- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (069) سورة الحاقة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكِرام، مع الآية الثامنة عشرة من سورة الحاقة وهي قوله تعالى:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
الله عز وجل ستر الإنسان في الدنيا، له أنْ يُبْدي شيئاً وأن يُخْفي شيئاً فالإنسانُ مسْتورٌ بِسَتْر الله عز وجل أما في الآخرة:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
كلّ النوايا السيِّئة مكْشوفة أمام الخلق كُلِّهم وكلّ الأعمال الشِّريرة مكْشوفة للخلق كُلِّهم:
﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)﴾
والناس فريقان: فريقٌ إلى الجنة وفريق إلى السعير، فأما من أوتيَ كِتابه بِيَمينِه ؛ كِتابُ أعْماله الصالحة التي فعلها في الدنيا، هذا الإنسان يشْعُر أنه فاز وأنه نجح وتفوَّق وحقَّق وُجوده الإنساني ووصل إلى أثْمن شيءٍ وهو الجنة، قال تعالى
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)﴾
ظنَّ هنا بِمَعنى أيْقَن، لماذا كان عمله صالحاً ؟ لأنه أيْقن أنه هناك حِساباً وعِقاباً ومن هو المُستقيم؟ هو الذي وضع الآخرة نُصْب عَيْنَيْه، هو الذي يُحاسِبُ نفْسه عن كلِّ كلمة ونظرةٍ وعن كلّ درْهَمٍ وحركةٍ، لو أنّ الله سأله ماذا يقول ؟ مادُمْتَ تُحاسِبُ نفْسك حِساباً عسيراً سَيَكون حِسابك يوم القِيامة يسيراً،:
﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)﴾
هذا الفوز وهذا النجاح وهذا الفلاح وهذه الجنة التي عرْضها السماوات والأرض وهذه الحياة الأبديَّة التي لهم ما يشاؤون فيها، في الدنيا ليس لك ما تشاء قال تعالى
﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾
وقال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6)﴾
في الدنيا هناك تعبٌ ونصَبٌ وجُهْدٌ، ولن تنالَ شيئاً إلا بِجُهْدٍ كبير، هذا نِظام الحياة الدنيا، أما في الآخرة فهي دارُ تكْريم، فالدنيا دار عمل أما الآخرة دار تكْريم والدنيا دار تكْليف أما الآخرة دار تشْريف، وفي الآخرة لهم ما يشاءون قال تعالى:
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)﴾
وقال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)﴾
مفتاح الآية: إني ظننت أني ملاق حسابيه، حينما توقِن بِاليَوم الآخر تخْتلف كلّ تصرُّفاتك، ويخْتلف الميزان، بِميزانِ الدنيا تجد أحْياناً أنَّ إنساناً ربِح خمس وثلاثون مليون فرَضاً هذا بِميزانِ الدنيا أما بِميزان الآخرة هناك حِسابٌ آخر، لا ترْقى عند الله إلا بالدَّخْل الطَّيِّب أما بِميزان الدنيا ؛ يُمْكن أنْ تعرض صورة لإنْسانٍ يلْبس بدْلة وبِجَنْبِهِ امرأةٌ فاضِحة وتُوَزِّعُها بِكُلِّ الشام من أجل أن ترفع مبيعاتِك أما بِنِظام الآخرة فلن تسْتطيع أنْ تفْعل هذا، بِمُجَرَّد أن تُدْخل ميزان الآخرة بِحِساباتك تخْتلف كلّ تصرُّفاتك وحِساباتك وأعْمالك وأقْوالك ومبادئك ؛ قال تعالى:
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)﴾
الثمن:" فهو في عيشةٍ راضِيَة " يا ترى هل هي راضِيَة ظام مرضِيَّة ؟ شيءٌ يُحَيِّر ! لكن بعض العلماء قال: العيشَةُ في الدنيا إذا كانت مرْضِيَّة لا بد من أن يتْركها وذلك بِالموت أما إذا كانت راضِيَة فلا تتْرُكُهُ أبداً، بالدنيا هناك قلقٌ عميق ولكنّ الإنسان إذا تمكَّن هناك قلقُ المَوْت والمرض والمُغادرة السريعة، أما في الآخرة لسْتُ الراضي عن هذه العيشة إنما هي الراضِيَة عنك وهي التي لا تُفارِقُك:
﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
يقول لك: في أعْلى مُسْتوى ؛ القُصور والطعام والشراب والبساتين والجنات والحور العين والوِلْدان المُخَلَّدون ثم قال تعالى:
﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾
بلا جُهْدٍ، ففي الدنيا من أجل أن تهيئ طبق طعام تحْتاج إلى ساعة ونصْف ساعة بعد الطعام لِغَسيل الأطْباق، ومن أجل أن تسْكن بيتاً هناك جُهْدٌ مُضْني للعمَل الوظيفي أو التِّجاري أو الصِّناعي أما في الآخرة قُطوفها دانِيَة لك ما تشاء وتطْلب وتتمنى، إذا دُعِيَ الإنسان إلى وليمَةٍ لا يَكْتفي أنَّ الطعام طيِّبٌ بل يتمنى أن يُرَحَّب به، هناك مُظيفين: يا أهْلاً وسَهْلاً وبارَكْتُم، هذا الكلام طيِّب فإذا أُضيف إلى الطعام الطيِّب أصْبح مُنْتهى التكريم ؛ كلامٌ طيِّب وطعامٌ طيِّب قال تعالى:
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
أيام الدنيا وأيام الصيام وأيام الحج وأيام القِيام وغضِّ البصر وضبط اللِّسان وإنْفاق المال وترْبِيَة الأولاد وتَحْجيب الزوجة وطلب العِلم ونشْر العِلم أعْمالٌ صَعْبة، قال تعالى:
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
هذا هو الجواب، ثمّ قال تعالى
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾
حدَّثني أخٌ يُنْشِأُ بِنايَة في أحد مصايِف دِمَشق، بِنايَةٌ مُتَمَيِّزة بِجمالِها وأناقَتِها واتِّساع بُيوتها ؛ جَهَّز أوَّل بيتٍ أما الكسْوة فَفي أعلى مستوى - أنا رأيت اليبت - وصاحب البيت أذْواقه عالية جداً، وأمْواله عالية جداً، فَبَقِيَ له قبل أيام مُنَظِّم الكهْرباء، يضعُهُ ثمّ يسْكن، وكان الأمر أنه وضعه ولم يسْكن، اتَّصلوا به فقالوا: لقد مات، موضوع الموت يأتي فَجْأةٍ قال تعالى:
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾
الإنسان يتْرك أموالٌ منْقولة وغير منْقولة، ويترك حِسابات في البنوك وأمْوالٌ نقْدِيَّة في مَحَلِّه أو بيْتِه، ويتْرك بيوت ودكاكين وأراضي وأسهم سَنَدات، حجم مالي كبير:
﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾
الإنسان له مكانة كبيرة، وأتْباعٌ كثيرون، ألْفُ إنسانٍ يُقدِّم له خِدمة:
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32)﴾
مُقَيَّدٌ ويَحْتَرِق، كُلُّ هذا لماذا ؟ قال تعالى:
﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)﴾
غِسْلين: الماءُ المُسْتَعْمل، الماء القذِر، والماء المالح، هذا الماء يجب أن يشْربه، هناك رجل - أنا أعرف ابنه - يعْمل في تِجارة التُحَف، دَخَلْتُ بيْتَهُ فإذا شيءٌ فوق الخيال ؛ جناح شرْقي وجناحٌ غربي، التُّحْفَة ارْتِفاعُها مِتْرين، التُّحَف الصينِيَّة ثمنها بِمِئات الأُلوف، ولِكُلِّ زاوية تُحْفة ؛ فهُوَ رجلٌ ذواقٌ، ومَيْسور الحال، مات في أحد الأيام المُمْطِرة في الشام قبل عشر سنوات جاءَتْ سبعة أيامٍ ممطِرة جداً ؛ فاض نهْرُ بردى ودخل إلى المحلات التِّجارِيَّة، مُدير معْمله يحضر عندنا في المسْجد فقال لي: أُذِتْ جنازته إلى المَقْبرة وفُتِح القَبْر فإذا مِياهٌ سَوْداء تجْري فيه، سئل ابنه ماذا نفْعل فقال: ضَعوهُ، مُدير المَعْمل المُوَظَّف يقول: مرَّتْ عليَّ سبْعة أيامٍ لا آكُل الطعام ولا أُصدِّق، مُعَلِّمي هنا وُضِع ! أذْواقُهُ عالِيَة جداً، نظيفٌ ومُوَسْوَس ودائِماً أثاثه من أعلى المُستوى وُضِع في قبرٍ تجْري فيه المِياه وهذا القَبْرُ مصيرُنا جميعاً، قال تعالى:
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
تدْعوه إلى درْس عِلْمٍ وإلى حُضور درْس جمعة وإلى سماع شريط وإلى قِراءة كِتابٍ يقول لك: ليْس معي الوقت ؛ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم وفضْلاً عن ذلك: ولا يحُضُّ على طعام المِسْكين؛ يَمْنع الخير قال تعالى:
﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)﴾
هذا مشْهد وذاك مشْهدٌ ؛ النموذج الأول ثمنه الطاعة والثاني ثمنه المعْصِيَة والأول إقْبال والثاني إعْراض والأول تصْديق والثاني تكْذيب الأول إحْسان والثاني إساءة والأول اسْتِقامة والثاني تَفَلُّت ؛ إنْ أردْتَ هذا الطريق كان لك ما تريد وإن أردتَ ذاك كان لك ذاك الطريق.