وضع داكن
28-03-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 05 - الهجرة 1 معاني الهجرة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ عدنان:

 أيها الإخوة المشاهدون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحيّيكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، وخطيب جامع الشيخ النابلسي أيضاً عبد الغني النابلسي، أهلاً ومرحبا بكم.

 

الأستاذ راتب:

جزاكم الله خيراً.

 

 

الأستاذ عدنان:

 الهجرة كما نعلم هجرته عليه الصلاة والسلام وكما حدثنا عليه الصلاة والسلام، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ... ))

[متفق عليه]

 لكن الهجرة بمعانيها مستمرة، إذ

(( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))

[متفق عليه]

بالمقابل مَن عمل ما أمر به الله تعالى، فكان ضمن ما أراده الله تعالى، إقبالاً على ما يريده وإدباراً عما نهى عنه فهو مهاجر.
 معاني الهجرة إذاً قائمة مستمرة إلى أن تقوم الساعة، وإذا كانت أحداث الهجرة فيها ما فيها من روعة ومن دروس، ومن معجزات، ومن أشياء كثيرة لا تنتهي، ولا تبلى، فإن في معانيها أيضاً الباقية والمستمرة دروس أيضاً لا تبلى، ولا تنتهي، وهي مستمرة، وإذا أردنا أن نتحدث عن هذا فالشاطئ كما يقال واسع، ووجهة البحر ممتدة، وأنتم من تريدون الغوص في هذه الأمور، فيمكن أن نتحدث عن الدروس المستفادة من هجرة، والغوص في هذه الأمور.

الأستاذ راتب:

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أستاذ عدنان، جزاكم الله خيراً، لا بد من حقائق أضعها بين يدي هذا الموضوع.
الحقيقة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده، وأمته معصومة بمجموعها، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ... ))

[ابن ماجه عن أنس]

لكن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم ومشرِّع، فأقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، وصفاته تشريع، مجموع أقواله مع أفعاله مع صفاته مع إقراره هو السنة النبوية المطهرة
 للأنبياء مهمتان كبيرتان، الأولى: مهمة التبليغ، والثانية: مهمة القدوة، فالنبي علمنا بأفعاله، وعلمنا بأقواله، فالهجرة من أفعاله، لا يمكن، ولا يقبل، ولا يعقل أن تكون أحداث الهجرة وقعت صدفة، إنما هي مقصودة من الله عز وجل، ليقف النبي الموقف الكامل من الظروف التي تصيب المسلمين.
 الحقيقة أن ذكر وقائع الهجرة معلومة لدى كل المسلمين، ولا أعتقد أن واحداً يغفل عن وقائعها، ولكن العبرة أن نستنبط من هذه الوقائع الدروس والعبر، فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا في هذا اللقاء الطيب إلى وضع اليد على الدروس المستفادة من الهجرة.
أول حقيقة: أن الأفعال التي فعلها النبي هي في حد ذاتها تشريع.
الشيء الثاني: أن المسلم ينبغي أن يتبع النبي في أفعاله، وأن يقتدي به فيما يفعله في حياته اليومية، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

( سورة الحشر الآية: 7 )

 وعندنا قاعدة أصولية أنه " ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض "، أرأيت إلى الوضوء ؟ إنه فرض، لأن الصلاة وهي فرض لا تتم إلا به، فإذا أردنا أن نتبع النبي e في توجيهاته وأقواله كما قلت قبل قليل من السنة، فكيف نطبق هذه السنة إن لم نعلم حقيقة أقواله ؟ إذاً كما أن تطبيق توجيهات النبي فرض عين على كل مسلم، وهذا الفرض لا يتم إلا بفرض قبله، وهو معرفة أقوال النبي e، فأنا أوجه الخطاب لكل أخ كريم مؤمن أنه لا بد من أن يقف على حقيقة أقوال النبي e، لأن الله يأمره:

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

، هذه واحدة.
 ولأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾

( سورة الأحزاب الآية: 21 )

 إذاً هو أسوتنا، كيف يكون أسوتنا إن لم نعلم حياته وملابسات سيرته، إذاً نحن معنيون شئنا أم أبينا كوننا مسلمين أن نتعرف إلى أقواله، كي نطبقها، تنفيذًا لأمر الله عز وجل، والمسلمون في عصور تخلفهم ضغطوا الدين إلى العبادات الشعائرية، مع أن الدين منهج كامل، لذلك قال العلماء: كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، هناك أمر تهديد، هناك أمر إباحة، هناك أمر ندب، ما سوى هذه الحالات الخاصة كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، فالله سبحانه وتعالى حينما قال

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

، هذا أمر من الله عز وجل.
 حينما يخاطب المؤمنين الذين ارتبطوا بعقد إيماني مع الله أن يتبعوا فحوى أقوال النبي e، وكيف يتبعون فحوى أقوال النبي إن لم يقفوا على حقيقة أقواله ؟ لكن هناك ملاحظة أن القرآن الكريم قطعي الثبوت، بينما السنة ظنية الثبوت، ففي أقواله ما هو صحيح، وما هو متواتر، وما هو حسن، وفي أقواله ما هو ضعيف، وفي أقواله ما هو موضوع، فلا بد في السنة من تحري الصحة في السنة.

الأستاذ عدنان:

 طيب دكتور هنا في هذه الحالة قد تكون هناك أشياء يفعلها البشر، إن كان بشراً عادياً أو نبياً رسولاً يوحى إليه، مثلاً: أراد أن يجلس الجلسة المعينة، ثم غيرها إلى جلسة أخرى، واتكأ إلى حائط أو إلى وسادة، هل هذه نعتبرها من ضمن السيرة ؟ هنا ـ نتحدث عن الطابع التشريعي لا شك ـ نعم، لأنه أصلاً سئلت مثل هذا السؤال، ولتوضيحه للإخوة المشاهدين يجب ألا نخلط بين ما هو يتصل بالإنسان كإنسان في مطلق الحرية في بعض التصرفات، وما هو مشير إلى التشريع.

 

الأستاذ راتب:

 في سيرته جزء يعد من التشريع، وهذا المعني في هذه الحلقة، وفي سيرته جزء يتعلق به كبشر، فالنبي e بشر، ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، لأنه بشر، لأنه يغضب، لأنه يشتهي ما نشتهيه، يتمنى ما نتمناه، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّه، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، ولَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّه، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلِيّ ثَالِثَةٌ وَمَالِي وَلِبِلاَل طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلاَ مَا وَارَى إِبْطُ بِلاَل ))

[ أخرجه الترمذي ]

 لأنه بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، وانتصر على بشريته كان سيد البشر، هذه حقيقة صارخة، هؤلاء الذين يريدون أن يسلخوا عن النبي e صفة البشرية هم لا يعظمونه كما أراد الله عز وجل، إنه قدوة لنا، إنه يفعل ما ينبغي أن نفعل، هو مثل أعلى لنا.
إذاً أول شيء ينبغي أن نعلم أقواله، حتى ننفذ قول الله عز وجل:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

 وينبغي أن نعلم سيرته كي يكون قدوة لنا في الظروف التي تتكرر، إن الأحداث التي وقعت في عهد النبي e مقصودة لذاتها، إنها منطلق للتشريع، فكل حدث وقع في عهد النبي e وقع بعناية بالغة من الله عز وجل، ليكون هذا الحدث نموذجًا متكررًا، القرآن الكريم لا يتلو علينا قصصاً وقعت، ولن تقع بعد اليوم، إذاً هو كتاب تاريخ، هو كتاب هداية، حتى قصص القرآن الكريم، قد أغفل الله بعض جزئياتها لتكون القصة نموذجاً متكرراً لكل ظرف طارئ، فهذه الهجرة هي حدث كبيرة، هي من أضخم أحداث الدعوة الإسلامية، ولكن هذا الحدث يمكن أن يتكرر.
تفضلتم في مقدمة هذه الندوة، وذكرتم حديث النبي e:

(( لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ... ))

[متفق عليه عن ابن عباس]

 أنا أقول: باب الهجرة أغلق بين مكة والمدينة، أيعقل أن يذهب الإنسان اليوم إلى مكة، ويركب مركبة إلى المدينة، ويسمى عند الله مهاجرًا، لكن باب الهجرة مفتوح على مصاريعه إلى يوم القيامة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة.
لو أردنا أن نستشف في هذه الحلقة المباركة ـ إن شاء الله ـ بعض الدروس التي يحتاج المسلمون من الهجرة نقول:
 الحقيقة أن أول درس هو أن الإنسان خلق ليعبد الله، لا بالمفهوم الضيق الذي يفهمه عامة المسلمين، بالمفهوم الواسع العبادة: هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، العبادة علة وجودنا.

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

 

( سورة الذاريات )

 العبادة سبب سعادتنا وسلامتنا في الدنيا والآخرة، بالمفاهيم الدقيقة الواسعة العميقة للعبادة ينبغي أن تعبد الله فيما أقامك.

 

الأستاذ عدنان:

 دكتور، هنا إذا سمحتم موضوع العبادة، هذه الناحية قد يقول قائل: رغم أن كثيراً من المؤمنين العابدين يدركون معنى ما قلت، لكن بعضاً من الناس قد لا يدركون، وللتوضيح نتوقف عند هذه الناحية، قد يقول قائل: إنني أصلي، ولا أشعر بما تقول، بل إنه يمكن أن أشرد في صلاتي إلى أمور إذا انتهيت من الصلاة لا أذكرها، ولا أتوقف عندها، مع ذلك في صلاتي أتوقف عندها، ويفردها الشيطان أمامي فرداً، ويوضحها توضيحاً، وأنسى كم صليت، ركعتين أو أربعًا أو ثلاثًا ؟ إلخ... كيف نستطيع أن نؤكد الفكرة التي ذكرتها لمثل هؤلاء لنبيّن أن العبادة فعلاً هي الإنسانية الكاملة، هي التشريع، إلخ...

 

 

الأستاذ راتب:

 يبدو أن هذا المنهج العظيم منهج الله عز وجل كلٌّ متكاملٌ لا يمكن أن نقتطع جزءًا منه، ثم نلاحظ الأثر الذي يقدمه لنا، إنه منهج متكامل، فأنا حينما أكون عابداً لله، بمعنى أنني أستقيم على أمره، وأنني أقف عند حدوده، وأنني أفعل ما أمر الله به، وأنتهي عما عنه نهاني، إذا قمت إلى الصلاة لا أشرد عنها، لأنني في صلة بيني وبين الله، وينبغي أن أفرق بين الصلاة عبادةً شعائرية، أقوالا وأفعالا، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم، فيها وقوف، وركوع، وسجود، وتلاوة قرآن، والفاتحة، وبين الاتصال بالله، المعاصي والآثام، والمخالفات التي تحجب عن الله، فإذا كان الإنسان محجوباً عن الله بسبب مخالفاته وتقصيره، وانحرافاته، وأكله المال الحرام، وعدم انضباطه بمنهج الله عز وجل، طبعاً هو في الصلاة يقوم بأفعال لا معنى لها، لا بد من أن يشرد، هذا شيء طبيعي جداً.

 

 

﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)﴾

 

( سورة النساء )

 أما إذا كانت الصلة فيما بين الصلوات عامرة بين العبد وربه، أساسها الانضباط والاستقامة، يكون حاله في الصلاة غير هذا الحال، وفرق كبير بين أرحنا منها، وأرحنا بها، بين أرحنا منها، إنها فرض لا بد من أن يؤدى، وبين أرحنا بها، إنها حب لله عز وجل، وإقبال عليه، الحقيقة أن العبادات لها أسرار، ولها حِكم، فما لم يطبق المؤمن منهج الله عز وجل تطبيقاً شمولياً لا يستطيع أن يقطف ثمار العبادة، والله عز وجل يقول:

﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾

 الزكاة:

 

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53)﴾

 

( سورة التوبة )

 وفي الصيام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))

[البخاري]

في الحج: لو أن الإنسان حج بيت الله الحرام، ووضع رجله في الركاب، وكان حجه بمال حرام، وقال: لبيك اللهم لبيك، يناديه منادٍ أن لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك.
 الأمر دقيق جداً كما تفضلتم، لا بد من التوضيح، نحن في عام دراسي تسعة أشهر، وعندنا ثلاث ساعات امتحان، فالعبادة الشعائرية تشبه ساعات الامتحان، والعبادة التعاملية التي أساسها الصدق والأمانة، وإتقان العمل، وتلبية حاجة الضعيف، وإنجاز الوعد والحفاظ على العهد، هذه القيم الأخلاقية هي العبادة التعاملية بين العبد وبين خلق الله عز وجل، فإذا أنجزها كالذي درس دراسة جادة في العام الدراسي، فالامتحان له معنى كبير عنده، الامتحان سيصب معلوماته التي حصلها خلال العام الدراسي في هذه الساعات الثلاث، أما الذي لم يقرأ، ولا كلمة، ولم يحضر درسا ماذا يفعل في هذه الساعات الثلاث ؟ مملة جداً، يتململ منها، فالذي لا ينضبط بمنهج الله في حياته اليومية، في بيته، في عمله، في تعامله، في أخذه، في عطاءه، في كسب ماله في إنفاق ماله، في علاقته بالنساء، في مناسباته الاجتماعية، في أفراحه، في أتراحه، الذي لا يقيم منهج الله في حياته الخاصة، وحياته الاجتماعية، والأسرية، والعامة لا يستطيع أن يقطف من الصلاة ثمارها، هو محجوب عن الله بمعاصيه، والذنوب تقطع العبد عن ربه، اللهم لا تقطعنا بقواطع الذنوب، ولا تحجبنا بقبائح العيوب، هذه ومضة سريعة حول العبادة، فنحن لأن العبادة سر وجودنا وغاية وجودنا، ولأن الله عز وجل جاء بنا إلى الدنيا كي نعبده، فنسعد بجنة عرضها السماوات والأرض، فأي مكان حال بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تهجره إلى مكان آخر.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾

( سورة النساء الآية: 97 )

 ظلم النفس أشد أنواع الظلم، ظلم النفس أن يخسر الإنسان الأبد، ظلم النفس أن يصل الإنسان إلى النار، ظلم النفس أن يخسر طاعة الله عز وجل.

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾

 

( سورة النساء الآية: 97 )

 وهذه الآية فيها ملمح لطيف، الاستضعاف نوعان: استضعاف داخلي، أيْ كنت في مكان الشهوات فيه مستعرة، والفتن يقظة، والمعصية تقترف على قارعة الطريق، ولا تستطيع أن تقاوم، هذا ضعف داخلي، ضعفت أمام الفتن والشهوات، فإذا كنت في بلد، ولو حققت فيه مكسباً مادياً كبيراً، ولكن ضعفت في هذا المكان أمام شهواتك وأمام المغريات التي تراها في عينيك في كل مكان فينبغي أن تغادر إلى بلد تستطيع أن تعبد الله فيه، فهذا الملمح الأول.
 وقد تكون في بلد جهة قامعة حالت بينك وبين عبادة الله، طبعاً الأصل أن تصلح البيئة، الأصل أن تصلح الواقع، فإذا كنت ضعيفاً، إما ضعفاً نفسياً لا تستطيع أن تجابه هذه الشهوات وتلك المغريات، أو لا تستطيع أن تجابه من منعك أن تعبد الله فلا بد من أن تهاجر، لأنك إن هاجرت حققت علة وجودك وغاية وجودك، وحققت الهدف من خلقك في الحياة الدنيا،

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ﴾

 دقق أستاذ عدنان، قال تعالى:

 

﴿ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97)﴾

 

( سورة النساء )

 وعيد مخيف، فهذا الذي يضيع دينه في بلد بعيد، يضيع دين أولاده، يضيع مستقبلهم، يذوب في مجتمع غربي، ينسى قيمه، ينسى دينه، ينسى أمته، هذا الذي يستمرئ الحياة هناك، ولا يعبأ بمصيره الأخروي، لا يعبأ بمستقبل أولاده لن يستطيع أن ينشئهم كما يريد الله عز وجل، لأن المجتمع فاسد، والحياة المادية قد تكون أقوى من أية دعوة، فلذلك هنا الملمح، أنك إن كنت في مكان، وقد حققت أهدافك المادية في أعلى مستوى، لكنك ضيعت دينك ـ لا سمح الله ـ ضيعت مستقبل أولادك، فالإنسان قد يملك أكبر ثروة في الأرض، وقد يعتلي أعلى منصب في الأرض، وقد يغرق في متع لا حدود لها، إن لم يكن ابنه كما يتمنى فهو أشقى الناس، وفي القرآن ملمح، قال تعالى:

 

﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ﴾

 

( سورة طه الآية: 117 )

 فبحسب السياق اللغوي الذي تعلمناه في قواعد اللغة فتشقيا، فجاءت الآية:

 

﴿ فَتَشْقَى (117)﴾

 

( سورة طه )

 قال علماء التفسير: الشقاء الزوجي شقاء حكمي لزوجته، هذا من باب الإيجاز، الآن شقاء الأولاد شقاء حكمي للأب والأم، فحينما تكون في بلد لا تستطيع أن تعبد الله فيه لضعفك أمام الشهوات، أو تكون في بلد لا تستطيع أن تعبد الله فيه لوجود قوة تمنعك أن تعبد الله، في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه بشارة ف عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ

:(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ))

[مسند أحمد]

 تلاحظون أستاذ عدنان كيف أن المسلمين في هذه البلاد الطيبة يؤدون عباداتهم في مساجدهم، وهم في حال طيبة مع الله، ولا أحد يمنعهم أن يعبدوا الله عز وجل، أما حينما تذهب إلى مكان لا تستطيع أن تعبد الله لضعف داخلي، أو إلى مكان لا تستطيع أن تعبد الله لقوة خارجية، الآن تعطل سر وجودك، وتعطلت غاية وجودك، وتعطل سبب وجودك، إنها عبادة الله عز وجل، فلذلك لا بد من أن تتحول إلى بلد تعبد الله فيه.
والحقيقة أن الذين هاجروا فراراً بدينهم رضي الله عنهم، وعاشوا حياة رغيدة ملؤها السعادة، لأنهم آثروا طاعة الله على معصيته.

 

الأستاذ عدنان:

 في الملمح الذي ذكرتموه أن الإنسان عندما يكون في ضعف نفسي داخلي يمكن أن يسير كما يسيِّره التيار، هذا النوع أيضاً توعده الله تعالى بالعذاب، إذاً هو حتى في ضعفه سيلقى على ضعفه العذاب يوم القيامة ـ لقي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ـ أما من كان رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى فإنه يرفض الضعف الداخلي، والضعف الخارجي، فيكون وقتها متعباً لموضوع الهجرة، التي هي عنوان حلقة اليوم.

 

 

الأستاذ راتب:

 أريد أن أوضح توضيحاً آخر، هو أنني إذا كنت في بيئة أستطيع أن أرقى بها، أما حينما أكون ضعيفاً ضعفاً حقيقياً لا أستطيع أن أفعل شيئاً، فعلي أن أفر بديني، حينما لا أستطيع إما لضعف داخلي، أو لخارجي ينبغي أن أفر بديني، لأنني أحقق، لو أن طالبًا كل آماله أن ينال الدكتوراه، وذهب إلى بلد، وحيل بينه وبين الدراسة فلا بد من أن يتحول إلى بلد آخر، لأن هدفه الأول هذه الشهادة.

 

 

الأستاذ عدنان:

 طيب دكتور، هنا أيضاً يمكن أن تطرح الفكرة التالية، وهي هامة لما يعيشه المسلمون في هذه الأيام من تردد، وتقلقل بين فكرة الجهر بقوة تصل إلى القسوة والمخالفة، والمصادمة، وما بين الدعوة بأسلوبها السليم الصحيح، حيث تؤدي بالداعي، ومن يتلقى الدعوة على الوصول سوياً إلى هدف منشود، أنا يمكن أن أوجد في مجتمع، حتى لو كان إسلامياً، سمعت فلاناً يشتم النبي عليه الصلاة والسلام، أغضب منه، أذهب إليه أضربه، ينتهي الأمر إلى مشكلة أكبر ينتهي، وينتهي يصل إلى ما لا تحمد عقباه، على حين يمكن أن يكون في الأصل تصرف آخر يوصلني إلى المطلوب دون أن يأخذ هذه الضجة.

 

 

الأستاذ راتب:

 سيدي، من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، أنا أقول كلمة: سيد الخلق، النبي عليه الصلاة والسلام، وحبيب الحق، سيد ولد آدم، يوحى إليه، آتاه الله المعجزات، آتاه الله العلم والحكمة، جعله من أفصح البشر، كان أجمل الناس صورة، هذا الإنسان الفذ المتميز الذي تربع على قمة البشر هو نفسه يخاطبه الله، ويقول له:

 

 

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 159 )

 كل هذه الميزات، كل هذه الصفات، كل هذا الكمال، كل هذا العلم، كل هذه الروعة في حياته هو نفسه:

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

، فكيف بإنسان ليس في قمة البشر، ولا يوحى إليه، وليس معه معجزات، ولم يكن أفصح البشر، ولم يكن جميل الصورة، وهو في غلظة ؟!
 يروى أن واعظًا دخل على أمير، وقال: إنني سأعظك، وأغلظ عليك، وكان الأمير أفقه من الواعظ، قال له: ولمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، أرسل موسى إلى فرعون، لست أنت كموسى، ولست أنا كفرعون، ومع ذلك قال له:

﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾

( سورة طه الآية: 44 )

 فلذلك نحن نخلط بين أخلاق الدعوة وأخلاق الجهاد:

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ﴾

 

( سورة التحريم الآية: 9 )

 هذه أخلاق الجهاد، هذه أخلاق ساحة الحرب، هذه أخلاق المواجهة، ينبغي أن تكون قوياً.

 

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)﴾

 

( سورة الشورى )

 لكن في الدعوة لها أخلاق، في أخلاق الدعوة.

 

﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

 

( سورة فصلت )

 بعض المسلمين سامحه الله يخلطون بين أخلاق الجهاد، وبين أخلاق الدعوة، نحن في الدعوة إلى الله ينبغي أن نكون قمماً في الكمال، وقمماً في اللطف، وقمماً في النعومة، أما في الجهاد فموضوع آخر.

 

الأستاذ عدنان:

 الحقيقة أن الوقت داهمنا، وانتهى، ونتابع الموضوع بإذن الله في حلقة قادمة، في ختام هذا اللقاء كل الشكر لسماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي على ما بين، ووضح، الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق كلية التربية، وخطيب جامع عبد الغني النابلسي، أيضاً الشكر للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور