وضع داكن
28-03-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 15 - الصحابي عمرو بن الجموح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 أ. جمال: فضيلة الشيخ، سيدنا الصحابي الجليل عمرو بن الجموح شخصيةٌ كريمة من صحابة النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام، حبَّذا لو نسلِّط الضوء في هذه الليلة المباركة حول هذه الشخصية الفذَّة.
 أ. راتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، هذا الصحابي الجليل له قصةٌ طريفة، فهو زعيمٌ من زعماء يثرب في الجاهلية، وسيد بني سلمة، وواحدٌ من أجواد المدينة وذوي المروءآت فيها، وقد كان من شأن الأشراف في الجاهلية أن يتخذ كل واحدٍ منهم صنماً لنفسه في بيته، ليتبرَّك به عند الغدوِ والرواح، وليذبح له في المواسم، وليلجأ له في المُلِمَّات، وكان صنم عمرو بن الجموح يُدعى مناة، وقد إتخذه من نفيس الخشب، وكان شديد الإسراف في رعايته والعناية به وتضميخه بنفائس الطيب، وكان عمرو قد جاوز الستين من عمره، حينما بدأت أشعة الإيمان تغمر بيوت يثرب بيتاً فبيتاً على يدِ سيدنا مصعب بن عمير، فآمن على يده أولاده الثلاثة، معوَّذ ومُعاذ وخلاَّد، وتربٌ لهم يدعى معاذ بن جبل، وآمنت مع أبنائه الثلاثة أُمهم هند، وهو لا يعرف من أمر إيمانهم شيئاً، رأت هند زوجة عمرو بن الجموح أن يثرب غلب على أهلها الإسلام، وأنه لم يبق من السادة الأشراف أحدٌ على الشرك سوى زوجها ونفرٍ قليلٍ معه، وكانت تحبه وتُجله، وتُشفق عليه أن يموت على الكفر فيصير إلى النار، وكان هو في الوقت نفسه يخشى على أبنائه أن يرتدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وأن يتبعوا هذا الداعية مصعب بن عمير، الذي استطاع في زمنٍ قليل أن يحوِّل كثيراً من الناس عن دينهم، وأن يدخلهم في دين محمد، فقال مرةً لزوجته: ياهند إحذري أن يَلتقي أولادك بهذا الرجل، يعني مصعب بن عمير، حتى نرى رأينا فيه، فقالت: سمعاً وطاعة، ولكن هل لك أن تسمع من إبنك معاذ ما يرويه عن هذا الرجل ؟ فقال: ويحك وهل صبأ معاذ عن دينه وأنا لا أعلم ؟ فأشفقت المرأة الصالحة على الشيخ وقالت: كلا، ولكنه حضر بعض مجالس هذا الداعية وحفظ شيئاً مما يقوله، فقال: أُدعوه لي، فلما حضر بين يديه قال: أسمعني شيئاً مما يقوله هذا الرجل، فقرأ سورة الفاتحة، فقال: ما أحسن هذا الكلام وما أجمله، أو كل كلامه مثل هذا ؟ فقال معاذ: وأحسن من هذا يا أبتاه، فهل لك أن تبايعه فقومك جميعاً قد بايعوه، سكت الشيخ قليلاً ثم قال: لست فاعلاً حتى أستشير مناةَ فأنظر ما يقول، فقال الفتى: وما عسى أن يقول مناةُ يا أبتاه وهو خشبٌ أصم لا يعقل ولا ينطق ؟! فقال الشيخ في حدة: قلت لك لن أقطع أمراً دونه، ثم قام عمرو بن الجموح إلى مناةَ، وكانوا إذا أرادوا أن يكلموه جعلوا خلفه امرأة عجوزاً فتجيب عنه ما يُلهمها إياه في زعمهم، ثم وقف أمامه بقامته الممدودة، واعتمد على رجله الصحيحة، فقد كانت الأُخرى عرجاء شديدةَ العرج، فأثنى عليه أطيب الثناء ثم قال: يا مناة لا ريب بأنك قد علمت بأن هذا الداعية الذي وفد علينا من مكة لا يريد أحداً بسوءٍ سواك، وأنه إنما جاء لينهانا عن عبادتك وقد كرهت أن أُبايعه على الرغم مما سمعت من جميل قوله حتى أستشيرك، فأشر عليّ، فلم يرد عليه مناة بشيء.
أ. جمال: عجيب يا أستاذ راتب النابلسي هذا الضعف في العقل.
أ. راتب: هكذا كانوا في الجاهلية، لما سُميت الجاهلية جاهليةً ؟ لأنها جهلٌ.
 فقال لعلك قد غضبت، وأنا لم أصنع شيئاً يؤذيك بعدُ، ولكن لا بأس سأتركك أياماً حتى يسكت عنك الغضب، كان أبناء عمرو بن الجموح يعرفون مدى تعلُّق أبيهم بصنمه مناة، وكيف أنه غدى مع الزمن قطعةً منه، ولكنهم أدركوا أنه بدأت تتزعزع مكانته في قلبه، وأن عليهم أن ينتزعوه من نفسه إنتزاعاً فذلك سبيله إلى الإيمان، أدلج أبناؤه مع صديقهم معاذ بن جبل إلى مناة في الليل، وحملوه من مكانه وذهبوا به إلى حفرةٍ لبني سلمة يرمون به أقذارهم وطرحوه هناك، وعادوا إلى بيوتهم دون أن يعلم بهم أحد، فلما أصبح عمرو دلف إلى صنمه لتحيته فلم يجده فقال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟
أ. جمال: ما معنى كلمة دلف ؟
أ. راتب: أي سلك.
 فلم يجبه أحدٌ بشيء، فطفق يبحث عنه في داخل البيت وخارجه وهو يرغي ويزبد ويتهدد ويتوعد، حتى وجده منكساً على رأسه في الحفرة، فغسله وطهَّره وطيَّبه وأعاده إلى مكانه وقال له: أما والله لو أعلم من فعل هذا لأخذيته، فلما كانت الليلة الثانية، عدا الفتية على مناة، ففعلوا فيه مثل فعلهم بالأمس، فلما أصبح الشيخ إلتمسه فوجده في الحفرة ملطخاً بالأقذار، فأخذه وغسله وطيبه وأعاده إلى مكانه، ومازال الفتية يفعلون بالصنم مثل ذلك كل يوم، فلما ضاق بهم زرعاً راح إليه قبل منامه وأخذ سيفه فعلقه برأسه، وقال له: يا مناة إني والله ما أعلم من يصنع بك هذا الذي ترى، فإن كان فيك خيرٌ فادفع الشر عن نفسك، وهذا السيف معك، ثم آوى إلى فراشه، فما إن إستيقن الفتية من أن الشيخ قد غط في نومه حتى هبوا إلى الصنم، فأخذوا السيف من عنقه وذهبوا به خارج المنزل، وقرنوه بكلبٍ ميت، وألقوه بهما في بئرٍ لبني سلمة تسيل إليها الأقذار وتتجمع فيها، فلما استيقظ الشيخ ولم يجد الصنم خرج يلتمسه، فوجده مُكباً على وجهه في البئرِ مقروناً إلى كلبٍ ميت وقد سُلب منه السيف، فلم يخرجه هذه المرة من الحفرة، وإنما تركه حيث ألقوه وأنشأ يقول: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلبٌ وسط بئرٍ في قرن، ثم مالبث أن دخل في دين الله.
أ. جمال: يبدو أستاذ راتب النابلسي أن حلاوة الإيمان بدأت تدخل إلى قلب هذا الصحابي الجليل عمرو بن الجموح، لنتابع والعود أحمد إلى هذا الحديث الشيِّق.
 أ. راتب: الآن فُتحت صفحة في حياته جديدة، تذوَّق عمرو بن الجموح من حلاوة الإيمان ما تذوق، وما جعله يعُضُّ بنان الندم على كل لحظةٍ قضاها في الشرك، فأقبل على هذا الدين الجديد بجسده وروحه، ووضع نفسه وماله وولده في طاعة الله وطاعة رسوله، وما هو إلا قليلٌ حتى كانت أُحد، فرأى عمرو بن الجموح أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله، ونظر إليهم غادين رائحين كأُسد الشراى وهم يتوهَّجون شوقاً إلى نيل الشهادة والفوز لمرضات الله، فأثار الموقف حميَّته وعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه، فهو شيخٌ كبير طاعنٌ في السن، وهو إلى ذلك أعرجٌ شديد العرج، وقد عذره الله عزّ جل فيمن عذرهم، فقالوا له: يا أبانا إن الله عذرك فعلام تُكلف نفسك عما أعفاك الله منه، فغضب الشيخ من قولهم أشد الغضب، وانطلق إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام يشكوهم، فقال: يا نبي الله إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير، وهم يتزرعون بأني أعرج، والله إني لأرجوا أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
أ. جمال: وهذه مقولة مشهورة، ونحن دائماً نعتز بهذه المقولة لأنها تدل على عمق الإيمان في قلب المؤمن الذي دخل هذا الإيمان إلى قلبه.
أ. راتب: ألم أقل في أو اللقاء إن له قصةً طريفة، فقال عليه الصلاة والسلام لأبنائه:

(( دعوه لعل الله عزّ وجل يرزقه الشهادة ))

 فخلوا عنه إذعاناً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وما إن أذف وقت الخروج حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته وداع مفارقٍ لا يعود، ثم إتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائباً، ثم انطلق يحيط به أبناؤه الثلاثة وجموعٌ كبيرة من قومه بني سلمة، ولما حمي وطيس المعركة، وتفرَّق الناس عن رسول الله صلوات الله عليه، شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثباً وهو يقول: إني لمشتاقٌ إلى الجنة، إني لمشتاقٌ إلى الجنة، وكان وراءه ابنه خلاَّد، ومازال الشيخ وفتاه يُجالدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرا صريعين شهيدين على أرض المعركة، ليس بين الإبن وأبيه إلا لحظات، وما إن وضعت المعركة أوزارها، حتى قام النبي عليه الصلاة والسلام إلى شهداء أُحد ليواريهم ترابهم، فقال لأصحابه:

 

((خلوهم بدمائهم وجراحهم، فأنا الشهيد عليهم ))

ثم قال:

 

(( ما من مسلمٍ يُكْلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة يسيل دماً، اللون لون الزعفران، والريح ريح المسك " ثم قال: " إدفنوا عمرو بن الجموح مع عبد الله بن عمرو، فقد كانا متحابين متصافيين في الدنيا ))

رضي الله عن عمرو بن الجموح وأصحابه من شهداء أحد، ونوَّر لهم قبورهم.
 أ. جمال: في الواقع لا يسعنا إلا أن نقول: رحم الله عزّ وجل كل صحابة النبيّ الأعظم عليه الصلاة والسلام، والصحابي الجليل عمرو بن الجموح الذي تحدثنا عنه في هذه الحلقة الطيبة، نشكر فضيلة الشيخ أيها الأعزاء باسمكم جميعاً، فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية جامعة دمشق، والمدرس الديني في مساجد دمشق، وخطيب جامع النابلسي بدمشق ، نشكركم الشكر الجزيل، لنا لقاء إنشاء الله.

تحميل النص

إخفاء الصور