وضع داكن
20-04-2024
Logo
صور من حياة التابعين - الندوة : 18 - التابعي رفيع بن مهران
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 مستمعينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم مع بداية هذه الحلقة الجديدة من صور من حياة الصحابة والتابعين ويسعدنا أن نستضيف فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي المدرس في جامعة دمشق وخطيب جامع عبد الغني النابلسي بدمشق، فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فضيلة الشيخ سيدنا رفيع بن مهران تابعي جليل هو موضوع حلقتنا هذا اليوم والحلقة القادمة غداً إن شاء الله، من أين نبدأ عن هذه الشخصية الفذة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ جمال قيل لم يكن هناك أحد أعلم بالقرآن بعد الصحابة من أبي العالية وأبي العالية كنية رفيع بن مهران، رفيعا بن مهران المكنى بأبي العالية علم من أعلام المسلمين ورائعة من روائع القراء والمحدثين، كان من أعلم التابعين بكتاب الله وأدراهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقدرهم على فهم القرآن العزيز والنفوذ إلى أغواره، وأعمقهم في إدراك مراميه وأسراره، فحياته غنية بروائع المواقف والصور حافلة بثمين العظات والعبر.
حبذا أن نتحدث عن مولده سيدنا رفيع بن مهران.
 ولد سيدنا رفيع بن مهران في بلاد فارس وعلى أرضها نشأ وترعرع ولما شرع المسلمون بغزو بلاد الفرس ليخرجوا أهلها من الظلمات إلى النور كان رفيع هذا أحد الشبان الأرقاء الذين وقعوا في أيدي المسلمين الحامية وآلوا إلى رحالهم الخيرة البانية، فلم يلبث أن وقف هو ومن معه على سمو الإسلام ووازنوا بينه وبين ما كانوا عليه من عبادة الأوثان فاتفقوا أن يدخلوا في دين الله أفواجاً ثم أقبلوا على كتاب الله وجعلوا يتملون من حديث رسول الله، حدث سيدنا رفيع بن مهران عما كان عليه وما آل إليه فقال:
 وقعت أنا ونفر من بني قومي أسارى في أيدي المجاهدين ثم ما لبثنا أن غدونا مملوكين لطائفة من المسلمين في البصرى، الرقيق الذي أخذ أسيراً في الحرب يعامل معاملةً تفوق حد التصور الأمر الذي جعله يدخل في هذا الدين ويتغلغل الإيمان إلى أعماقه يقول هذا التابعي الجليل: فلم يمض علينا طويل وقت حتى آمنا بالله وتعلقنا بحفظ كتاب الله وكان منا من يؤدي الضرائب لمالكيه ومنا من يقوم على خدمتهم وكنت واحداً من هؤلاء. يعني يقوم على خدمة من ملكه. فكنا نختم القرآن الكريم في وقت قصير فلقينا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكونا لهم مما نكابده من السهر في قراءة كتاب الله فقالوا: اختموه كل أسبوع مرةً، فأخذنا بما أرشدونا إليه وجعلنا نقرأ القرآن طرفاً من الليل وننام طرفاً آخراً منه فلم يشق علينا بعد ذلك ولقد آل سيدنا رفيع ابن مهران إلى امرأة من بني تميم وكانت هذه المرأة سيدة رصاناً رزاناً مفعمةً تقىً وإيماناً فكان يخدمها بعض النهار ويرتاح في بعضه الآخر فأتقن القراءة والكتابة في أوقات فراغه وتلقى خلالها طرفاً من علوم الدين دون أن ينال ذلك شيئاً من حقوقها عليه وفي ذات يوم من أيام الجمع توضأ سيدنا رفيع بن مهران فأحسن الوضوء ثم استأذن سيدته بالانصراف فقالت: إلى أين يا رفيع ؟ فقال: أبتغي المسجد.
فقالت: أي المساجد تريد.
فقال: المسجد الجامع، يعني تقام فيه صلاة الجمعة.
 فقالت: هيا بنا. ثم مضيا معاً ودخلا المسجد مع الداخلين وهو لا يعلم ما تريد فما أن امتلأ الجامع وارتقى الإمام المنبر حتى أمسكت بيدي رفيع وقالت: اشهدوا يا معشر المسلمين أني أعتقت غلامي هذا رغبةً في ثواب الله وطمعاً بعفوه ورضاه وأنه ليس لأحد عليه من سبيل إلا سبيل المعروف ثم نظرت إليه وقالت: اللهم إني أدخره عندك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وقد عرّف العلماء القلب السليم: هو كل قلب سلم من شهوة لا ترضي الله وسلم من تحكيم لغير شرع الله وسلم من قبول خبر يتناقض مع وحي الله وسلم من التوجه إلى غير الله.

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

 ولما قضيت الصلاة انطلق رفيع إلى سبيله وانطلقت هي الأخرى إلى سبيلها أيضاً هذا التابعي الجليل دأب من ذلك اليوم على التردد إلى المدينة المنورة فحظي بلقاء الصديق رضوان الله عليه وذلك قبيل وفاته بقليل كما سعد بالاجتماع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقرأ عليه القرآن وصلى خلفه، وكما أكب سيدنا رفيع بن مهران المكنى بأبي العالية على كتاب الله فقد تعلق بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يسمع روايته من التابعين الذين كان يلقاهم في البصرى لكنه ما لبث أن طمحت نفسه إلى ما هو أثبت من ذلك فأخذ يمضي إلى المدينة حيناً بعد حين ليسمعه أي الحديث من أفواه صحابة رسول الله أنفسهم حتى لا يكون بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام إلا شخص واحد هو الصحابي فأخذ عن عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة وعبد الله بن عباس وغيرهم وغيرهم ولم يقتصر أبو العالية على رواة الحديث في المدينة المنورة وإنما كان ينشد حديث رسول الله في كل مكان فإذا وصف له رجل بالعلم ضرب إليه أكباد الإبل مهما كان بعيد الدار نائي المزار.
انظر أخ جمال كانوا يضربون أكباد الإبل من المدينة إلى البصرى ليأخذوا حديثاً واحداً عن رسول الله بينما الآن الأمور متوافرة بشكل يفوق حد الخيال.
 فإذا وصل إليه بادر فصلى خلفه فإذا وجده لا يتقن صلاته أحسن الإتقان ولا يوفيها حقها أكمل التوفية أعرض عنه وقال في نفسه إن الذي يتهاون في صلاته يكون أشد تهاوناً في غيرها. دقق في هذه الفكرة الصلاة عماد الدين من أقامها أقام الدين و من هدمها هدم الدين فإذا صلى خلف راو لحديث رسول الله ولم يكن متقناً لصلاته انصرف عنه فإذا كان مهملاً لهذه الصلاة فهو لغيرها أشد إهمالاً.
 لقد بلغ أبو العالية منزلةً في العلم فاق بها جميع أقرانه من ذلك أن أحد أصحابه قال: رأيت أبو العالية يتوضأ والماء يقطر من وجهه ويديه والطهارة تتألق على كل عضو من أعضائه فحييته وقلت له: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، فقال: يا أخي ليس المتطهرين الذين يتطهرون بالماء من الدرن إنما هم الذين يتطهرون بالتقوى من الذنوب فتأملت مقاله وأدركت أنه أصاب وأخطأت وقلت: جزك الله خيراً وزادك علماً وفهماً.
حينما قال الله عز وجل عن سيدنا يوسف عليه السلام:

 

﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾

 

[ سورة يوسف: الآية 6]

معنى شيء ثمين جداً أن تفهم أبعاد النص وحقيقته ومراميه.
 لقد دأب أبو العالية على حض الناس على طلب العلم وجعل يرسم لهم سبل الوصول إليه فيقول: روضوا أنفسكم على طلب العلم وأكثروا من السؤال عنه واعلموا أن العلم لا يخفض جناحيه لمستحٍ أو متكبر، والكبر والعياذ بالله يمنع من دخول الجنة:
"عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ..."

[ مسلم، الترمذي، أبو داود، ابن ماجه، أحمد ]

لأن الكبرياء لله عز وجل وقد ورد في الحديث القدسي:

(( الكبرياء إزاري والعظمة ردائي فمن نازعني فيهما شيئاً أذقته عذابي ولا أبالي ))

 وكان يحض طلابه على تعلم القرآن ورعايته والاستمساك بما جاء فيه والإعراض عما يتقوله المتقولون فيقول: تعلموا القرآن فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام وإياكم وهذه الأهواء فإنها توقع بينكم العداوة والبغضاء ولا تحيدوا عن الأمر الذي كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتفرقوا فنقلوا ذلك إلى الحسن البصري فقال: لقد نصحكم أبو العالية والله وصدقكم. والحسن البصري كما تعلمون سيد التابعين سئل مرة بما نلت هذا المقام ؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي. كان العالم الجليل الصادق المطبق المخلص أمة بذاته، مرةً كان عند يزيد بن معاوية وقد جاءه توجيه لعله إذا نفذه لا يرضي الله عز وجل فوقع في حيرة من أمره فسأل الحسن البصري ماذا أفعل ؟ أجابه بكلمة تكتب بماء الذهب قال: إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله.
كما كان يرسم لطلاب العلم الطريق الأمثل لحفظ القرآن فيقول: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإنه أيسر على أذهانكم وأقوى على أفواهكم. فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به على النبي خمس آيات خمس آيات.
 أيها الأعزاء لا يسعنا في ختام هذا اللقاء إلا أن نقول رضي الله عز وجل عن التابعي الجليل رفيع بن مهران الذي كان مدار حلقتنا الأولى لهذا اليوم، غداً بمشيئة الله نتابع الجزء الثاني من هذه الحلقة التي استضفنا من خلالها فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق وخطيب جامع النابلسي في دمشق ومدرس في مساجد دمشق وما حولها، فضيلة الشيخ نشكركم

تحميل النص

إخفاء الصور