وضع داكن
29-03-2024
Logo
الحلقة : 6 - الوقت سر وجودنا وغايته.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  مستمعي الكرام ؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أحييكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامج : "الإسلام والحياة" ، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق كلية التربية ، المدرس في مساجد دمشق ، خطيب جامع النابلسي ، أهلاً ومرحباً بكم .
الدكتور راتب :
 بكم أستاذ عدنان .
المذيع :
 نستمر معكم بعون الله تعالى عن الحديث في موضوع الوقت ، والوقت من جملة ما شرحتم ، شرحتم أشياء كثيرة إنما حياة الإنسان التي يعيشها في عصره ، والملهيات الكثيرة ، والنبضات الإيمانية أيضاً التي تحركه إلى العمل الصالح يجدها في محطات متعددة في زمنه ، وهي نفحات ، فمن لم يتعرض لها فقد خسرها ، والخاسر من جملة هذه الأمور والمحطات من خسر في شهر رمضان ، كما قال عبد الله بن مسعود : إن في أربعة مواطن يعرف الإنسان قلبه من جملتها في شهر رمضان المبارك ، فإن لم يجده فليسأل الله تعالى أن يكون له قلب فإنه لا قلب له . وهذا يرتبط بموضوع الوقت ، وأن يكون الإنسان حريصاً على أن يكون له قلب ذاكر بالتالي يقوم بالأعمال الصالحة ، يؤدي وظيفته في إعمار الأرض ، وهو في هذه الحالة تكليف وإلى جانبه التشريف أيضاً ، وما حولنا يمكن أن تكون هناك ملهيات كثيرة ، وإذا نظر الإنسان بعقله فإنه يدرك الإدراك الكامل أن عليه أيضاً واجبات كثيرة ، كيف تكون مسيرة الإنسان بين هذا وذاك ؟

معرفة الله وعبادته هدف الإنسان الأول في الحياة :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 أستاذ عدنان جزاك الله خيراً ، لو أن أحداً سافر إلى بلد غربي ، وأقام في بعض فنادقه ، واستيقظ صبيحة اليوم الأول وقال : إلى أين أذهب ؟ نسأله نحن : لماذا جئت إلى هنا ؟ إن كنت جئت طالب علم فاذهب إلى المعاهد والجامعات ، وإن جئت تاجراً فاذهب إلى المعامل والمؤسسات ، وإن جئت سائحاً فاذهب إلى المقاصف والمتنزهات ، إن حركة الإنسان ضمن الوقت لا تصح إلا إذا عرف سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، نحن حينما نعلم سرّ وجودنا في الدنيا وغاية وجودنا في الدنيا عندئذٍ تصح حركتنا ، لو أن هذا الطالب الذي أرسله أبوه ليدرس وليأخذ الدكتوراه من بلد غربي سرّ وجوده الدراسة ، وأن يكون هذا الهدف دائماً أمامه ، وهذا الهدف يقيّم كل جزئية في حركته ، قد يصاحب طالباً متفوقاً في لغة البلد كي يتعلم منه اللغة ، قد يشتري مجلة تعينه على فهم هذه اللغة ، يستأجر بيتاً قريباً من الجامعة ، مادام هدف الطالب واضحاً أمامه دائماً كل جزئية في حركته ينسبها إلى هدفه الكبير ، والإنسان في الدنيا لا يمكن أن يفلح إلا إذا عرف لماذا خلقه الله ، خلقه ليعرفه ، خلقه ليعبده ، خلقه ليتقرب إليه بالأعمال الصالحة ، عندئذٍ يقيِّم كل حركاته وسكناته ومفردات عمره وفق هذا الهدف الكبير ، أما حينما يغفل الإنسان عن الهدف الكبير الذي خلق له يغفل الإنسان عن سرّ وجوده ، وعن غاية وجوده ، يعيش بلا هدف ، يستمتع وينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً ، ويعطي نفسه ما تشتهي ، عندئذٍ سوف يندم ندماً لا حدود له عند الموت .

تعريف النذير :

 يقول الله عز وجل يخاطب هؤلاء الذين شردوا عنه :

﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾

[ سورة فاطر : 37 ]

 الإمام القرطبي رحمه الله تعالى صاحب التفسير الشهير يقول في كلمة النذير قولاً رائعاً يقول : النذير هو النبي عليه الصلاة والسلام . لأن الله عز وجل يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 45-46]

 وهناك رأي آخر النذير هو القرآن الكريم ، لأن فيه مشاهد من يوم القيامة لما سيكون، والعاقل هو الذي يصل إلى الشيء قبل أن يصل إليه ، يصل إليه بعقله قبل أن يصله بجسمه ، فالنذير هو القرآن ، وقال بعضهم : النذير سن الأربعين . فمن دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، نحن إذا سافرنا إلى بلد لنقيم فيه عشرة أيام في اليوم السابع تنعكس فيه تصرفاتنا ، من قطع تذاكر العودة إلى شراء الهدايا ، الإنسان إذا دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، عليه أن يعد لساعة مفارقة الدنيا ، هذه الساعة ماذا يحتاج فيها الإنسان ؟ إلى توبة ، إلى استقامة ، إلى عمل صالح ، إلى طلب علم ، إلى دعوة ، فالنذير هو سن الأربعين ، وبعضهم قال : سن الستين ، وبعضهم قال الشيب ، وقد ورد في الأثر القدسي : عبدي كبرت سنك ، وانحنى ظهرك ، وضعف بصرك ، وشاب شعرك ، فاستح مني فأنا أستحي منك .

إلى متى وأنت باللذات مشغول   وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
تعصي الإله وأنت تظهر حبه   ذاك لعمري في المقال شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطـعتـــه   إن المحب لـمن يحب يطـيــع
***

 فالنذير هو الشيب ، النذير هو سن الستين ، النذير هو سن الأربعين ، النذير هو القرآن الكريم ، النذير هو النبي عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم ، أي كأن الله سبحانه وتعالى حينما تتبدل بعض خصائص أجسامنا بتقدم السن كأن هذا التبدل هو إشارات لطيفة من الله وكأن لسان حال الحضرة الإلهية يقول : يا عبدي قد اقترب اللقاء ، هل أنت مستعد له ؟ إذاً الشيب هو من معاني النذير ، والمصيبة أيضاً تعني النذير ، المصائب تلفت النظر ، الإنسان يكون مسترسلاً غارقاً في المعاصي والآثام ، تأتي المصيبة لتوقظه ، أين أنت ؟ ماذا تفعل ؟

﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾

[ سورة الحديد : 16 ]

 المصائب أيضاً من النذير ، وفي بعض تفسيرات هذه الآية موت الأقارب من النذير، فالإنسان حينما يرى شخصاً ملء السمع والبصر بثانية واحدة أصبح خبراً على الجدران - قصدت في نعوته- ينبغي أن ينتبه أن كل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت :

والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر   والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***

و:

كل ابــن أنثى وإن طالت سلامــته   يـــوماً على آلة حدبـــاء محمول
فإذا حمــــلت إلى القبور جنـــــــــازة   فاعــــلم بأنــــك بعدهـــــــا محمول
***

 والله الذي لا إله إلا هو لا أرى أشد ذكاءً ونجاحاً وفلاحاً وتوفيقاً وتفوقاً من الذي يعدّ لهذه الساعة التي لابد منها .
المذيع :
 لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال :

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . . .))

[ الترمذي عن شداد بن أوس ]

الغفلة أخطر مرض يصيب الإنسان :

الدكتور راتب :
 لذلك أستاذ عدنان الأذكياء يعيشون المستقبل ، والأقل ذكاءً يعيشون الحاضر ، والأغبياء يعيشون الماضي ، فالإنسان حينما يتحرك يجب ألا يعيش لحظته ، ألا يعيش معطيات حياته الآنية ، لابد من أن يكون شيئاً مخيفاً ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾

[ سورة الملك : 2 ]

 قال علماء التفسير : قدم الموت على الحياة ، الإنسان حينما يولد أمامه خيارات لا تعد ولا تحصى ، ولكن حينما يقترب أجله أمامه خياران لا ثالث لهما ، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، إذاً ينبغي أن ينتبه الإنسان في وقت مبكر ، وحينما يسوق الله للإنسان بعض الشدائد ، هذه الشدائد في الحقيقة هي مذكِّرات أن هناك لقاءً مع الله ، أن هناك موعداً مع الله ، فحينما يفهم الأمور هذا الفهم يكون قد وفق إلى فهم ما حوله من أحداث، أما حينما ينسى سرّ وجوده ، وغاية وجوده !! أستاذ عدنان أخطر مرض يصيب الإنسان مرض الغفلة ، يغفل عن الله ، والإنسان حينما يغفل عن نتائج عمله يدفع الثمن باهظاً ، فحينما تصح الرؤية يصح العمل ، وأهل النار وهم في النار ماذا يقولون ؟

﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ﴾

[ سورة الملك : 10-11 ]

 هي أزمة علم .

العلم يؤكد إنسانية الإنسان :


 لذلك إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لن يعطيك شيئاً، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً ، بينما الجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً ، يظل المرء عالماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل .
 العلم هو الذي يؤكد إنسانية الإنسان ، هو الحاجة المرتفعة ، والحاجة التي تؤكد إنسانيته ، لأن حاجات الجسد نشترك بها مع بقية المخلوقات ، بينما الإنسان ينفرد بالعلم الذي يرفعه إلى مستوى إنسانيته ، وأذكر قوله تعالى :

﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾

[ سورة النساء : 113]

 الخالق العظيم يصف العلم بالله أنه عطاء عظيم ، بينما يقول في الدنيا :

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾

[ سورة النساء : 77]

 إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ، أعطاها لأعدائه ، لكن الآخرة يعطيها لأصفيائه المؤمنين ، وقد قيل : إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ويعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين .

خاتمة وتوديع :

المذيع :
 نرجو الله تعالى أن يكون الأخوة المستمعون قد استفادوا مما سمعوا ، إذ العاقل من اتعظ بغيره ، والجاهل من كان موعظة لغيره .
 في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، الأستاذ المحاضر في جامعة دمشق ، المدرس الديني في مساجد دمشق ، خطيب جامع النابلسي .
الدكتور راتب :
 شكراً لك أستاذ عدنان .

تحميل النص

إخفاء الصور