- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، و ما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله ، سِّيدُ الخلق و البشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهمَّ ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذِّبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علّمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الابتلاء سرّ وجود الإنسان في الدنيا :
أيها الأخوة الأكارم ؛ في سورة تبارك التي هي في مطلع الجزء التاسع و العشرين آيات دقيقة جداً يجب أن نقف عندها ، وأن نستوعب مضمونها ، وأن نهتدي بهديها ، فالله سبحانه و تعالى يقول :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
يجب أن تعلم أيها الأخ الكريم أن سرَّ وجودك في الدنيا الابتلاء ، و الابتلاء هو الامتحان ، أعطيت صحة ماذا فعلت بها ؟ أُعطيت قوة ، أُعطيت مالاً ، أعطيت زوجة ، أعطيت أولاداً ، أعطيت مكانة ، ماذا فعلت ؟ و هذا العقل يدلُّ على ماذا ؟ لماذا وصلت ؟ لماذا قطعت ؟ قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
نقف مواقف ، ونفعل أفعالاً ، ونحجم ، ونقدِم ، وهذه المواقف كلها مسجَّلة علينا، هذا العطاء مسجل ، وهذا الحرمان مسجل ، قال تعالى :
﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا﴾
هذه الصلة مسجلة ، وهذه القطيعة مسجلة ، هذا الغضب لماذا غضبت ؟ أغضبت لله عز وجل أم غضبت لمصلحتك ؟ كله مسجل ، قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
كل شيء يمضي ، كل شيء يزول ، قال تعالى :
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
كل مخلوق يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر ، الدنيا ساعة فاجعلها طاعة ، يجب أن تعلم علم اليقين أنك في فترة لها تأثير خطير في مستقبلك الأبدي ، هل تعلَّمت العلم ؟ علمُك ماذا عملت به ؟ شبابك فيمَ أبليته ؟ عمرك فيمَ أفنيته ؟ مالك ماذا صنعت فيه ؟ هل أنفقته على كل محتاج ومسكين ، لثقتك أن الله خير حافظاً و هو أرحم الراحمين ، أم لم تنفق منه شيئا مخافة الفقر على أولادك من بعدك ؟ قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
كيف تنتقي زوجتك ؟ هل آثرت الصلاح و الدين أم آثرت المال و الحسب و النسب ؟ كيف تختار عملك ؟ هل آثرت عملاً ترتزق به يرضي الله عز وجل بُني على العطاء ؟ أم آثرت عملاً يدرُ عليك دخلاً كبيراً و لكن أساسه إيقاع الأذى بالآخرين ؟ قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
وما دام الموت مصيرَ كل حيٍّ فالعبرة بالمواقف ، و العبرة بالأعمال الصالحة ، و العبرة بإيمانك بالله ، و العبرة لمعرفتك به ، و العبرة لطاعتك ، و العبرة لتضحيتك .
الحكمة من تقديم الموت على الحياة :
يا أيها الأخوة المؤمنون ، يجب أن يعلم المؤمن علماً يقينياً قطعياً أن سرّ وجوده هو الابتلاء و الامتحان ، قال تعالى :
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾
لكن في الآية شيئاً ، وهو أن الله سبحانه و تعالى قدَّم الموتَ على الحياة ، و التقديم في القرآن الكريم له معنى دقيق جداً ، قدَّم الموت على الحياة لا تقديماً تاريخياً ، أو تقديماً زمنياً ، لأن الإنسان يحيا ثم يموت ، و لكن قدَّم الموت على الحياة تقديما رُتبيًّا ، لأن حدث الموت أخطر بكثير من حدث الحياة ، إنك إذا وُلدت ، وأُخرجت إلى الدنيا لك خيارات كثيرة ، لك أن تؤمن ، و لك ألا تؤمن ، لك أن تحسن ، و لك ألا تحسن ، لك أن تعطي ، ولك أن تمنع ، لك أن تخلص ، ولك ألا تخلص ، ولكن إذا جاء الموت فو الذي نفسُ محمدٍ بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار ، كان أمامك مئة طريق وطريق ، و لكن إذا جاء الموت ليس أمامك إلا طريقان .
طلب العلم فريضة :
أيها الأخوة الأكارم ؛ آية أخرى من سورة تبارك ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
نسمع أو نعقل ، وكأن الله سبحانه و تعالى بهذه الآية بيَّن بأن هناك طريقين لوصول المعرفة إليك ، إما طريق سماع الحق خالصاً من كل شائبة ، أو طريق التأمُّل ، لا بد من أن تسمع ، ولا بد من أن تعقل ، فإن لم تسمع ، إن ضاق وقتك عن حضور مجالس العلم ، إن ضاق وقتك عن سماع الحق ، إذا استغرق عمُلك وقتك كله ، إذا تلاحقت عليك الأعمال ، إذا غرقت في كسب الدرهم و الدينار ، ولم يبق في حياتك لتسمع أو تعقل فأنت من الخاسرين ، لو أن عملك درَّ عليك آلاف الألوف ، درَّ عليك ألوف الألوف ، لا بد من أن تسمع أو تعقل ، و طريق السماع أسهل ، تأخذ الحق خالصاً من كل شائبة ، ما عليك إلا أن تتدبَّره ، ما عليك إلا أن تعقله ، ما عليك إلا أن تتبنَّاه ، ما عليك إلا أن تتأمل فيه ، ما عليك إلا أن تتبصر ، فإذا هو ملكك ، إذا ملكت الحق انعكس هذا على سلوكك ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
أي أيها الأخوة الأكارم ؛ لا بد من مشرب ، لا بد من تغذية دينية ، لا بد من أخذ العلم ، لا بد من طلب العلم ، لابد من معرفة الله ، أما أن يبقى الإنسان جاهلاً ، أما أن يبقى الإنسان على هامش الحياة ، أما أن يكون عليماً بالدنيا ، جاهلاً بالآخرة ، فهذه هي الخسارة الكبيرة ، قال تعالى :
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
طلب العلم فريضة ، و معنى فريضة كأن تقول : تنفُّس الهواء فريضة ، أي شرط أساسي لبقاء حياتك ، تناول الطعام والشراب والتنفس فرض ، كذلك أيها الأخوة الأكارم طلب العلم فريضة ، إنك لن تسعد لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا إذا عرفت الله ، وإلا إذا أطعته ، و لن تطيعه إلا إذا عرفته ، فالعلم هو كل شيء ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، و إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، و إذا أردتهما معا فعليك بالعلم ، و العلم لا يعطيك بعضَه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
أيها الأخوة الأكارم ؛ قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
لا بد من أن تجتزئ من وقتك الثمين وقتاً لسماع العلم ، لمعرفة الله ، للتفكُّر في خلق السموات و الأرض ، للتأمل في حقيقة الدنيا ، للتأمل في سر الوجود ، قال تعالى :
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾
إن لم تسمع فاعقل ، وإن لم تعقل فاسمع ، والأولى أن تسمع ، وأن تعقل .
فضل الله العميم على الإنسان :
أيها الأخوة الأكارم آية أخرى يبيِّن الله لكم فيها فضله العميم .
الهواء متوافر ، هناك تجديد طبيعي له ، النبات يأخذ غاز الفحم الذي تطرحه ، و أنت تأخذ الأوكسجين الذي يطرحه النباتُ ، من جعل هذا الهواء نقيًّا صافياً ؟ من جعل هذه الدورة الدقيقة المعقَّدة بين الإنسان و النبات ؟ الله سبحانه و تعالى ، من جعل لك الماءَ عذباً فراتاً ؟ قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً﴾
اللتر الواحد يكلف في محطات تصفية الماء وتحليته مبالغ طائلة ، يزيد عن خمسين أو ستين ليرة ، للتر الواحد ، من جعل هذا الماء العذب الفرات الذي تشربه نقياً صافياً ؟ قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً﴾
الهواء متوافر ، و الماء صاف ، من خلق لك هذا النبات ؟ ثلاثة آلاف و خمسمئة نوع من القمح ، و القمح لأنه غذاء كامل ينمو في كل الأصقاع ، في السهول ، و الأغوار ، في الجبال ، في المرتفعات ، و في كل المناطق المعتدلة ، والاستوائية ، و الباردة، والمتجمدة ، من صمَّم هذا ؟ وأن مُدَّ القمح يعطي عشرين إلى ثمانين إلى مئة ، قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً﴾
من جعل القمح يتوافق توافقاً تاماً مع بنية الإنسان ؟
أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الخضار التي تأكلونها من صمَّمها ؟ من جعلها تنمو بالتدريج ، بينما المحاصيل تنمو دفعة واحدة ، لو أن المحاصيل كالقمح و الشعير نمت بالتدريج لكان حصادُها مستحيلاً ، و لو أن الفاكهة و الخضار نمت دفعة واحدة لكان استهلاكها مستحيلاً ، من صمم ؟ قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
أيها الأخوة الأكارم ؛ وهذه الحيوانات التي ذلَّلها الله لنا ، هذه الغنمة التي تستفيد منها من كل شيء ، من لحمها ، ومن دهنها ، ومن عظامها ، ومن أحشائها ، ومن جلدها ، ومن صوفها ، من ركَّب هذا الطبع المطواع ، ذلول ، لو أن الله عز وجل ركّب طباعَ الضبع في الغنمة ، كيف تربِّيها ؟ كيف ترعاها ؟ كيف تذبحها ؟ هذا معنى قوله :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً﴾
الغنم و البقر و الجمال و هذه الدواب كلها مذلَّلة ، طفل صغير يقود جملاً عملاقاً ، من ذلَّل هذا الجمل لهذا الطفل الصغير ؟
في الآية التالية معنيان دقيقان :
مركز الثقل في الآية أيها الأخوة :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
في الآية معنيان اثنان دقيقان ، المعنى الأول هو أن هذه الأرض خُلقت لهدفين، أو أن هذا الكون خُلق لهدفين اثنين ، فإياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تحقِّق أحد الهدفين فقط ، أن تستخدم هذه المظاهر ، أن تستفيد مما أودعه الله في الأرض ، أن تستمتع به ، أن تستغله ، لا، يجب أن ترى الله من خلاله ، لكل شيء خلقه الله عز وجل وظيفتان اثنتان ، الأولى أن تستفيد منه ، و الثانية أن تتعرَّف إلى الله من خلال ، فإذا عطَّلت الهدف الآخر فقد عطَّلت هدفَ الوجود ، قال تعالى :
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾
معنى فامشوا في مناكبها يذكِّرنا بقوله تعالى :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾
أي امش مشي تفكـُّر ، مشي تدبُّر ، مشي اتِّعاظ ، مشي تأمل ، و لا تنغمس في الدنيا ، ولا تغص في أعماقها ، لا يكن عملك قبراً لك ، لا يستهلك عملُك كلَّ وقتك :
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾
الله سبحانه و تعالى هو الذي ضمن لكم الرزق ، إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله عباد الله ، و أجملوا في الطلب ، و استجملوا مهنكم . . . . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، و بطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
أيها الأخوة الأكارم ؛ آية دقيقة جداً ، قال تعالى :
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا﴾
امش مشي متَّعظ ، تأمل ، كن وقَّافا عند آيات الله ، تدبَّرها ، لا تكن هكذا ، كما وصف الله به الكافرين ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾
قال تعالى :
﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ﴾
قال تعالى :
﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾
قال تعالى :
﴿الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾
لا ينبغي أن يكون الإنسان كهؤلاء يأكل ، ويشرب ، و يستمتع ، ثم يأتيه الموت فجأة ، ولا يعدُّ له شيئا . أيها الأخوة الأكارم ؛ مرة ثانية :
(( إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله عباد الله ، و أجملوا في الطلب ، واستجملوا مهنكم . . .))
قال تعالى :
﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾
قال تعالى :
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾
لا تتشاغل أيها العبد بما ضمنه الله لك عما افترضه عليك ، قال تعالى :
﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾
لا بد من رجعة إليه ، لا بد من وقفة بين يديه ، لا بد من حساب دقيق ، لا بد من عرض شامل ، لا بد من أن تُعرض الأعمال على الله عملاً عَملاً ، ما موقفك ؟ هل تعلمون من الذكي ؟ هو الذي هيَّأ لهم عز وجل جواباً عن كل تصرف .
البون الشاسع بين حياة المؤمن و حياة التائه الشارد :
أيها الأخوة الأكارم ؛ آية أخرى في سورة تبارك ، تصوَّر أيها الأخ الكريم أن أرضاً وعرة فيها نتوءات ، وفيها صخور ، وفيها حفر ، وفيها منزلقات ومطبات ، وفيها غبار ، وفيها أشواك ، و الإنسان يمشي في هذا الطريق ، فكلما سار متراً انكبَّ على وجهه ، كلما سار متراً آخر وقع في حفرة ، كلما وقف من حفرة وقع في أخرى ، ربُّنا عز وجل أعطانا صورة دقيقة قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾
هناك معنى مستنبط ، أنه يمشي في أرض وعرة ، يمشي في أرض كلها مطبَّات، كلها حفر ، كلها نتوءات ، كلها عثرات ، كلها أشواك ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
منتصب القامة ، رافع الرأس ، يرى إلى مسافات شاسعة ، يمشي على ماذا ؟ لماذا يمشي سوياً ؟ لماذا يمشي منتصب القامة ؟ لماذا يمشي رافع الرأس ؟ جاء الجواب ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
لأنه يمشي على طريق معبَّدة مفروشة بالورود و الرياحين ، لم يشأ الله عز وجل أن يسمِّي طريق المعصية طريقاً ، ليست طريقاً ، إنما هي خبط عشواء ، ما قال : طريق ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾
يستنبط أنه يمشي على أرض وعرة ، وقع في متاهات ، في كسب المال وقع في متاهات ، و في إنفاق المال وقع في متاهات ، وفي اختلاطه بالنساء الأجنبيات وقع في متاهات، و في عطائه وقع في متاهات ، وفي منعه وقع في متاهات ، كلما وقع في شهوة عاقبه الله عليها من طور إلى طور ، من مصيبة إلى مصيبة ، قال تعالى :
﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ﴾
قوارع ومصائب و محن و نوازل ، كلها بسبب أن هذا الإنسان ترك الطريق المستقيم ، ترك منهج الله ، ترك القرآن الكريم ، ترك سنة النبي عليه الصلاة و التسليم ، و سار على هواه ، و كأن حركته في الحياة من دون منهج حركة في أرض وعرة ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
يا أيها الأخوة الأكارم ؛ بونٌ شاسع ، بون بعيد جداً بين حياة المؤمن وحياة التائه، حياة الشارد ، حياة البعيد ، حياة المتفلِّت من منهج الله عز وجل ، قال تعالى :
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾
قال تعالى :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾
هناك من يمشي بحالة ركوع ، لا يرى إلا تحت رأسه ، من مطبٍّ إلى مطب ، من حفرة إلى حفرة ، هكذا وضعه ، في زواجه ، بيته فيه معاص ، يطلِّق امرأته لأسباب تافهة ، يختار زوجة لا على أساس توجيه النبي الكريم ، بيته قطعة من الجحيم ، يكسب المال الحرام يصاب بهزات مالية ساحقة ، هذا معنى قول الله عز وجل :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾
له اتِّصالات ، وله علاقات ، وله اختلاطات مع من لا يحللن له ، تقع المشكلات، تقع الخيانة ، ويقع الطلاق ، ويُشرد الأولاد ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى﴾
يتعامل بالربا ، فيمحق الله ماله ، قال تعالى :
﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾
قال تعالى :
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾
العبرة لمن يضحك في الآخر :
أيها الأخوة الأكارم ؛ وآية أخرى من آيات سورة تبارك ، قال تعالى :
﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
العبرة لمن يضحك في الآخر ، لا لمن يضحك في الأول ، قال تعالى :
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾
و قال تعالى :
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾
إلى آخر الآيات .
أيها الأخوة الأكارم ؛ اقرؤوا القرآن قراءة تدبر ، و يجب أن يعقب التدبرَ التطبيق من أجل أن تقبضوا ثمن معرفتكم ، وكتاب الله عز وجل يجب أن تطِّبقوه .
اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علَّمتنا ، و زدنا علماً ، و الحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
إعجاز القرآن :
أيها الأخوة الأكارم ؛ من دلائل إعجاز القرآن الكريم قول الله عز وجل :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾
دقِّقوا في حروف العطف ، جاءت الفاء ، قال تعالى :
﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ﴾
من العلقة إلى المضغة الفاء ، و من المضغة إلى العظام الفاء ، ومن العظام إلى اللحم الفاء ، أما من النطفة إلى العلقة " ثم " واحدة ، و الفاءات بعدها متلاحقة ، ثم حرف عطف ، و الفاء حرف عطف ، ثم للترتيب على التراخي ، بينما الفاء للترتيب على التعقيب ، أحدث ما في علم الجنين أن هناك فترة زمينة بين مرحلة النطفة و مرحلة العلقة ، هذه الفترة تزيد عن أسبوعين ، فيها يتباطأ نموُّ الجنين ، في علم الأجنة بين النطفة و بين العلقة يتباطأ نموُّ الجنين ، لأن هذه المرحلة مرحلة انغراز النطفة في جدار الرحم ، و الجنين في هذه المرحلة لا ينمو ، و لكن يوطِّد طرائق امتصاصه للغذاء من الرحم ، لذلك لا يكون الجنينُ في هذه المرحلة إلا كقرص من خلايا منتظمة على شكل صفين متوازيين ، فهذا البطء في مرحلة نمو الجنين في الأسبوع الثاني والثالث من اللقاح عبَّر الله عنه بحرف " ثم" ، أما من العلقة إلى المضغة فقد قال تعالى :
﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ﴾
في مرحلة واحدة ، ثم قال تعالى :
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾
خلال أسبوعين تتَّجه هذه البويضة الملقَّحة التي تكاثرت إلى عشرة آلاف خلية تتجه لا إلى النمو ، بل إلى تمكين نفسها من جدار الرحم ، لذلك يتباطأ النمو ، فجاء القرآن و هو كلام الخالق معبِّراً عن هذه الحقيقة العلمية بحرف " ثم " ، قال تعالى :
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾
هذا كلام رب العالمين ، هذا كلام خالق الكون ، و آيات إعجاز القرآن لا تنقضي، كلما تقدَّم العلمُ كشف وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .