وضع داكن
25-04-2024
Logo
الحلقة : 3 - العبادة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  يسرنا أن نلتقي مع الأستاذ محمد راتب النابلسي ، المحاضر في جامعة دمشق كلية التربية ، وخطيب جامع النابلسي ، والأستاذ محمد نذير مكتبي المدرس في المعاهد الشرعية وخطيب جامع حمزة والعباس ، أهلاً ومرحباً بضيفينا الكريمين .
نحن في شهر رمضان المبارك ، شهر العبادة والتبتل ، والالتجاء إلى الله تعالى ، إذا أردنا أن نبدأ من خلال هذه المقدمة في موضوع العبادة ، العبادة لغةً ، العبادة مفهومها في الإسلام ، العبادة حقيقتها في الإسلام ، العبادة من حيث المعنى اللغوي ، وما يصدر إلى جانب ذلك من كلمة العباد ، والعبد ، وأنواع العبد ، والعبودية ، هذه أمور يمكن أن يكون الحديث مطولاً فيها وجميلاً وشيقاً .
 ترى لو بدأنا مع الأستاذ محمد راتب النابلسي ، ما هي العبادة في الإسلام من حيث حقيقتها ؟

حقيقة العبادة في الإسلام :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 العبادة علة وجودنا ، وسر سعادتنا في الدنيا ، وثمن جنة ربنا في الآخرة ، إنها طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، إنها غاية الخضوع لأمر الله ، وغاية محبته ، فمن أطاعه ولم يحبه لن يكون عابداً له ، ومن أحبه ولم يخضع له لن يكون عابداً له ، من خلال هذا التعريف الدقيق يتضح أن في العبادات جانباً معرفياً فأصل الدين معرفة الله ، والله عز وجل يعرف من خلال خلقه قال تعالى :

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران: 190-191 ]

 ويعرف الله من خلال أفعاله ، قال تعالى :

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[ سورة الأنعام : 11]

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾

[ سورة النمل : 69 ]

 ويعرف الله تعالى من خلال كلامه ، قال تعالى :

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾

[ سورة النساء : 82 ]

 أستاذ عدنان في العبادات جانب سلوكي ، إنها الطاعة الطوعية ، والانقياد التام لأمر الله التكليفي فعلاً وتركاً ، قال تعالى :

﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾

[ سورة الشورى : 15 ]

المذيع :
 فعلاً العبادة لها جانب سلوكي ، وجانب نفسي ، وجوانب متعددة ، يمكن أن نتحدث في هذا الموضوع ، إنما إذا انتقلنا إلى الأستاذ نذير مكتبي ليحدثنا عن العبادة بدءاً ، لغةً ، ومفهوم العبد ، والعباد والمعاني اللغوية لذلك وأنواع العبد ؟

معاني العبادة :

الأستاذ محمد نذير مكتبي
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
 أصل العبودية الخضوع والذل ، والتعبيد التذليل ، يقال : طريق معبد أي مذلل ، و يقولون : البعير المعبد هو المطلي بالقطران ، وذلك بسبب جربه فيفرد عن بقية الإبل ، والعبادة تعني الطاعة ، والتعبد يعني التمسك ، وفي قوله تعالى :

﴿ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴾

[ سورة الفجر : 29 ]

 أي في حزبي ، وعلى هذا يتحقق للعبادة ثلاثة معان ؛ هي التذلل ،والطاعة ، والولاء، وجاء عند الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات أن العبودية إظهار التذلل ، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ، والعبادة هذه اللفظة بهذا المفهوم لا تكون إلا لله ، لأن له وحده غاية الإفضال على عباده ، قال تعالى :

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 83 ]

 وللعبادة ضربان ، عبادة بالتسخير وهي للإنسان والحيوان والنبات وغير ذلك من المخلوقات ، وهذا المعنى هو المقصود بقوله تعالى :

﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾

[ سورة الرعد : 15 ]

 وعبادة بالاختيار وهي للمكلفين من الإنس والجن ، قال تعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة الحج : 77 ]

أنواع العبد :

 أما أنواع العبد ، فللعبد أربعة أنواع ، عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الذي يباع ويشترى ، وهو المقصود بقوله تعالى :

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة النحل : 75 ]

 وهذا معروف في باب الفقه الإسلامي ، وهو من حيث الواقع الحالي منته ، والإسلام أنهاه أيضاً . نعم ، أما النوع الثاني فهو عبد بالإيجاد ، وهو المقصود بقوله تعالى :

﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾

[ سورة مريم : 93 ]

 كل مخلوق عاقل وغير عاقل ، الجامد والحي هو عبد بالإيجاد ، وأما النوع الثالث فهو عبد بالعبادة ، وهو المقصود بقوله تعالى :

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 63 ]

﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ﴾

[ سورة الكهف : 65 ]

 إلى غير ذلك من الآيات فهو العبد المؤمن الموفق الممتثل لأمر الله ونهيه ظاهراً وباطناً ، يتقي ربه سبحانه وتعالى في سره وعلانيته ، وهذا يشمل المكلفين من الإنس والجن ، أما النوع الأخير فهو عبد الدنيا ، وهو المعتكف على خدمتها ، المتهالك على شهواتها ، والمنقاد لهواه، وهو المقصود بقوله عليه الصلاة والسلام :

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 وفي رواية أخرى يقول فيها النبي عليه الصلاة والسلام :

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

 فهذه هي الأنواع الأربع لمفهوم العبد .
 النوع الثالث الذي تحدثت عنه وهو عبد بالعبادة ، هذا هو النوع الذي كان قد ذكره الأستاذ محمد راتب النابلسي من خلال مظهر العبادة السلوكي وسنتابع في مظاهر العبادة أيضاً .

جوانب العبادة :

الدكتور راتب :
 قبل أن أتابع كتعقيب سريع على ما تفضل به الأستاذ نذير ، هناك عبد القهر يجمع على عبيد ، قال تعالى :

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾

[ سورة فصلت : 46 ]

 وهناك عبد الشكر يجمع على عباد ، قال تعالى :

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً ﴾

[ سورة الفرقان : 63 ]

 وبعضهم فرق بين عبيد وعباد أيضاً .
 على كل هناك جانب في العبادة معرفي تحدثت عنه قبل قليل ، وجانب سلوكي ، بقي الجانب النفسي .
 في العبادة جانب نفسي هو الحب الغامر للمنعم الذي أنعم ، أنعم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، وهذا الحب الغامر يدفع الإنسان إلى الاتصال بالله ، فيسعد بالقرب منه أيما سعادة ، قال بعض العلماء : في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، وقد تؤيد هذه الحقيقة آية كريمة :

﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾

[ سورة محمد : 6]

 أي ذاقوا نعيم القرب من الله عز وجل .

من يتبع هدى الله لا يضل عقله ولا تشقى نفسه :

 لابد لهذه الطاعة الطوعية من معرفةٍ يقينية تسبقها ، كما أنه لابد لهذه الطاعة الطوعية من سعادة حقيقية تفضي لها ، تلك السعادة التي خلق الإنسان من أجلها ، قال تعالى :

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾

[ سورة هود : 118-119]

 خلقهم ليسعدهم في الدنيا والآخرة ، أما حينما يشردون عن الله عز وجل فيدفعون الثمن باهظاً ، لأن الله عز وجل يقول :

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

[ سورة طه : 124 ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل : 97 ]

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

[ سورة طه: 123 ]

 لا يضل عقله ولا تشقى نفسه ، وقال تعالى :

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 38]

 لو جمعنا الآيتين ؛ الذي يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .
المذيع :
 جميل وفي هذه الحالة في الحقيقة يحقق الإنسان سعادة الدنيا ، والفلاح في الدار الآخرة ، وسعادة الدنيا تأتي من خلال ما تفضلتما كلاكما من حيث السلوك والعبودية الخالصة لله تعالى ، والفلاح في الآخرة ، حيث مصير المؤمن أن يكون في رضا الله سبحانه وتعالى .
 مع الأستاذ نذير مكتبي لو تحدثنا أيضاً عن موضوع العقيدة الصحيحة وهي منطلق من حيث الحقيقة إلى العبادة الخالصة لله تعالى ، ماذا يمكن أن نقول ؟

العقيدة الصحيحة منطلق إلى العبادة الخالصة لله تعالى :

الأستاذ محمد نذير مكتبي
 إن العقيدة الصحيحة تضع الإنسان أمام حقيقة العبودية الخالصة لله رب العالمين ، وتسوقه إلى حسن الصلة به سبحانه وتعالى ، لأن من عرف الله حق المعرفة دان له بالعبودية ، وأقر له بالربوبية ، والله سبحانه وتعالى ما خلق الخلق إلا ليعبدوه ، ولا ركب فيهم العقول إلا ليعرفوه ، وما أسبغ عليهم نعمه ظاهرةً وباطنة إلا ليشكروه ، فحيث آمن الإنسان لمن أوجده من عدم ، وأمده بالنعم ، وجعله في كنف حمايته ، وفي ظل عنايته ، وحسن رعايته ، فإنه يجد نفسه أمام واجب كبير تجاه ذلك الخالق العظيم سبحانه بأن يوليه مطلق الحب ، ويقوم بحسن عبادته ، وخالص الخضوع لوجهه الكريم ، ولقد وجه الإسلام الإنسان إلى حسن عبادة الله انطلاقاً من رسوخ العقيدة به سبحانه في أعماق ذلك الإنسان معلناً أنها أعظم ما فرض الله عليه ، وأنها الغاية المحبوبة لله التي خلق الخلق لها ، حيث قال سبحانه وتعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 وبها أرسل جميع رسله حيث قال :

﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾

[ سورة النحل : 36 ]

 وبها نادى الرسل أقوامهم حيث كان قول كل واحد منهم ، قال تعالى :

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون : 23 ]

 وبها أمر الله الناس قاطبة فقال :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

[ سورة البقرة : 21]

 وبها أمر المؤمنين ، فقال سبحانه :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة الحج : 77 ]

 وبها أمر أشرف الخلق ، فقالّ جل ذكره :

﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾

[ سورة الحجر : 99 ]

المذيع :
 الحقيقة إذا توسعنا وتابعنا في موضوع الحديث عن العبادة تنفتح أمامنا جوانب متعددة، تنفتح من خلال الحديث الشيق الذي تتحدثون به ، مثلاً لو أراد الإنسان أن يقول : لست عبداً لله ترى هل يستطيع أن ينفي هذه العبودية بأن يجعل شبابه دائماً في الحياة ؟ لا يمكن ، هل يستطيع أن يجعل عمره من المخلدين في الدنيا ؟ لا يمكن ، هل يستطيع أن يتحكم بشكله وقوامه؟ لا يمكن ، إذاً هو عبد لله بالقسر إن رضي أو لم يرضَ ، فمن رضي بالله تعالى خالقاً ، وأن الإنسان هو عبد لله ، إذاً قد تمكن من حقيقة حرية وجوده في الحياة ، لأنه الواقعُ الذي ينطلق منه، أما إذا كان عبداً لغير الله فتلك هي المذلة ، إذا أردنا أن نطالع هذا الموضوع مع الأستاذ محمد راتب النابلسي فماذا يمكن أن نقول ؟

العبودية الخالصة لله هي عين الحرية وسبيل السيادة الحقيقية :

الدكتور راتب :
 إن العبودية الخالصة لله عز وجل هي عين الحرية ، وسبيل السيادة الحقيقية ، إن العبودية الخالصة لله عز وجل هي وحدها تعتق القلب من رق المخلوقين ، وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس ، وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد ، ذلك أن في قلب الإنسان حاجةً ذاتيةً إلى رب عظيم ، إلى إله كريم، إلى معبود يتعلق به ، يسعى إليه ، ويعمل على رضاه ، ويلتجئ إليه ، ويلوذ بحماه ، لأن الإنسان خلق ضعيفاً ، نقطة الضعف في خلقه لمصلحته ، الإنسان خلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد في افتقاره ، ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه ، فإذا لم يكن هذا المعبود هو الله الواحد الأحد تخبط الإنسان في عبادة آلهةٍ شتى ، وأربابٍ أخر مما يرى ومما لا يرى ، ممن يعقل وممن لا يعقل ، مما هو موجود وما ليس بموجود إلا بالوهم والخيال .
 يقول أحد العلماء : كل من استكبر عن عبادة الله لابد من أن يعبد غيره ، أي إما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تكون عبداً لعبد لئيم يسترقه ويذله ، ولم ينجُ القلب من استعباد المخلوقين واسترقاقهم ، إلا أن يكون الله خالق السماوات والأرض ورب العالمين هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا يكره إلا ما يبغضه ويحرمه ، ولا يوالي إلا من يواليه ، ولا يعادي إلا من يعاديه ، ولا يحب إلا ما يحب ، لا يحب إلا لله ، ولا يبغض إلا لله ، ولا يعطي إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، وكلما قوي إخلاصه لله كملت عبوديته له ، واستغناؤه عن خلقه ، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك ، ورد في الأثر القدسي :

((ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده أهل السماوات والأرض ، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، و ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ))

 في بعض الأدعية :" يا ربي ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ فإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ".
 وقال أحد الشعراء :

ومما زادني عزاً وتيهاً  دخولي تحت قولك يا عبادي
***

المذيع :
 هذا القول يشير في الحقيقة إلى أن العبودية لله هي عز ، وأن العبودية لغير لله هي ذل ، إذا توقفنا عند هذه المقولة مع الأستاذ نذير مكتبي فماذا يمكن أن نقول ؟

نتائج عبودية غير الله :

الأستاذ محمد نذير مكتبي
 ربما كان الجواب على هذا السؤال متابعة لما تفضل به الأستاذ محمد راتب حفظه الله، من عبد غير الله فتوجه إلى صنم ، أو إلى مال ، أو إلى شخص ، أو إلى منصب ، أو إلى غير ذلك من مظاهر الخلق لا يبوء إلا بالذل والخسران والشقوة والضياع ، ولقد حدثنا القرآن عن نتائج عبودية غير الله ، فحدثنا عن نتائج عبادة المال ، والأتباع ، والمنصب ، والجاه ، قال سبحانه :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾

[ سورة آل عمران : 10 ]

 وقال سبحانه على لسان من خاب في ظل عبودية غير الله :

﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾

[ سورة الحاقة : 25-29]

 جاء معنا في الحديث الذي مر معنا ذكره صلى الله عليه وسلم :

(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ))

 فما أقبح من نسي الله ، وأقبل على من سواه ، أو جعل لله شريكاً يدعوه بدعائه ، ويرجوه برجائه ، إن هذا لهو عين الإيذاء ، وأقبح الكفران ، أخرج أحمد في المسند قال عليه الصلاة والسلام :

(( عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ ))

[ البخاري عن أبي موسى ]

 وأخرج الرافعي والربيع ، يقول الله عز وجل :

(( يا بن آدم ما تنصفني ، أتحبب إليك بالنعم وتتمقت إليّ بالمعاصي ، خيري إليك منزل وشرك إليّ صاعد ، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح منك ، يا ابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت إلى مقته))

 وأما من عبد الله وحده لا شريك له فقد فاز بالعز الحقيقي ، قال الله تعالى :

﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ﴾

[ سورة المنافقون : 8 ]

المذيع :
 إذا تابعنا الحديث عن العبادة ونحن في شهر رمضان المبارك شهر العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، فماذا يمكن أن نطرح من الأمور مع الأستاذ محمد راتب النابلسي ؟

الإسلام منهج أخلاقي :

الدكتور راتب :
 أستاذ عدنان من العبادات ما هو تعاملي ، فالأمر بالصدق ، والأمانة ، والعفاف ، وإنجاز الوعد ، والوفاء بالعهد ، وتحري الحلال ، وضبط الجوارح والأعضاء ، هذه العبادات التعاملية أشار إليها سيدنا جعفر حينما سأله النجاشي عن الإسلام ، قال :

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه....، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))

[ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

الإسلام من خلال تعريف سيدنا جعفر منهج أخلاقي ، منظومة قيم أخلاقية ، فهذه عبادات تعاملية ، أما العبادات الشعائرية كالصلاة ، والصوم ، والحج فتقوم أصولها مع حسن العلاقة مع الله عز وجل ، إقبالاً واتصالاً واستنارةً وطمأنينةً ، ولا تصح العبادات الشعائرية ومنها الصيام ما لم تصح العبادات التعاملية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

خاتمة وتوديع :

في ختام هذه الندوة وهذا اللقاء نشكر ضيفينا الكريمين ، الأستاذ نذير مكتبي المدرس في المعاهد الشرعية ، وخطيب جامع الحمزة والعباس ، والأستاذ محمد راتب النابلسي الأستاذ و المحاضر في كلية التربية جامعة دمشق ، وخطيب جامع عبد الغني النابلسي ، شكراً لضيفينا الكريمين وشكراً للمستمعين .

تحميل النص

إخفاء الصور