانت ولادته في ذي الحجة سنة ثمان للهجرة، وكانت أمها رومية، ولها أخت قدمت معها اسمها سيرين، أهداها النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا حسان بن ثابت، وأسلمت مع أختها أيضاً .
من هو الصحابي الذي أرسله النبي إلى المقوقس عظيم مصر, وما هو الحوار الذي دار بينهما, وما الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى النبي ؟
ما قصة ماريا؟ بعد أن تم للنبي عليه الصلاة والسلام معاهدة الحديبية، وما أعده من دعائم, لاستتباب الدولة الإسلامية الفتية، وتقوية هيبتها في النفوس، كان صلى الله عليه وسلم في الوقت نفسه, يتحسس الموقف الدولي، ويتفهم أوضاعه، وفي ضوء ذلك أخذ النبي عليه الصلاة والسلام, يوجه الرسل والسفراء لتبليغ الإسلام إلى ملوك الأرض، لأن رسالة الإسلام عامة لكل البشر، قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 107]

من أولئك الملوك الذين أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام رسالة, يحثه فيها على الإسلام, المقوقس عظيم مصر، جاء في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه يدعوه فيه إلى الإسلام، هذا المقوقس كان من الأقباط, جاء به حاطب حتى دخل مصراً فلم يجده هناك، فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، ركب حاطب سفينة، وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه المقوقس أمر بإحضاره بين يديه، فلما جيء به, نظر في الكتاب، وفضه، وقرأه .
الآن دققوا في الحوار الذي جرى بين حاطب وبين المقوقس، بعد قراءة الكتاب دار الحوار التالي:
قال لحاطب:

((يا حاطب, ما منع نبيك إن كان نبياً أن يدعو على من خالفه؟ قال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يقتلوه ، ألا يكون قد دعا عليهم أن يهلكهم الله عز وجل حتى رفعه الله إليه؟ .
-هذه فطنة ، حتى استطاع أن يرجع له الكرة- قال: أحسنت، أنت حكيم من عند حكيم ، -أخطر شيء: الرسول، لأنه يمثل المرسل، وشرف الرسول من شرف المرسل- ثم قال له حاطب: إنه كان من قبلك يزعم أنه الرب الأعلى - يعني فرعون - فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، -لأنه قد ورد أن الظالم سوط الله ينتقم به، ثم ينتقم منه، وقد الله عز وجل:

﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾

[سورة الأنعام الآية: 129]

﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾

[سورة القصص الآية: 4-6]

قال له: فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك، -وقد قرأت دعاء يهز أعماق الإنسان:

((يا رب, لا تجعلني عبرة لأحد من خلقك، لا تجعلني قصة تتلى في المحافل، لا تجعلني مأساة, يتعظ الناس بها، اجعلني أتعظ لا أن يتعظ بي، اجعلني أعتبر، لا أن يعتبر بي، اجعلني أشاهد، لا أن يشاهدني الناس، وأنا في مأساة))

احفظ الله يحفظك- .
قال له: إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشد عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منهم النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما السلام إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعاء أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، بل نأمرك به .
-إنسان من الصحراء ليس معه دكتوراه شرف أولى، لا يتقن أربع أو خمس لغات، لا يحمل شهادات عليا، ما خرج من معهد دبلوماسي، من الصحراء، لكن الإيمان يفجر العبقريات ، هو يخاطب ملكًا، كيف أصلحه النبي؟ كيف ارتكب خيانة عظمى، وهو الآن رسولُ رسولِ الله بهذا الفقه، وهذه الحجة، والحكمة ؟- .
فقال له المقوقس: إني نظرت في أمر هذا النبي, فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء، أي المستور والأخبار بالنجوى، وسأنظر، ثم أخذ الكتاب، وجعله في حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جاريته، وأرسل المقوقس إلى حاطب, فقال: القبط لا يطاوعني في اتباع نبيكم .
-أنا عملي غالٍ عليّ، إذا اتبعتكم فقدتُ عملي، لذلك لا أحب أن تعلم بمحاورتي تلك، لا أحب أن يعلم بهذه المحاورة أحد، نبيك على حق، ورجل مرسل، وليس بكذاب، ولا كاهن، ولا مشعوذ، يأمر بالخير، وينهى عن الشر، ولكن القبط لا يتبعونني إن آمنت بهذا النبي- ولا أحب أن يعلم أحد بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر في البلاد نبيك، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده، -يعني النهاية لهم- .
أعطاه مئة دينار وخمسة أثواب، وأهدى المقوقس إلى النبي عليه الصلاة والسلام ماريا القبطية، -موضوع درسنا اليوم- وأختها سيرين، وغلاماً اسمه: مأبور، وبغلة شهباء، وأهدى له حماراً أشهب، كان أغلى شيء حمار أشهب، يقال له: يعفور، وفرساً، وأهدى إليه عسلاً من عسل بنهة، قرية في قرى مصر، يعني هذه الهدية, وأبقني على حالي))

 

هذا موقف مصلحي، مصلحته أن يبقى على رأس ملكه .

ما مضمون الكتاب الذي حمله حاطب إلى النبي من المقوقس, وماذا أخذ النبي من الهدايا التي أرسلت إليه من المقوقس ؟

فلما عاد حاطب قافلاً, زوده المقوقس بكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام, قال فيه المقوقس:

((بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من مقوقس عظيم القبط, سلام عليك، أما بعد:
فقد قرأت كتابك، وفهمت ما فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبثياب، وأهديت لك بغلة كي تركبها, والسلام عليك))

.
موقف مصلحي، هذه هدية، أنت عندك، ونحن عندنا، فلما قدم حاطب المدينة، وعرض الهدايا على النبي صلى الله عليه وسلم قبلها، ونقل إليه كلام المقوقس، وناوله الكتاب, فقال صلى الله عليه وسلم:

((ضنَّ بملكه، ولا بقاء لملكه))

من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً، لماذا الإيمان؟ من أجل أن تتخذ القرار الحكيم، من أجل أن تعرف الواحد الديان، من أجل أن تفوز بالدنيا والآخرة، اختار الدنيا, واختار النبي عليه الصلاة والسلام ماريا فاكتفى بها، ووهب أختها لشاعره حسان بن ثابت . 

كيف استقبلت ماريا القبطية حياتها الجديدة حينما حلت مولاة للنبي, وما هي الأمنية التي كانت في خواطرها, وما الخطب الجلل الذي أصاب فؤاد أم إبراهيم ؟
طار النبأ إلى بيوت النبي أن اختارها لنفسه، وكانت شابة، وقد أنزلها في منزل الحارث قرب المسجد، وقد حاولت عائشة وضرائرها التعرف على هذه الجارية عن بعد، فعلمت عائشة باهتمام النبي بها، ولكنها لا تقدر على معارضة النبي، أو الإنكار عليه، لكنها راحت ترقب من بعيد مظاهر اهتمام النبي بهذه الجارية المصرية .
استقبلت ماريا حياتها الجديدة بنفس مشرقة مبتهجة، حيث حلّت مولاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مولاته ملك يمينه، وليست زوجته، وإنه لشرف عظيم، وزادها غبطة وسروراً: أن ضرب عليها الحجاب كشأن أمهات المؤمنين، وانصرفت بكليتها للاهتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم التي تراه صنو المسيح, التي كانت تدين بدينه قبل إسلامه، فأي كرامة قد حظيت بها, حين قدمها قدر الله من بلاد القبط, لتكون أقرب المقربات, بقرابة الولاء للنبي عليه الصلاة والسلام .
مرة دخلت إلى بيت أحد الدعاة, كتب آية بخط جميل جداً في صدر المجلس، والله لما قرأتها اقشعر جلدي:

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾

[سورة النساء الآية: 113]

إذا أكرم الله عز وجل إنسانًا بالعلم، وعرفه بذاته، وعرف سرّ وجوده، وغاية وجوده ، وعرف حقيقة الحياة, والكون، وحقيقة الإنسان، وأن أثمن شيء هو العمل الصالح، وأن الحياة فانية زائلة، وأن الجنة هي الحياة الحقيقية، هذا الذي يعلم هذه الحقائق أغنى الأغنياء, لقد أعطى الله جلّ جلاله الذين يحيهم العلم والحكمة، أما الذين لا يحبهم فأعطاهم المال, قال تعالى:

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 76]

أعطى المال لمن لا يحب، أعطى الملك لمن لا يحب، لفرعون, فقال: أنا ربكم الأعلى، أما الذين يحبهم, فماذا أعطاهم؟ العلم والحكمة :

﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة القصص الآية: 14]

لأن العلم حارس، أن تمتلك الحكمة, فأنت أغنى الأغنياء، أقوى الأقوياء، أسعد السعداء، أكرم الكرماء، فبالحكمة يصلح الفاسد، وبالحمق يفسد الصالح .
كانت هذه المولاة مشغوفة برسول الله، كما كانت هاجر مولاة إبراهيم مشغوفة بإبراهيم، وكانت ماريا أم ولد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد آتاه الله منها ولداً اسمه إبراهيم تيمناً بأبيه إبراهيم، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:

((أنا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ, وَبُشْرَى عِيسَى, وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهَا قُصُورُ الشَّامِ))

وقد علمت ماريا الشيء الكثير عن هاجر التي سبقتها بقرون إلى بلاد الحجاز، بلاد الله الآمنة المباركة الطيبة، فتاقت نفسها لزيارة تلك الأماكن المقدسة, لتحيي في نفسها معالم الوفاء والإخلاص، وألفت أن تخلو بنفسها, لتجمع صور الماضي بواقع الحاضر، وكيف أن هاجر عند نبي الله إبراهيم، وماريا عند نبي الله محمد، وكيف أن هاجر لها ابن اسمه إسماعيل، وهي لها ابن اسمه إبراهيم؟ .
كانت رضي الله عنها تواقة, لتكون أم ولد, ليكون لها شرف الذرية من محمد, كما كان لهاجر شرف الذرية من إبراهيم عليه السلام .
تمضي الأيام طاوية ذكريات الأمل المتجدد في نفس ماريا, حتى أذن لها الله بالحمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحملت بإبراهيم، وقد حقق الله لها أمنيتها, فولدت ابن رسول الله الذي سماه باسم أبيه الكبير إبراهيم عليه السلام، نالت بذلك بغيتها، وتحققت رغبتها ، وكانت لها بذلك الحظوة الكبيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم, حيث أصبحت أم ولده الذي أعتقها من الرق، وسمت منزلتها, لتكون في مصاف أمهات المؤمنين، فيا لها من مكانة عالية.
سعدت هذه الزوجة الطاهرة أن تهب لنبي الله عليه السلام الولد من بعد خديجة التي لم يبق من أولاده إلا فاطمة رضي الله عنها، فقد تزوج النبي عليه الصلاة والسلام قبل ماريا بالكثير, غير أنهن لم ينجبن الأولاد .
تقول أم المؤمنين عائشة:

((ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على ماريا، ذلك أنها كانت أسيرة عند رسول الله، وأنزلها أول ما قدم بها بيت للحارث بن النعمان, فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها, فجزعت، وكان عليه الصلاة والسلام يؤثرها ويحبها))

وفي رواية: ثم رزقه الله منها الولد، وحرمنا منه، ولكن ماريا لم تطل سعادتها سوى عامين، بل أقل, حيث قدر الله تعالى ألاّ يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أبا أحد من رجالكم، فكانت الفاجعة الأليمة أن توفى الله ولدها الوحيد إبراهيم، فقضى إبراهيم نحبه، وبقيت أمه من بعده ثكلى أبد الحياة .
يعني لحكمة بالغة جداً: لم يبق من ذرية النبي ذكور، هذا ابن النبي، وليس معصوماً، فإذا أخطأ انتقلت البغضاء إلى أبيه، وهذه مشكلة كبيرة جداً، لذلك لحكمة أرادها الله لم يكن من ذرية النبي الذكور، بل كنّ كلهن إناثًا .
بلغ إبراهيم قرابة العامين من عمره فمرض, فطار فؤاد أمه عليه، فأرسلت إلى سيرين خالة إبراهيم, لتقوم على تمريضه، وطلب الدواء له، وتمضي الأيام, والطفل لم تظهر عليه بوادر الشفاء، فخافت عليه أكثر فأكثر، حتى إذا اشتد عليه المرض, أرسلت إلى أبيه النبي، فجاء ليرى ولده، قال أنس: لقد رأيته, وهو يجود بنفسه، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا النبي, فقال:

((إِنَّ الْعَيْنَ لتَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ ليَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يرضي رَبُّنَا, وَإِنَّا على فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))

تعليق لطيف: حينما يصاب الإنسان بمصيبة ليس ممنوعاً أن يتألم، وإلا ليس من بني البشر، الممنوع أن يعترض، الممنوع أن يرفض، الممنوع أن يتهم الله عز وجل، هذا هو الممنوع، أما كل واحد منا إذا مات ابنه يتألم، إذا خسر عمله يتألم، إذا أصابه مرض يتألم، فالألم لا تؤاخذ عليه، ولكن الذي تؤاخذ عليه ألا تفهم الحكمة، أن تعترض، أن ترفض، فالنبي قال:

((إِنَّ الْعَيْنَ لتَدْمَعُ, وَالْقَلْبَ ليَحْزَنُ, وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يرضي رَبُّنَا, وَإِنَّا على فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

وهذا درس لنا جميعاً، مقامك عند الله, بقدر رحمتك لأولادك، وأنا والله أتمنى أن يكون كل بيت من بيوت المسلمين جنة، والإنسان قد يعيش في جنة بين أهله وأولاده من دون مال كثير، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم, فسعوهم بأخلاقكم، الابتسامة، واللطف، والمودة، والدعابة أحياناً، والمعاونة، والاعتذار، هذه تخلق جوًّا رائعًا، فلذلك نجاح الإنسان في زواجه نجاح كبير جداً, أحد أسباب نجاحه في حياته العملية .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:

((قَدِمَ نَاسٌ مِنْ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ, فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمْ الرَّحْمَةَ))

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

كان إبراهيم ابن النبي مسترضعاً في عوالي المدينة، وكان النبي ينطلق مع أصحابه, فيدخل البيت الذي فيه ابنه إبراهيم، وكان ظئره يعني زوج مرضعته قيناً حداداً، والبيت كله دخان، فيأخذه فيقبله، ثم يرجع، من شدة رحمته بأولاده, وعطفه عليهم, وحبه لهم .
ما هي الظاهرة الكونية التي حصلت حينما شاع خبر وفاة إبراهيم, وماذا قال الناس عنها, وما هو الموقف الذي وقفه النبي من جراء هذه الظاهرة ؟
لما شاع خبر وفاة إبراهيم, حصل كسوف للشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال عليه الصلاة والسلام, وهذا هو الموقف العلمي، أنا قبل سنتين كنت في عمرة، وأنا في مكة المكرمة, سمعت خبرًا تكرر كثيراً: أن في المدينة أنوارًا ساطعة إلى السماء، هذه أنوار النبي، فلما قدمت المدينة في أحد الأيام بين المغرب والعشاء, كان ثمة درس علم جيد جداً، فجلست مع الدرس، فانتهى الدرس, فقال المتكلم العالم الجليل: أنبأني أمير المدينة أن هناك مشروعُ تزيينٍ للمدينة عن طريق أشعة الليزر، ترسل هذه الأشعة إلى الفضاء بشكل حزم, تراها عن بُعد مئتي كيلو متر، دائماً ليكن موقفك علمياً، طبعاً أيّ إنسان إذا مات ابنه، والشمس كسفت, يعني لمصلحة مكانته بين أخوانه، طبعاً كسفت لموت ابني، هذه تزيد مكانته كثيراً، لكن النبي أمين على هذا الدين، أمين على الحقيقة، هذه ليست حقيقة، جمع أصحابه وقال:

((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ, لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ, وَلَا لِحَيَاتِه,ِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ))

[أخرجه البخاري في الصحيح]

هذا الموقف العلمي، وما في دعوة تنجح إلا إذا كان الموقف علمياً، تعريف العلم: الوصف المطابق للواقع مع الدليل، فإذا ابتعد الوصف عن الواقع, صار جهلاً، لذلك قالوا من بعض التعاريف المعقدة للعلم: علاقة بين شيئين مقطوع بها، تطابق الواقع، وعليها دليل، لو أن هذه العلاقة ليس مقطوعًا بها, لكانت ظناً، أو شكاً، أو وهماً، الصحة في الوهم ثلاثون بالمئة، والصحة في الشك خمسون بالمئة، والصحة في الظن ثمانون بالمئة، أما القطع فمئة بالمئة، علاقة بين شيئين مقطوع بصحتها تطابق الواقع، فإن لم تطابق الواقع كانت جهلاً، عليها دليل، فإن لم تأت بدليل كانت تقليداً، فالعلم ليس جهلاً، ولا تقليداً، ولا وهماً، ولا شكاً، ولا ظناً، العلم قطعي مطابق للواقع عليه الدليل، ولولا الدليل لقال: من شاء ما شاء، وإن هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم، والعلم والدين يتطابقان حتماً، لأن الدين وحي من عند الله، والعلم قوانين مستنبطة من خلق الله, والمصدر واحد .
لذلك أحد كبار العلماء قال: لا بدّ من تطابق صحيح المنقول مع صريح المعقول، قد يتعارض النقل الضعيف، أو النقل الموضوع، أو التفسير المغلوط للمنقول مع العلم، أو قد يتعارض النقل الصحيح مع نظرية لم تثبت صحتها، أما صريح المعقول فلا بدّ أن يطابق صحيح المنقول قولاً واحداً .
وبقيت ماريا صابرة راضية بقضاء الله وقدره, حتى نزل بها الخطب الجلل، ألا وهو وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فأنساها ذلك حزنها على ابنها إبراهيم، وبقيت على العهد التي كانت عليه في حياته, حتى جاءها أجلها في عهد عمر سنة ستة عشر للهجرة رضي الله عنها وأرضاها .

ما هي الوصية التي أوصى النبي بها قومه بشأن مصر ؟

وقد حفظ الصحابة لماريا مقامها كما حفظوا وصية رسول الله في قومها، عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ, وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ, فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا, فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا, فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا, أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وَصِهْرًا))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

وجاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: أن الحسن بن علي رضي الله عنه, كلمه معاوية بن أبي سفيان لأهل حفن، وهي قرية من قرى مصر, في هذه القرية ولدت ماريا، لما جاء عبادة بن الصامت إلى مصر وفتحها, أعفى هذه القرية من كل خراج عليها, إكراماً لزوجة نبيهم عليه الصلاة والسلام .

الخاتمة :

أيها الأخوة, هناك دروس كثيرة جداً تعلمنها، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أرحم بالعيال من كل إنسان، وأنت رحمتك بعيالك بقدر إيمانك، هناك أباء يعيشون لأولادهم، وهناك أمهات يعشن لأولادهن، وأن أكبر شهادة ينالها الرجل والمرأة أولاده الصالحون، والولد استمرار والولد صدقة جارية .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور