وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0928 - النقد3. أهمية النقد البنّاء - صفة الصحابة في الإنجيل .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

النقد البنّاء 3 :

أيها الإخوة الكرام: لازلنا في موضوع النقد، بل لازلنا في موضوع النقد البناء، وقد عالجت بفضل الله عز وجل وبتوفيقه في خطبتين سابقتين أهميةَ النقد، وأصولَه الشرعية، ونماذجَ من النقد الذاتي التي بدت من خلال النصوص الصحيحة، عند الأنبياء والمرسلين، وعند الصحابة الكرام، وعند العلماء العاملين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أهمية النقد البنّاء :

اليوم أيها الإخوة، مع الموضوع الأخير، لابدَّ من الإشارة إلى خطورة النقد في حياة المسلمين:

 

1)يكشف الأخطاء ويعالجها :

أيها الإخوة الكرام: بادئ ذي بدء:
النقد مهم جداً لكشف الأخطاء، وسرعة معالجتها، إنه مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء التي تتسلل إلى حياة الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، وغياب النقد معناه تراكم الأخطاء، والتمادي فيها حتى يوشك أن يستحيل علاجها.
النقد تماماً كالكشف الطبي المتواصل، الذي يكشف للمريض مرضَه بسرعة، ويهيّئ له السبل لمعالجة هذا المرض، وإذا ألغي هذا الكشف يصل المريض إلى حالة الخطر، أو فقدان الأمل في العلاج، إذاً: لابد من النقد لتصحيح الأخطاء.

2)يعتبر مشاركة في الإصلاح :

النقد مشاركة من الجميع في الإصلاح، فهو مشاركة حقيقية من الجميع في عملية الإصلاح الاجتماعي، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره ومجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق وهي لا تفكّر ولا تعي.
النقد أيها الإخوة، تحقيق لإنسانية الإنسان، الإنسان حينما يتأمل، ويعمل عقله، ويراجع ما يعرف من نصوص الشرع، ومن نصوص الكتاب والسنة، فإذا وجد أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو من الناحية العقلية، فإنه لا يتوانى عن النقد الصحيح البناء، لأنه يعلم أنه من سكت على الخطأ فإنما هو شريك في الإثم.
الإسلام أيها الإخوة، صنَعَ رجالاً كان أقلهم يرى أنه قادر على تغيير المنكر وإنكاره، وعلى إقرار الحق والأمر به:
سيدنا بلال رضي الله عنه، كان عبداًَ أسودَ حبشياً في مكة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم سرت فيه روح العزة والكرامة والقوة والرجولة، فشعر أنه يستطيع أن يثبِّت دعائم الإسلام، وأن يدعوَ إليه، وأن يصبر وأن يقاوم من أجل الدفاع عنه، لذلك كان يعذَّب بمكة، ويؤذى، وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، وكان يقول: والله لو أعلم كلمةً هي أغيظ لكم منها لقلتها.

3)يشكل سبباً لخيرية الأمة :

شيء آخر أيها الإخوة، النقد يعيد للإنسان اعتباره من جهة أنه مكلف، ومطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، وإذا أردت أن تشير إلى مصطلح قرآني يقابل النقد، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو علّة خيرية هذه الأمة، ومتى كفّ المسلمون عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقدوا خيريتهم، عندئذ يصبحون أمة كأية أمة خلقها الله عز وجل.

4)يكشف عيوب النفس ويقوّمها :

النقد أيها الإخوة، مرآة تكشف عيوب النفس، الإنسان أحياناً لا يرى عيوبه، يرى القشة في عين الآخرين، ولا يرى الجذع في عينه، قد يغفل عن عيوبه، قد يظنها مزايا، قد يتغافل أو يغفل، يعلم أو لا يعلم، لذلك يأتي النقد ليصحح المسار، ليشير إلى الصواب.
قالوا: من الناس من يدري، ويدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه، ومنهم من لا يدري، ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلِّموه، لكن الصنف الخطِر، من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهذا شيطان فاحذروه.

إشارة نبوية عن أهمية النقد :

أيها الإخوة الكرام: ما من كلام أفصح بعد القرآن الكريم من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أشار إلى موضوع النقد:

 

فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:

(( مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذين في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقاً ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعاً، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ]

والتعبير المعاصر: نحن في قارب واحد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصحيح الأخطاء فرض عين على كل مسلم، أو أننا في طريق الهاوية، أو أننا في طريق الهلاك.

خطورة المديح الزائف :

أيها الإخوة الكرام: إذا غاب النقد فما البديل؟
إنه المديح.
وكثيرون يكيلون المديح بلا حساب، هذا المديح يغري الإنسان، حتى يدمن عليه، فأحياناً يصدق الممدوح ما قيل فيه، يتعامى عن أخطائه، يرى أنه على صواب.
لذلك ورد في الأثر، أن رجلاً قال : يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال له: بئس الخطيب أنت، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، من أنا حتى تجعلني نداً لله عز وجل؟
وعن مطرّف قال: قال أبي:

(( انطلقتُ في وفَدِ بني عامر إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنتَ سَيدنا؟ فقال: السيدُ الله، قلنا: وأفضلُنا فَضلاً، وأعظمُنا طَوْلاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعضِ قولكم، ولا يَستَجْرِيَنَّكم الشيَطان ))

[ حديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح ]

سيدنا عمر رضي الله عنه، كان مع أصحابه، فقال أحدهم: والله ما رأينا أفضلَ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّ فيهم النظر حتى كاد أن يفزِعَهم، إلى أن قال أحدهم: لا والله لقد رأينا من هو خير منك، قال: ومن؟ قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فنظر فيمن حوله، وقال: لقد كذبتم جميعاً وصدقَ، والله كنت أضلَّ من بعيري، وكان أبو بكر أطيبَ من ريح المسك.
هكذا كان عمر، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن هَمَّام بن الحارث عن المقداد:
أنَّ رجلاً جعل يمدح عثمان، فَعَمَدَ المقداد، فجثا على ركبتيه، وكان رجلاً ضخْماً، وجعل يحثو في وجهه الحَصْباء، فقال عثمان: ما شأنُك؟ فقال: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( إذا رأيتُم المدَّاحينَ، فاحثوا في وُجوهِهمُ الترابَ ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

وعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال:

(( أَثنى رجل على رَجُل عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ويلك، قطعتَ عُنقَ صاحبِك ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

فوائد الثناء على الإنجاز والعمل :

لكن حتى نكون موضوعيين، يقول عليه الصلاة والسلام في موطن آخر:

(( إذا مُدِحَ المؤمنُ في وجهه، ربا الإيمان في قلبه ))

[ حديث ضعيف، أخرجه الحاكم في مستدركه ]

إنسان قدّم عملاً، لابد من أن تشجعه، لابد من أن تعزز مكانته، لابد من أن تحفزه إلى متابعة هذا النشاط، فبعض المديح ضروري في بعض الأحيان، ولاسيما للمؤمنين الذين إذا مدحتَهم يزدادون تواضعاً لله عز وجل، ويزدادون شعوراً بفضل الله عز وجل، لكن ضعاف الإيمان، وضعاف النفوس، المديح يحملهم على الكبر والغطرسة والعنجهية والتفوق الأجوف.

أيها الإخوة الكرام: في بعض الحالات لابد من أن تمدح إنساناً كي تقوّي ثقته بنفسه، في بعض الإنجازات لابد من أن تثني على صاحبها، لقوله تعالى:

﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾

( سورة البقرة : 237)

في بعض الحالات لابد من أن تشكر من أسدى إليك معروفاً:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( مَنْ لمْ يشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يشْكُرِ اللّه ))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

هذه حالات خاصة.

تناقض المدح مع الواقع :

أما أن يغدوَ المديح ديدننا، وفي أي لقاء، فهذا خطأ كبير.
حتى إن بعض الإخوة سألني عقب الخطبة السابقة: ما الذي حملك على اختيار هذا الموضوع؟ قلت: والله خلال أسبوعين أو ثلاثة، حضرت تعزية لعالم جليل، ثم حضرت لقاء لبعض الذين يعملون في الحقل الديني، وحضرت عقدَ قران، فسمعت الخطباء يكيل بعضهم لبعض من المديح ما لا يصدق، بل يفوق حدَّ الخيال.
ومع احترامي الشديد للعلماء الأجلاء، وعملهم العظيم، لكن هذا المديح زاد عن حده، وكاد ينقلب إلى ضده، والواقع الذي نعيشه سيئ جداً، فإما أن نصدق هذا الواقع السيئ، وإما أن نصدق كلام المادحين، فلابدَّ من الحدّ من المدح.
أيها الإخوة الكرام: أنا أتكلم في الحقل الديني فقط، هذا الذي يعنيني في الدرجة الأولى.
شيء آخر:
إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق:
فقد تجد إنساناً يقف، ويتكلم في عقد قران، ويثني على الأسرتين الدمشقيتين الكريمتين التقيتين، ولا يعلم أن معظم أفرادهما فسقة، وفجرة، ويشربون الخمر أحياناً، ولا يصلّون، فلماذا يضع الإنسان مكانته الدينية في مدح من لا يعرف؟
وهذا يزعزع ثقة الناس برجال الدين.
أيها الإخوة الكرام: حدثني أخ كريم من بلد عربي في شمالي إفريقيا أن رجلاً مهماً خرج في رحلة صيد، فصوب بندقيته نحو طائر، فلم يصبه، فقال من حوله: يا ألله، يا سيدي، لقد أصبته لكنه يطير.
سبحانك يا رب، أرأيت إلى هذا النفاق؟ أصبح المديح كرية ثالثة في دمائنا، كرية حمراء، وكرية بيضاء، وكرية مديح.
إلى متى ونحن في أزمات لا يعلمها إلا الله؟ نحن في وضع لا نحسد عليه، إذا كان كلام هؤلاء صحيحاً فالواقع يكذّب هذا الكلام.

 

أيها الإخوة الكرام: يروى أن الشاعر البحتري مدح عدداً كبيراً جداً من الخلفاء، وهجاهم في الوقت نفسه، أحد الأمراء المغمورين مدحه شاعر فقال:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي مـحمد وكأنما أنصارك الأنصار

هذا مديح سوقي مبتذل وجد في عصور سابقة.

 

أيها الإخوة الكرام: يجب أن نكفَّ عن المديح، يجب أن نبحث عن العيوب والمثالب، يجب أن نواجه أنفسنا بالحقيقة المرة، لأنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح.

الموضوعية في المدح والذم :

أيها الإخوة الكرام: قد نمدح عالماً أو داعيةً أو أميراً، وقد نمدح إنجازاً أو عملاً هو أقل بكثير من الحجم الذي أعطيناه له، فلابد من الموضوعية، والموضوعية قيمة يلتقي عندها العلم والخلق.
إن كنت موضوعياً فأنت عالم، وإن كنت موضوعياً فأنت أخلاقي.

 

لا تعطِ الشيءَ حجماً فوق حجمه، ولا تقلل حجمه بحيث تظلمه، قف في حدود ما تعلم، وانظر إلى القرآن الكريم، حينما أعطانا بعض الأحكام الموضوعية، قال: وإن من أهل الكتاب، ولم يقل: هم جميعاً كذلك، قال:

﴿ مِنْهُمْ أُمَّة مُقْتَصِدَة وَكَثِير مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾

( سورة المائدة : 66)

أهدافنا الاستعراضية :

أيها الإخوة الكرام: شيء آخر، مرض سرى في كيان المسلمين، العمل من أجل الأهداف الاستعراضية.
ليس الهدف أن تحقق إنجازاً حقيقياً، الهدف أن تقيم حفلاً استعراضياً.
حتى سرى هذا في المساجد، أهم شيء في المعهد حفل الختام، من أجل استعراض العضلات.
ليس هذا هو المطلب، المطلب أن تحقق هدفاً حقيقياً، أن تحدث تغييراً في الواقع، أن تربي نفوساً، أما أن تعلن، وأن تتباهى، وأن تستعرض، فهذا ليس من الأخلاق في شيء، أن تقيم حفلاً ختامياً، هذا ليس مرفوضاً، ولكن المرفوض أن يكون الحفل هدفك الأول والأخير.

 

بعض أساليب الهروب من الخطأ :

أيها الإخوة الكرام: دعوني أنقل لكم بعض أساليب المسلمين في الهروب من أخطائهم، والبطولة أن تواجه الخطأ، البطولة أن تقبل النصيحة، البطولة أن تصغي إلى النقد، البطولة أن تكون شجاعاً فتعترف بخطئك، والأكثر بطولة أن تكون أشجع من الأول فتعترف بخطئك علانيةً، هذه شجاعة، وهذه بطولة، وهذه نفس عظيمة.

 

1)اتهام الظروف الاستثنائية :

 

أيها الإخوة الكرام:
الطريقة الأولى التي يتهرب بها المسلمون من الاعتراف بأخطائهم، أن تنسب هذا الخطأ إلى ظروف استثنائية، أن تقول مثلاً: نحن نمرّ بظروف دقيقة، أن تقول مثلاً: نحن نواجه تحديات كبيرة.
هذه التحديات واجهت أمماً أخرى، لماذا تجاوزوها؟
هذه الظروف الدقيقة مرت بها أمم أخرى، لماذا تجاوزوها؟
من أساليب المسلمين المتخلفين في الهروب من أخطائهم، أن تعزى هذه الأخطاء إلى ظروف طارئة قاهرة خارجة عن إرادتهم، مع أن الله عز وجل يقول:

﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾

( سورة فصلت : 46)

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾

( سورة الشورى : 30)

ما قال: لظروف دقيقة تمرون بها، بل قال:

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾

( سورة الشورى : 30)

أيها الإخوة الكرام: فلنحاول ألا نعزوَ أخطاءنا إلى ظروف طارئة، ولا إلى تحديات كبيرة، ولا إلى أشياء بعيدة عنا، نحن المسؤولون عن كل ما يصيبنا، هذه حقيقة يجب أن نعترف بها.

2)تجاهل الخطأ وتقليله :

 

الطريقة الثانية: الخطأ الذي نحن فيه نتجاهله، أو نقلل من قيمته، أو ننكر أنه خطأ، بل هناك من يتواقح، ويقول: إنه صواب.
خطأ صارخ، خطأ فاضح، نقلل من قيمته، أو نتجاهله، أو نعده صواباً، هذا أيضاً مسلك آخر من مسالك عدم الاعتراف بالخطأ.

3)الإحالة على القضاء والقدر :

 

شيء آخر، أن نعزوَ أخطاءنا إلى القضاء والقدر، دققوا في هاتين الآيتين:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ﴾

( سورة النور : 11)

إذاً هو خير، أن يقف إنسان، ويتحدث عن زوجة سيد الأنام بأعز ما تملك امرأة، أن يتهمها في عفتها، وفي شرفها، قال الله:

﴿ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ﴾

( سورة النور : 11)

إذاً هل هو لا إثم عليه؟
لا، هذا هو الفهم السقيم للتوحيد: قال تعالى:

﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

( سورة النور : 11)

الإيمان بالقدر، والإيمان بالتوحيد، لا يلغي المسؤولية:
فمثلاً: طبيب مناوب، جاءه إنسان بحالة إسعافية فأهمل معالجته، وهو يحتسي كأساً من الشاي، ويقرأ الجريدة، فلمّـا ذهب إليه وجده قد توفي، فماذا قال هذا الطبيب؟
قال: سبحان الله، لقد توفي في أجله.
هو في نظام الإسلام ينبغي أن يحاسَب، هذا تقصير، إياك أن تدخل حقائق التوحيد في المسؤولية، التوحيد لا يعفي من المسؤولية:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ ﴾

( سورة النور : 11)

في الآية التي تليها:

﴿ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

( سورة النور : 11)

فالأسلوب الثالث: أن تعزوَ هذا إلى القضاء والقدر.
أوضح مثل: أن يقول طالب رسب لأنه لم يدرس إطلاقاً: هذه مشيئة الله.
هذا كلام فيه نفاق، هذا كلام فيه دجل، هذا كلام فيه كذب، قال تعالى:

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾

( سورة التوبة : 105)

4)تحميل المسؤولية للآخرين :

أيها الإخوة الكرام : ومن أساليب الهروب من الاعتراف بالخطأ أن تعزو الخطأ ببساطة ساذجة إلى جهة أخرى ، إلى الجيل السابق ، وأن تكل أمر إصلاح الخطأ إلى الجيل اللاحق، و أنت لا علاقة لك بذلك ، أو أن تقول القضية متعلقة بالماسونية العالمية ، أو بالاستعمار ، أو متعلقة بالحكام وحدهم ، من قال لك : إن مشكلة ببساطة و سذاجة يمكن أن تعزى إلى جهة

 

الآن يوجد نغمة جديدة المشكلة تعود إلى تقصير العلماء فقط ، إما أن يجمع كل مشكلاتنا في هؤلاء العلماء ، أو في الحكام ، أو في الاستعمار ، أو في الماسونية ، أو في الصهيونية ، أو في الجيل السابق ، أو في الجيل اللاحق ، هذا أيضاً مهرب و مسلك للهروب من الاعتراف بالخطيئة .

5)دعوى الابتلاء الإلهي :

أيها الإخوة الكرام : الطريقة الخامسة للهروب من الاعتراف بالخطأ هو أن تقول : هذا ابتلاء من الله عز وجل ، و يأتي بقوله تعالى :

 

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾

( سورة البقرة : 155)

هذا لعب بدين الله، هذا الخطأ جزاء التقصير، وليس ابتلاء، الابتلاء شيء، وأن تلقى جزاء تقصيرك شيء آخر.
فلذلك هناك من يفسر هذه الأخطاء بأنها قضاء لازم، وقدر حاتم، ولاشك أننا مفوِّضون لله عز وجل في قضائه وقدره، مثلاً: يفسر الجبن بنوع من الحكمة، يفسر الفشل بنوع من الصبر، هذا احتيال في تفسير الخطأ بقيم إسلامية من القرآن والسنة.
الأمر الخطير هو أن من يعتقد بعصمة هذا الدين من الخطأ، ينزلق فيعتقد بعصمة من يمثلون هذا الدين.
الدين معصوم من الخطأ، لأنه توقيفي، لكن الحاصل أنه إذا وجد إنسان محسوب على الدين، قد يرتكب الخطأ، ويعتقد أنه مادام له إعلان إسلامي، مادام له زي إسلامي، هو لا يخطئ.
بدلاً من أن يعترف أن هذا الدين معصوم، يتوهم أنه هو المعصوم، وليس هذا الدين.
هذه كلها وسائل لا ترضي الله، يتهرب بها المسلم من أن يعترف بخطئه.

أيها الإخوة الكرام: هذه بعض أساليب المسلمين المعاصرين في التهرب من أن يعترفوا بخطئهم، وأنا أقول: الشجاعة والبطولة أن تعترف بالخطأ، وأن تعزوه إلى ذاتك، وأن تحاول التصحيح.

النقد العام والنقد الخاص :

بقي شيء آخر في هذا الموضوع:
أيها الإخوة الكرام: هناك نقد عام، وهناك نقد خاص.

 

1)النقد العام :

 

النقد العام: كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، قال: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟ فلم يسمِّ واحداً منهم، والقرآن الكريم طافح بمثل هذا النقد المؤدب اللطيف:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾

( سورة البقرة : 204)

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾

( سورة الحج : 11)

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة البقرة : 8)

﴿ ومنهم من يقول ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ﴾

( سورة التوبة : 49)

هذا نوع سنه النبي عليه الصلاة والسلام، ونص عليه القرآن الكريم، وهو نوع لطيف لا يجرح أحداً.
ولكن هذا النوع من النقد العام من لوازمه أن بعض الناس ممن تلبد حسهم يظن أن هذا النقد لا يعنيه، وهو معنيّ به أشدَّ ما يكون، هذا بعض سلبيات هذا النوع.
يوجد سلبية أخرى، إنسان عنده حساسية بالغة، يظن أنه معنيّ، نقول له: لماذا انزعجت؟ لولا أنك تقع في هذا الذي ذكر لما انزعجت من هذا.

2)النقد الخاص :

 

أحياناً إذا أوهم إنسان الناس أنه على حق، وهو مبتدع، وهو يخلط في الدين، يقدم باسم الدين ما ليس من الدين، فلابد من نقد خاص حتى تزاح عنه هذه الهالة التي يوهم الناس بها.
ففي بعض المواقف لابد من نقد خاص، في بعض المواقف لابد من أن ترد على المنحرف عقيدياً، أي: أن ترد عليه بتصحيح عقيدته.

قاعدة لاستخدام نوعَيْ النقد :

أيها الإخوة الكرام: هذان النوعان: النوع العام، والنوع الخاص، كل منهما ضروري في حياة المسلمين، ولكن على أن تكون الحكمة رائدة المنتقد.
في مواقف كثيرة، الإنسان المخطئ يستحي، الإنسان يخجل، الإنسان حريص على ألا تكشف عيوبه، هذا يجب أن ينقد نقداً عاماً: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟
إنسان آخر يتباهى بالانحراف، يتباهى بعقيدة زائغة، يتباهى بانحراف سلوكي، هذا لابد من أن ينقد شخصياً.

 

نقاط هامة في ختام الموضوع :

أيها الإخوة الكرام: بقي شيء آخر: النقد الذاتي:
حينما تكون شجاعاً، وتعترف بخطئك أمام الناس تكون قدوة للآخرين، عندئذ تكون قد سننت سنة حسنة في الكشف عن الخطأ.
أيها الإخوة الكرام: يجب ألا يفهم أن نقد الغير يعني تحطيمه، ويعني الحقد عليه، ويعني الانتقام منه، هذه كلها مفهومات متعلقة بالنقد الهدّام، وليست متعلقة بالنقد البنّاء، والاختلاف فيما بيننا لا يفسد الود بيننا، هذه حقيقة ينبغي أن تكون واضحة أيها الإخوة الكرام.
وأفضل ما يقال في هذه الخطبة: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

 

أيها الإخوة الكرام: الذي أرجوه من الله عز وجل أن تنقلب هذه المعلومات، وتلك النصوص إلى سلوك يومي نسلكه فيما بيننا، كفانا مديحاً، وكفانا ثناءً، وكفانا تعظيماً، وكفانا تبجيلاً، ولينظر كل واحد منا إلى أخطائه، وإلى ثغراته، وإلى سلبياته، وإلى عيوبه، فلعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا جميعاً بهذه النصيحة.

هذا الموضوع الذي أعالجه في الحقيقة هو من صلب الدين، لكن المصطلح الديني له هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المصطلح الديني له هو: الدين النصيحة، وفي الوقت الذي نكفّ فيه عن الأمر بالمعروف وعن النهي عن المنكر نكون قد انسلخنا من خيريتنا التي وعدنا الله بها حيث يقول:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

( سورة آل عمران : 110)

وأخيراً :

أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا.
الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
 

* * *

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صفة الصحابة في الإنجيل :

أيها الإخوة الكرام: آية وردت في سورة الفتح:

﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾

( سورة الفتح : 29)

أيها الإخوة الكرام: هذه الآية الكريمة فيها تسلسل أكده العلم الحديث، فبكلمات موجزة بيَّنَ الله جل جلاله أن هذا الزرع أخرج شطأه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، فجاء قوله تعالى: أخرج شطأه.
يفهم من هذا العبارة بدايةً، أن المقصود بالوصف هو أحد نباتات العائلة النجيلية، لأنها هي التي تخرج أشطاءها، والشطء هو الفرع الذي يشبه الأصل تماماً، كما ذكر من قبل.
والطور الثاني تقوية هذا الشطء عن طريق الفرع الأم، الذي يمده بالعناصر الغذائية اللازمة لبناء خلاياه، وحتى تتكون عليه ثلاث أوراق، وهذا الطور يصفه القرآن بقوله: فآزره، هذه الكلمة تعني قوّاه، وأعانه، وشدَّه، وهذا يعني أن الزرع أو النبات الأصلي يقوم بتقوية الشطء الذي يخرجه، وقد ثبت هذا علمياً كما ذكر.
تأتي بعد ذلك الكلمة التالية، فاستغلظ، الفاء هنا للترتيب على التتابع، والمقصود من عملية الاستغلاظ، الزيادة في السمك، وتختلف هذه الكلمة عن سابقتها، فالفرع يعتمد على نفسه في هذه الزيادة في السمك، وتقوية جدر خلاياه، أما في المرحلة السابقة فيعتمد على الفرع الأم في الحصول على هذه العناصر الغذائية، فجاء التعبير فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه.

تطبيق المثل على الصحابة الكرام :

فالنبي عليه الصلاة والسلام في تربية أصحابه، مثله كمثل هذا النبات، يخرج شطأه، يقويه، يدعمه بالحقائق، بالأنوار، بالملاحظة، بالتربية، بالتصحيح، بالنصح، بالإرشاد، بالصلة الروحية، حتى يتقوى هذا الشطء، لكن لابد لهذا الشطء من جهد ذاتي، لابد من أن ينموَ بجهد شخصي، فاستغلظ، فاستوى على سوقه.
يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، معنى ذلك أيها الإخوة الكرام، أن البطولة لا أن تنجح في عمل دعوي فحسب، ولا أن تربيَ واحداً فقط على أن يكون داعيةً من بعدك، لكن البطولة أن تنجح في عمل دعوي، وأن تربيَ عدداً كبيراً من طلاب العلم ليكونوا خلفاء لك من بعدك.
يجب أن تؤازرهم، أن تقويهم، أن ترفع معنوياتهم، أن تمدهم بالحقائق، أن تمدهم بالتربية، بالملاحظة، بتصحيح السير، بالعتاب أحياناً، بالشدة أحياناً، ولا بد بعد هذا أن يكون لطالب العلم كسب شخصي ليقوى ذاتياً، حتى يصبح أهلاً لأن يحل محل الذي علمه، فهذا مثل من عالم النبات، لكنه يقدم منهجاً للدعاة.
وللإمام مالك كلمة رائعة حول هذه الآية يقول: كل من وجد في نفسه غيظاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وصفه الله بالكفر.
كل من وجد في نفسه غيظاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصف بنص هذه الآية بالكفر.

 

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، يا رب العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمةَ الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، أذل أعداءك أعداء الدين، يا رب العالمين.
اللهم شتت شملهم، فرق جمعهم، خالف فيما بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم، يا رب العالمين.
اللهم أرنا قدرتك بتدميرهم كما أريتنا قدرتهم في تدميرنا يا رب العالمين، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور