وضع داكن
20-04-2024
Logo
الحلال والحرام - الدرس : 22 - الورع والشبهات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون الذكر فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

تلخيص لما سبق :

 أيها الأخوة الأكارم: وصلنا في إحياء علوم الدين و في باب الحلال و الحرام إلى موضوع درجات الورع، و بينّا في الدرس الماضي أن هناك ورع العدول أو أن في الأمر فتوى تحذر فعله، فلو فعل هذا الأمر وقع في الحرام، وقع في الإثم، فالترفع و التنزه و الاحتراز عن فعل شيء تنهى عنه الفتوى هذا هو ورع العدول، لأنه من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهم ممن كملت مروءته، و ظهرت عدالته، ووجبت أخوته، و حرمت غيبته، لكن ورع الصالحين ما أحلته الفتوى، و لكن مع هذا الحل شبهة، شبهة في انطباق هذه الفتوى على هذه الحالة، الفتوى قد تنطبق و قد لا تنطبق، يقول لك أحدهم: طلقت امرأتي و أنا غاضب، قال عليه الصلاة و السلام:

(( لا طَلاقَ وَلا عَتَاقَ فِي إِغْلاقٍ ))

[أبو داود عن عائشة]

 الإغلاق هو الغضب و لكن أي غضب هذا؟ الغضب الذي لا تعرف فيه السماء من الأرض، و الطول من العرض، فإذا قال أحدهم: طلقت زوجتي و أنا غاضب تقول له: قال عليه الصلاة و السلام:

(( لا طَلاقَ وَلا عَتَاقَ فِي إِغْلاقٍ ))

يوجد فتوى أن هذا الطلاق لا يقع، و لكن يا ترى هل حالة الغضب التي تلبس فيها تنطبق على الحالة التي وصفها النبي عليه السلام؟ الفتوى تحل إلغاء الطلاق، و لكن هل تنطبق الفتوى على هذه الحالة؟ هناك فتوى و لكن مع الشبهة، فالترفع عن شيء أفتى به المفتون هو ورع الصالحين، أما ورع الأتقياء المتقين فالفتوى تحله و لا شبهة فيه، و لكن قد يفضي هذا إلى اشتهاء الحرام، الترفع عن شيء أباحته الفتوى، و لا شبهة فيه، و لكنه قد يودي إلى أن يشتهي الإنسان الحرام، أو أن يقع فيه، فهذا ورع المتقين، و أما ورع الصديقين، إلهي أنت مقصودي و رضاك مطلوبي، فلا شيء في الدنيا يشغله إن لم يكن متصلاً بك، لا ينشغل عن الله بشيء، صحابي جليل له قدم راسخة في الإسلام سأل النبي عليه السلام: ما الإسلام يا رسول الله؟ قال: أن تخلي لله نفسك، قال تعالى: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *﴾

[ سورة المؤمنون ]

 قيل ما اللغو؟ قال: كل ما سوى الله لغو، و قوله تعالى: 

﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * ﴾

[ سورة الواقعة ]

 يوجد عندنا سابقين.
 وقال تعالى: 

﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * ﴾

[ سورة الواقعة ]

 و عندنا أصحاب اليمين كثرة من الأولين و كثرة من الآخرين، و عندنا أصحاب الشمال، هؤلاء في آخر الزمان يشكلون الأغلبية العظمى، لذلك بدأ الدين غريباً و سيعود كما بدأ فطوبى للغرباء، هذا ورع الصديقين، و قد فسر النبي عليه الصلاة و السلام ورع الصديقين فقال:

(( لا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ))

[ الترمذي و ابن ماجه عن عطية السعدي]

الشبهات :

 ننتقل إلى موضوع الشبهات لأنكم كما لاحظتم في مراتب الورع؛ ورع العدول، ورع الصالحين، ورع الأتقياء، ورع الصديقين، وردت كلمة الشبهة، النبي عليه الصلاة و السلام في حديث جامع مانع وضحها قال:

((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ))

[متفق عليه عن النعمان بن البشير]

 دقة الحديث عجيبة، لا يعلمها الناس؟ لا، لا يعلمها كثير من الناس، أما القليل فيعلمونها، إذاً اسأل، قال تعالى: 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة النحل]

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))

[متفق عليه عن النعمان بن البشير]

 فالحديث واضح؛ عندنا حلال مطلق؛ و عندنا حرام مطلق؛ و عندنا شبهات كثيرة جداً لا يعلمها كثير من الناس، شرب الخمر حرام مطلق، الزنا حرام مطلق، السرقة حرام مطلق، أن تشرب من ماء السماء حلال مطلق، قال تعالى: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾

[ سورة الفرقان ]

أن تأكل طعاماً اشتريته بكسب يدك حلال مطلق، أن تنظر إلى زوجتك حلال مطلق، عندنا حرام مطلق، و عندنا حلال مطلق، و بين الحلال و الحرام أي الحلال أبيض ناصع و الحرام أسود داكن، و عندنا مليون لون رمادي بينهما، الحقيقة شركات الأقمشة أحياناً تعطي نماذج للألوان ممكن أن تدرج لوناً واحداً ثمانمئة ألف درجة، يمكن أن يتدرج اللون الأخضر فقط لأن العين السليمة تستطيع أن تفرق بين لونين من أصل ثمانمئة ألف لون للون الواحد، معنى ذلك أن العين تستطيع أن تميز بين ثمانمئة ألف لون رمادي، الحلال أبيض ناصع و الحرام المطلق أسود داكن و بين الأبيض و الأسود ثمانمئة ألف لون خليط بينهما، هذه الشبهات، لذلك معظم الفتاوى في الشبهات، ما سمعت أحداً يسأل يا سيدي هل شرب الخمر حرام؟ طبعاً حرام، هل الزنا حرام؟

((عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا؟ فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ قَالُوا مَهْ مَهْ فَقَالَ: ادْنُهْ فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ))

[ أحمد عن أبي أمامة]

 تصور هذا الأعرابي أن أخته يزنى بها، قال هذا الأعرابي: دخلت على النبي عليه الصلاة و السلام و ليس شيء أحب إلي من الزنا و خرجت من عنده و ليس شيء أبغض إلي من الزنا.

 

التناقض أبشع شيء في الإنسان :

 أحياناً الشاب يقع بتناقض عجيب، إذا كان يمشي وراء أخته و لاحظ أن شاباً يلقي على مسمعها كلمة، يشعر أنه يكاد ينفجر غيظاً، قد ينقض على هذا الشاب ليمزقه إرباً إرباً، إرَباً إرَباً خطأ، الصواب إرْباً إرْباً، فما بال هذا الشاب يلقي كلمة على مسامع فتاة؟ أبشع شيء في الإنسان التناقض، أبشع شيء أن تعامل الناس بمقياسين، بميزانين، أن تزين للناس بميزان و أن تزين لنفسك بميزان.

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))

[متفق عليه عن النعمان بن البشير]

الحلال المطلق :

ماذا يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين و نحن نكشف الغطاء عنها فنقول: الحلال المطلق الذي لا يتعلق بذاته صفة توجب تحريماً لعينه، و لا يتعلق بأسباب تحصيله، صفة توجب تحريمه، الحلال المطلق كشرب ماء السماء، ليس في عين الماء شيء يحرم، وأيضاً ليس في طريقة كسبه شيء يحرم كما ذكرنا من قبل، عندنا شيء حرام لذاته، و حرام بطريقة كسبه، فالتفاحة حلال أن تأكلها و قد تكوم حراماً إن أخذت سرقة، هي حلال، لحم الخنزير حرام لذاته أي عين اللحم محرم أما عين التفاح فليس محرماً، لكن التفاح قد يحرم لسبب كسبه، الحلال المطلق الذي لا يتعلق بذاته صفة توجب تحريماً لعينه، العلماء وجدوا في كتاب الله ثلاثة أشياء؛ أي حلال مطلق أحدها ماء السماء قال تعالى:

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾

[ سورة الفرقان ]

 ثانيها: ما تهبه الزوجة لزوجها قال تعالى: 

﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾

[ سورة النساء ]

 و الثالثة نسيتها، لأن أحد المحدثين قال: حدثني سفيان بن عيينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كانت فيه خصلتان دخل الجنة" أما الخصلة الأولى فقد نسيها الراوي، و أما الخصلة الثانية فقد نسيتها أنا.
 أول شيء ماء السماء، ماء السماء مبارك طيب، أي إذا جمع إنسان ماء السماء و شربه فهذا حلال مطلق، و إذا وهبت له زوجته شيئاً من مالها

﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾

 بعض الصالحين تملك زوجته شيئاً من المال، طلب منها أن تهبه إياه، قال: هذا المال مبارك و أنه هبة الزوجة لزوجها، مثلاً الشرع لا يجيز أن يعطي الإنسان زوجته الزكاة لأن نفقتها عليه، فإذا أعطاها الزكاة فقد تهَرَبَ من نفقتها، صارت حيلة، لكن الزوجة الموسرة يجب عليها أن تدفع زكاة مالها لزوجها، قال تعالى:

 

﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ﴾

[ سورة النساء ]

 قال: مثال ذلك الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد لكن النبي الكريم قال:

(( الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ الْمَاءِ وَالْكَلأِ وَالنَّارِ ))

[ ابن ماجه عن ابن عباس ]

الحرام المحض :

 و الحرام المحض ما فيه صفة محرمة كالخمر، و النجاسة، أو حصل بسبب منهي عنه، كالظلم، و الربا، هذان الطرفان ظاهران، عندنا حلال مطلق، و عندنا حرام مطلق، الحلال المطلق ما لم يكن في صفته شيء يوجب تحريمه، و ما لم يكن في طريقة كسبه شيء يوجب تحريمه، و الحرام المطلق ما كان في ذاته شيء يوجب تحريمه، أو في طريقة كسبه شيء يوجب تحريمه، لا أعتقد أنه يوجد خلاف بين المسلمين في أطراف الدنيا على موضوع الحلال المطلق و الحرام المطلق، أما الخلافات كلها ففيما بينهما و هي الشبهات.
قال: و يلحق بهذا أي يلحق بالحلال المطلق و الحرام المطلق شيء ما تحقق أمره و لكن يحتمل تغييره و لم يكن لذلك الاحتمال سبب ظاهر يدل عليه، العبارة معقدة، المثل يوضحها: ما تحقق حِله و لكن يحتمل تغير هذا الحِل إلى الحرمة و لكن ليس هناك سبب ظاهر بالذي عليه، فإن صيد البر و البحر حلال إلا أنه من صاد ظبية أو سمكة فإنه يحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت منه، أو أن هذه السمكة صادها صياد ثم وقعت في البحر مرة ثانية منه، قال: هذا الاحتمال وارد لكن ليس هناك سبب ظاهر يؤكده، قال: هذا الورع خامس أنواع الورع من يقترح له تسمية؟ ورع العدول فهمناه، ورع الصالحين واضح، ورع الأتقياء واضح، ورع الصديقين، ترك هذه السمكة التي يحتمل بعد أن صدتها أنه قد صادها صياد آخر فتملكها ثم وقعت منه في البحر، فجئت أنت و صدتها، تركها أحد أنواع الورع ما هو هذا النوع؟ هذه السمكة لعله أحد صادها ثم وقعت منه مرة ثانية فامتلكها هذه ملكه، قال لي رجل: جاءتني كنزة هدية قلت له: ماذا في ذلك؟ قال لي: لكنها صنع إنكلترا، قلت له: إذاً حرام، هذه أصبحت وسوسة و هذا ورع الموسوسين، و الوسواس مرض، فقد درسنا بعلم النفس المرضي في الجامعة ثلاثمئة مرض أشد أنواعها شيوعاً مرض الوساوس المتسلطة، أحياناً يصيب المرأة وسواس نظافة فتمسح الدرج عشر مرات، تخلع لأولادها و زوجها الحذاء من أسفل البناء، و إذا جاء رجل غريب بالخطأ تعيد جميع المسح، أحياناً يأتي ضيف للبيت عندما يذهب من البيت تغسل كل الشراشف، يكون جلس على ديوان فقط هذا مرض، صلى الله عليه وسلم علمنا إذا الإنسان قضى حاجة ينضح ثوبه الداخلي بشيء من الماء، فإذا شعر ببلل هذا البلل ليس من البول من هذا الماء الذي نضحه حتى يقطع الشك باليقين، علمنا ألا نتوسوس، يا ترى أنا متوضئ؟ إن كنت موقناً أنك متوضئ و شككت في نقض الوضوء فأنت متوضئ، الشك لا يقطع اليقين، علمنا طرائق لا تقع بالخطأ أبداً، لا تدع الشيطان يوسوس لك، هناك أمراض كثيرة، فهذا مرض الوساوس المتسلطة مرض خطير جداً فقال: هذا ورع الموسوسين، هذه السمكة بعد أن اصطدتها أنا قد يكون أحدهم قد اصطادها و هربت منه و نزلت للبحر، سيدنا عمر كان يمشي في الطريق رأى بركة ماء مع أصحابه، بعض أصحابه قالوا لصاحب البركة: يا هذا هل ترد السباع هذه البركة؟ قال له: يا صاحب البركة لا تجبنا، لا تتكلم و لا كلمة، الأصل في الأشياء الإباحة، إذا دعاك أحدهم هل أنت مالك حلال؟ ماذا تعمل؟ و كيف تبيع و تشتري؟ هذا ورع الموسوسين قال تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾

[ سورة البقرة ]

 هذا شيء ما كلفنا الله به.

 

أنواع الشبهات :

1 - ما ثبت أنه حلال و لكن يمكن أن يغير إلى حرام و لكن ليس هناك سبب يؤكده:

 قال: يلحق بالحلال المطلق ما ثبت أنه حلال، و لكن يمكن أن يغير إلى حرام، و لكن ليس هناك سبب يؤكده إطلاقاً، قال: و هذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر، إذاً أصبح هناك فرق بين ماء المطر و السمكة، ماء المطر حلال مطلق لا يمكن أن يغير إلى حرام، أما السمكة فنظرياً يمكن أن يكون قد اصطادها إنسان قبلك، و أفلتت منه، صار عندنا حلال مطلق، و ملحق بالحلال المطلق هذا ورع الموسوسين، أما لو دل عليه دليل فمثل أن يجد في الظبية جرحاً لا يقدر عليه، صاد ظبية فإذا بها جرح بليغ من صياد آخر، صار الآن دليل إذاً هذه شبهة، قال: و حدّ الشبهة ما تعارض فيه اعتقادان صدرا عن شيئين متناقضين، إذا خيرت إنساناً مثلاً بين سيارة و بين دراجة، ليس من المعقول أن يفكر، نريد أن نقدم لك هدية تحب دراجة أم سيارة؟ اترك لي إياها لغد، لا يقول هذا، فالشبهة بين شيئين متوازنين، الإنسان يقع بحيرة بين زوجته ووالدته مصدرين مهمين في الحياة، الأم لها مكانة و الزوجة لها مكانة، فإذا حصل بينهما تصادم الأمر أصبح مقلقاً، لكن من غير المعقول إنسان يوازن بين شيء ثمين و شيء غث، هذا الشبهة مشكلتها أنها من جهة حلال و من جهة حرام، أي يوجد أدلة تؤكد أنها حلال، و يوجد أدلة تؤكد أنها حرام، فعندما صار السببان المحلل و المحرم متوازيين أصبح الأمر يدعو للتساؤل، هذا تعريف الشبهة، فالشبهة ما تعارض فيها اعتقادان صدرا عن شيئين متناقضين، و مثالات الشبهة كثيرة أهمها: الشك في السبب المحلل أو المحرم، و ينقسم هذا السبب إلى أربعة أنواع: أن يكون الحل معلوماً من قبل - الحلال معلوم - ثم يقع الشك في سبب الحل، مثلاً أن يرى صيداً فيجرحه فيقع في الماء فيراه ميتاً و لا يدري أمات بالغرق أم بالجرح؟ إن مات بالجرح حلال و إن مات بالغرق حرام لأنه أصبح مخنوقاً، الأصل أن الصيد حلال لكن موضوع الصيد دقيق، أي هذا العصفور الذي يصطاده الصياد لغير مأكلة يأتي يوم القيامة و له دوي كدوي النحل يقول: يا رب سله لمَ قتلني؟ إذا قلت إن الصيد حلال بمعنى أنك إذا كنت مسافراً، و نفذ طعامك و شرابك، و كدت تموت جوعاً، الإنسان من أكرم المخلوقات، له أن يصطاد طائراً فيأكله، الصيد بقصد الأكل خوف الجوع، أو خوف الموت، هذا هو الصيد الحلال، هناك أحاديث كثيرة و آيات لا مجال الآن لتفصيلها، أما هواية الصيد أن تخرج إلى البادية لتفجع الحيوانات، لتقتلها، لا لمأكلة، و لكن بدافع التسلية، فهذا الصيد حرام لأنه عملية إزهاق أرواح، لغير مأكلة، و هناك أحاديث كثيرة من اصطاد لغير مأكلة، كلمة لغير مأكلة علة كبيرة تجعل الحلال حراماً، على كلٍّ من رأى ظبية فجرحها ثم وقعت في الماء فرآها ميتة هل يا ترى ماتت لسبب هذا الجرح؟ إذاً حلال، أم ماتت بسبب الغرق؟ حرام، هذا أول نوع الأصل أنها حلال لكن السبب المحلل دخل فيه الشك، الصيد حلال، طريقة الموت غرقاً حرام، موتاً بجرح حلال، وقعت في الماء رأيتها ميتة هذه أحد أنواع الشبهات، فقيل هذا النوع يجب اجتنابه و يحرم الإقدام عليه.

2 ـ أن يعرف الحِل و يشك في المحرم :

 النوع الثاني: أن يعرف الحِل و يشك في المحرم، شيء حلال و لكن قد يأتيه سبب يجعله حراماً، هذا السبب ليس قطعياً عنده، شك في السبب فالأصل هو الحِل، لو طار طائر فقال رجل: إن كان هذا غراباً فامرأته طالق، و قال آخر: وإن لم يكن غراباً فامرأته طالق، ثم التبس الأمر، الرجلان ما عرفا أن هذا غراب أم ليس غراباً؟ فنقول: الأصل أن هذه زوجة، و أن هذا السبب الآخر سبب غير كاف للطلاق، الزوجة حلال الإنسان، و الطائر شككنا بكونه هل هو غراب أم ليس غراباً، لكن يا ترى هل هذا المثل واقعي؟ أي من المعقول مسلم يعلق مصيره مع زوجته على غراب أم ليس غراب، هذا من سخف بعض الناس، أي إنسان يربط مصير سعادته الزوجية بمشكلة خارج بيته إنسان سخيف، لذلك بعض العلماء اضطروا أن يفتوا أنه إن لم تكن الزوجة موضوعاً للطلاق، إن لم تكن الزوجة طرفاً في يمين الطلاق، و كان الزوج يكره فراقها كفراق دينه فهذا الطلاق لا يقع، بعض العلماء أفتوا هذه الفتوى، و أخذت بها بعض المحاكم أو معظم المحاكم، زوجة جالسة بالبيت مسلمة، محجبة، مصلية، صائمة، تخدم زوجها بإخلاص، ترعى أولادها، تنظف بيتها، تطبخ طعامها، زوجها و هو في السوق تشاجر مع إنسان فحلف يمين طلاق فحنث بيمينه فهي طالق؟ بعض العلماء اضطر أن ليس هذا يمين طلاق لأن هذه الزوجة ليست طرفاً في هذا الموضوع إطلاقاً، ليست مذنبة، زوج أحمق، زوج أرعن اختلف مع صديقه، مع جاره، مع شارٍ، فحلف بالطلاق، كيف يجوز لهذه المرأة المسكينة المستقيمة أن يقول لها اذهبي إلى بيت أهلك فأنت طالق؟ أي هذا المثل غير مقبول، سبب المحرم مشكوك فيه.

3 ـ أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ ما يوجب التحليل بظن غالب فهو مشكوك فيه :

 النوع الثالث: أن يكون الأصل التحريم ولكن طرأ ما يوجب التحليل بظن غالب فهو مشكوك فيه، أن يرمي إلى صيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى سهمه، رمى ظبية بسهم فغابت عنه تبعها فرآها ميتة، أغلب الظن أنها ماتت بسبب سهمه، هو ولم يجد سهماً آخر، الأصل التحريم ولكن طرأ ما يوجب التحليل وهو أنها ماتت.

4 ـ أن يكون الحِل معلوماً و يغلب على الظن أنه طرأ المحرم :

 النوع الرابع: أي احتمال من دون دليل صار وسوسة، رجل دخل للبيت لعل رجلاً دخل بغيابنا؟ لا حول و لا قوة إلا بالله إذاً ما هو الدليل؟ لا يوجد دليل، هل وجدت مصباحاً مضيئاً و أنت قبل أن تذهب أطفأت جميع المصابيح؟ لا، البراد مفتوح؟ لا، خزانتك ملعوب بها؟لا، هذا مكانه في مستشفى الأمراض العقلية

إذا لم يكن هناك دليل على الاحتمال صار هذا وسوسة، أن يكون الحِل معلوماً و لكن يغلب على الظن أنه طرأ المحرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعاً، الأساس أنه حلال لكن طرأ عليه شيء يغلب عليه الظن أنه حرام فصار هناك حرمة، لم تعرف أنت أن هذا الإناء فيه نجاسة، لكن بدا لك بعض الأدلة على أن هذا نجاسة، تغير لونه، أو طعمه، أو تغير فيه شيء، فهذا أيضاً وجب الترك.
 هذه أربعة أنواع، النوع الأول: أن يكون الحِل معلوماً ثم يقع الشك في المحلل، و النوع الثاني: أن يكون الحِل ثابتاً و يشك بالمحرم، و الثالث: أن يكون الأصل التحريم و لكن طرأ ما يوجب التحليل، و الرابع: أن يكون الحِل معلوماً و يغلب على الظن أنه طرأ المحرم، و في درس قادم إن شاء الله ننتقل إلى نوع آخر من أنواع الشبهات، و هو اختلاط الحلال بالحرام، درس اليوم سبب التحريم و التحليل، عندنا سبب محلل و سبب محرم، قد يكون المحلل سابقاً والمحرم سابقاً، المحلل سابق و المحرم مشكوك فيه ضعيف، المحرم سابق و المحلل دليله ضعيف، هذا كله توضح في هذا الدرس إن شاء الله ، الدرس القادم ننتقل لموضوع آخر و هو اختلاط الحلال بالحرام.

* * *

بعض شمائل النبي عليه الصلاة والسلام :

1 ـ حكمته صلى الله عليه و سلم :

 و الآن إلى بعض شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، كنا قد وصلنا إلى نصوص أُثرت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصف شمائله الكريمة وصفاً مباشراً، بدأنا في الدرس الماضي بوصف هيئته الشريفة، وقد لخصها سيدنا حسان بن ثابت في بيتين من الشعر:

وأحسن منك لم ترَ قط عين  وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عــيب كأنك خلقت كما تشـــاء
***

 سبحان الله! الإنسان يجمع بعض المحاسن، أما أن يجمع المحاسن كلها من جمال الهيئة إلى جمال الخلق، إلى الشجاعة، إلى البأس، إلى الحلم، إلى الرحمة، إلى العلم، إلى الخبرة، إلى فن القيادة، إلى الأبوة المثالية، إلى الأخوة الصادقة، إلى السياسة الحكيمة، أي لا أنسى حينما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم في بعض المعارك على أناس ضعيفي الإيمان تأليفاً لقلوبهم، الذي لم ينالهم نصيب من الغنائم حزنوا وغضبوا، وجاء زعيمهم سيدنا سعد بن عبادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ - الملخص حزنوا منك - لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟- أي أنت ناقل أم أنت معهم غضبان؟ هذه منتهى السياسة، الذي نقل لك الخبر هو حيادي أم انضم إليهم؟- قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي - أي أنا حزين أيضاً- وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ - بماذا بدأ صلى الله عليه وسلم؟ ما بدأ بفضله عليهم بدأ بفضلهم عليه، خجلهم- قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ - أنتم صادقون إن قلتم هذا للناس الناس يصدقونكم، خجلوا- وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ -أي إذا عندك ابن غال عليك أحسنت إليه إحساناً منقطع النظير، وعندك برتقال قدمته للضيف ولم تطعمه، يجب ألا يتكلم ابنك- أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا ))

[ الدارمي عن أبي سعيد الخدري ]

 قال هذه قمة السياسة الحكيمة، أي امتص النقمة وطيب خاطرهم وأنهى الفتنة بكلمات رقيقة.

 

حكمة أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم :

 سيدنا معاوية جاءته رسالة من عبد الله بن الزبير قال له: أما بعد فيا معاوية - باسمه - إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن والسلام، خليفة المسلمين يحكم عشرة أقطار من أقطار هذه الأيام، تأتيه رسالة من مواطن، أما بعد: فيا معاوية، وكان أمامه ابنه يزيد فقال له: اقرأ يا يزيد، فاضطرب يزيد وقال: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك، أي جيش طوله من المدينة إلى الشام يأتوك برأسه، فتبسم معاوية وقال: غير ذلك أولى، أمر الكاتب أن يكتب فقال اكتب: أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله -الزبير حواري رسول الله وهذا ابنه- قال له: أما بعد فيا معاوية، ماذا قال له معاوية؟ أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها، فتلقى الجواب: أما بعد فيا أمير المؤمنين، أول رسالة فيا معاوية، الرسالة الثانية فيا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، فقال لابنه يزيد تعال واقرأ، تريد أن ترسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه؟ ثم قال: يا بني! من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز عن أخطاء الآخرين استمال إليه القلوب.

2 ـ منطقه صلى الله عليه و سلم :

 هذا مثل من حكمته أما منطقه صلى الله عليه وسلم، فقال الحسن رضي الله عنه: فقلت صف لي منطق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كان رسول الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، أحياناً ترى الابن يضحك والأم حزينة، يكون هناك ابن ثان مسافر جاءت رسالة أنه مريض الابن فرحان والأم حزينة، قلب الأم كبير يسع كل الأولاد، أما هذا الطفل الفرحان لا يوجد عنده همّ، أخوه مريض ماذا يفعل له؟ هذه يقولها الأخ، أما الأم فلا تقول هذا، يخيم عليها الحزن، من شدة رأفته صلى الله عليه وسلم، من شدة رحمته بأمته، كان إذا رأى أن أمته هالكة كان دائم الأحزان، كان دائم الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، مثل معظم الناس إذا أكل وأحب أن ينام لا أحد يوقظه، وإذا سهر لا أحد يزعجه، وإن دخل إلى غرفته لا أحد يطرق بابه، وإن ذهب إلى نزهة لا أحد يعكره، أي همه الأوحد السرور، هذا ليس من صفات المؤمنين، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل عندما بعث به إلى اليمن:

(( إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ))

[ أحمد عن معاذ بن جبل ]

حتى لا تأخذوا الحديث على ظاهره، الله عز وجل قد ينعم على عبد ولكن التنعم ليس مقصوداً لذاته، أن يجلس الإنسان ليتنعم هذا ما عرف مهمته في الدنيا، قد يتنزه، أما أن يجعل النعيم هدفاً له كبيراً ولا هدف له سوى النعيم فهذا لا يعرف الله سبحانه وتعالى، لأن المؤمنين كما قال تعالى: 

﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

[ سورة السجدة ]

 المضجع ليس السرير فقط لا يركن للدنيا، لا لمالها، ولا لنسائها ولا للذاتها، ولا لوجهتها، لا يركن إلا لرضاء الله عز وجل على كل حال، يوجد عندنا هذه النقطة الدقيقة يمكن أن تفحص نفسك بها، ما الذي يحزنك أن تفوتك الدنيا أم أن تفوتك مرضاة الله عز وجل؟ يوجد شخص لو قصر في عبادته، لو قصر في حضور مجلس علم، لو عصى لا يبالي، لكن إذا بيعة فضت يقول لك: والله كانت هذه البيعة مربحة، لا حول ولا قوة إلا بالله، يتألم تماماً، بيت ذهب منه شراؤه أجرى عقداً فقلب صاحب البيت يتألم كثيراً، قل لي ما الذي يحزنك أقل لك من أنت، المؤمن يحزن أن يقع في معصية، وأهل الدنيا يحزنون إذا فاتهم شيء من الدنيا.
 إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي.
 "عجبت لثلاث -كما قال سيدنا عمر- عجبت لمؤمل والموت يطلبه- يكسي بيت ملأ الدنيا ضجيجاً، احتار هل يجعل الشوفاج تمديداً أرضياً أم مكشوفاً؟ بقي شهرين متردداً، بعد هذا تمّ القرار أنه سوف يعمله أرضياً، وبعد عشرين سنة إذا صار خلل لا يكسر البلاط يجري تمديداً ثانياً مكشوفاً، بعد عشرين سنة، أمده طويل- عجبت لمؤمل والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط عنه الله أم راض".

 

3 ـ كان صلى الله عليه و سلم طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة :

 طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، قال: تكلم إذا اشتهيت أن تسكت، واسكت إذا اشتهيت أن تتكلم، من أدق المقاييس يتكلمون على فلان قالوا قصتين أو ثلاث مخزية، أنت عندك قصة أفظع من هؤلاء اشتهيت أن تتكلم ولا يوجد حاجة أن تتكلم اسكت، اشتهيت أن تتكلم فاسكت، إذا سألك إنسان عن آية والآية تحتاج إلى تفصيلات كثيرة ولا يوجد عندك وقت وسألك كأنك شمرت وقلت: يا رب وأنت متعب اشتهيت أن تسكت فتكلم، اشتهيت الكلام فاسكت.
لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه ببسم الله تعالى، ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فصل لا فضول فيه، لا يوجد فيه كلمة زائدة، أي خذ كلام الناس تسعة أعشاره كلام فارغ ليس له معنى، تمضية وقت، كلام يلقيه الناس على عواهنهم إما غيبة أو نميمة، إما وصف للدنيا، أو وصف نزهاتهم.
 قال له: هل قابلته؟ قال: قابلته وقفت على الباب ثم دخلت، وأحضر لي قهوة، كله كلام فارغ، ماذا قال لك في نهاية الحديث ربع ساعة حتى دخل إلى عنده... يوجد شخص كلامه فصل أي لا يوجد عنده كلام حشو، النبي الكريم كان كلامه فصل لا فضول فيه ولا تقصير، أحياناً تجر الزوجة من زوجها الكلام جراً، هل دعوك إلى الطعام؟ ماذا وضعوا لك؟ يقول طعاماً، ماذا تحدثتم؟ لم نتحدث شيئاً، تجر الكلمة منه جراً، وهذا تقصير، لا فضول ولا تقصير صلى الله عليه وسلم.
 لذلك يؤثر عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: "نضر الله وجه من أوجز في كلامه، واقتصر على حاجته".
 أحياناً يقول لك قصة لا علاقة لك فيها، أي شيء لا يهمك أنت بل يهمه هو، تفصيلات سخيفة، يضيع لك وقتك ولا يوجد داع له، كلام مختصر مفيد، دخل أحد الشعراء على أحد الملوك، قال الشاعر للملك: إنّ، قال الملك للشاعر: و، انتهت المقابلة ما فهم القاعدون شيئاً، فسألوا: ماذا قلت له وماذا قال لك؟ قال: قلت له: إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها، وقال لي: والشعراء يتبعهم الغاوون.
 ولكن أحياناً يكون الإيجاز مخلاً، إنسان ترك وصية قال: فلان له عليّ ألف درهم ونصف، اضطر القاضي أن يحيل هذه القضية إلى أحد علماء النحو حتى يعرب الضمير، يا ترى ألف وخمسمئة أم ألف ونصف درهم؟ هذه الهاء تعود على الألف أي ألف وخمسمئة؟ أم تعود على الدرهم ألف ونصف درهم؟ هذا اسمه إيجاز مخل، البلاغة بين الإطناب الممل وبين الإيجاز المخل.

4 ـ كان يُعظّم النعمة وإن دقت :

 ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، الآن تدخل إلى عند رجل بيته ملك، وسيارته على الباب، ويأكل ألذ الطعام، ويلبس، وأولاده بصحة جيدة، يشكي الهم، والفقر، يقول: لا يوجد سوق، السوق مسموم، لا نبيع ولا نشتري، كل هذه النعم لا تشاهدها، هذا من كفر نعمة الله، قل: الحمد لله رب العالمين.
 يعظم النعمة وإن دقت، ما عاب طعاماً قط، دعي إلى خل وخبز فقال عليه الصلاة والسلام:

(( نعم الإدام الخل))

[ أبو داود عن جابر]

 و قال أيضاً:

((لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لأجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ ))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

 مقادم، وليس مقادم في المدينة لو دعي إلى خارج المدينة، مثل الشام والمخيم، إنسان دعاك وقال: تعال إلى المخيم أنت مدعو، أول باص وثاني باص ثم قدم لك مقادم، ليس أنت بل سيد الخلق.
 ما هذا التواضع؟ دعاك معنى هذا أنه يحبك، أكبر دعوة ليس الطعام هو نفسه، أنت أجب لمحبته وليس للطعام، يعظم النعمة مهما دقت، غير أنه لم يذم ذواقاً ولا يمدحه، ما عاب طعاماً قط إن أحبه أكله، وإن لم يحبه لم يأكله، أهو حرام؟ قال: لا بل تعافه نفسي.

 

5 ـ لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها :

 لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، إذا إنسان تجاوز الحق كان يغضب غضباً شديداً ولا يغضب لنفسه أبداً، مثلاً ترى الزوج خرجت زوجته على الشرفة تنشر الغسيل 

لباسها غير جيد، أما الطعام ما كان جاهزاً فيقيم القيامة

هذا الزوج يغضب لنفسه ولا يغضب للحق، أما الزوج المؤمن إذا حصل في البيت مخالفة للشرع فيقيم القيامة أما إذا قصروا بحقه فيتساهل.
 مرّ معي حديث دقيق جداً:

(( لا يكون الرجل قيم أهله حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس ))

[ كنز العمال عن علي]

 عنده قميصان الأول سكري والثاني أبيض، عنده بدلة طحيني طبعاً السكري أجمل يتناسب مع البدلة أكثر من الأبيض، وجد السكري غير مكوي غضب، عندما غضب لسبب دنيوي قلّت مكانته، أما إذا تجاوز عن هذا التقصير وغضب لله إذا انتهك أحد محارمه فساعتئذٍ يكون هذا الغضب لله.
 فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كله وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها وضرب راحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، إذا تحدث وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه تواضعاً لله عز وجل، جلّ ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حَبِّ الغمام، أي أسنان بيضاء ناصعة.
 الآن رجل بالعشرينات أسنانه محشاة، ومركب جسرين الأول ذهب والثاني معدن، ثم يضع بدلة، إذا فرح غض طرفه تواضعاً لله عز وجل، جلّ ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حَبِّ الغمام، وإن شاء الله نتابع في درس قادم شمائله صلى الله عليه وسلم. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور