وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة المطففين - تفسير الآيات 01 - 06 من هو المطفف؟.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، سورة المطفِّفين تبدأ بقوله تعالى:

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾

[سورة المطففين]

 الوَيْل هو الهلاك والشَّقاء، لِمَن ؟ للمُطَفِّف، نحن عندنا كفْر وعندنا انْحِراف، فالإنسان قد يعتقد اعْتِقاداً فاسِداً، وعقيدته الفاسدة توصِلُه إلى المعاصي والآثام، وأحْياناً يرْتكب معْصِيَة كبيرة تُلغي اعْتِقاده، قولوا لِفُلان أنَّه أبْطل جِهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، الانْحِراف يبدأ من العقيدة ويظْهر في السُّلوك، وقد يبدأ في السلوك فَيُلْغي العقيدة إنَّ فلانة تذكر أنَّها تُكثر من صلاتها، وصِيامها وصَدَقتها، غير أنَّها تُؤذي جيرانها بِلِسانِها، فقال: هي في النار، وقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ *))

 

[ رواه مسلم ]

 فقد يبدأ الخلل من العقيدة ويظْهر في السُّلوك، وقد يبدأ من السلوك، وهو مسلمٌ ابن مُسْلم وناشئ في بلاد إسلامِيَّة، واستَمَع إلى آلاف الخُطَب، إلا أنَّ حُبَّ المال غلبهُ فَطَفَّى ؛ من هو المُطَفِّف ؟ قال: المُطَفِّفون الذين يُنقِصون الكَيْل أو الميزان فبائِع الأقْمِشَة إذا اسْتَلَم البِضاعة، تجد الثوْب مرخي وعامِل قوس على المتر فإذا باع شَدَّ الثوب ؛ هذا من التَّطْفيف، وأحْياناً القَصَّاب يضع اللَّحْم بِعُنْف على الميزان ويرْفعها مُباشَرَة، والصائِغ المِرْوحة فوق الميزان ! يخْتلف الميزان حينها، هناك للتَّطْفيف مليون أُسْلوب، قد تخْفى على مُعْظم الناس إلا أنَّها لا تخْفى على الواحِد الدَيَّان، المُطَفِّف يأكل أموال الناس بالباطل، والذي لا يُعْطي الناس أموالهم يدْخل في هذا الغِشّ طبْعاً العِلْم حرْف، والقِياس ألف ؛ الغشّ في المواصفات والغِشّ في المصْدر اشْترى جوخ إنجليزي وهو تايْواني ! وهذا يضع قطعة مكتوب عليها إنتاج فرنسا، ومصدر القماش تايواني ! هذا مُطَفِّف، وأساليب التَّطْفيف في الأقْمِشَة المواد الأوَّلِيَّة ومواد الغِذاء، وحتى الآن في مجال تصْنيع الكمبيوتر أصْبحت بعض الشركات عندنا تأتي بِبِضاعة رخيصة وتبيعها على أساس أنَّها ذات جَوْدة ! وفي بعض البلاد المجاورة تُغَيِّر لُصاقة منتجاتها من المأكولات بعد انتِهاء المُدَّة بِلُصاقة حديثة مثلها لِسَنَتَيْن قادِمَتَيْن ! ثمَّ تُرْسِلها تهْريب، وفي مِصْر وصل الأمر إلى أنَّه بيعَتْ لُحوم الكِلاب بحيث نزعوا اللُصاقة المكتوب عليها لحْم البشر وأبْدلوها بِلُصاقة لحم الكلاب، وبيعَتْ للبَشَر، فالمال شقيق الروح، وحقوق العباد مَبْنِيَّة على المُشاححة، وحُقوق الله عز وجل مَبْنِيَّة على المُشاححة فالله عز وجل يقول:

 

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾

 

[سورة المطففين]

 تجد له مِكْيالَيْن مِكْيال شِراء، ومِكيال بيع، فالأمْثِلَة لا تنتهي، فأساليب الغِشّ والتَّطْفيف وتغيير المُواصَفات ومنشأ البِضاعة، فأحْياناً تُعَطَّش الشاة وبعدها تُتْرك تشْرب الماء ويبيعها بِوَزْنٍ زائِدٍ.
 أيها الإخوة، الرزاق هو الله، إن رآك مُسْتقيماً رزق رِزْقاً حلالاً طيِّباً وبارك له فيه، فهذه الآية واسِعة كثيراً، وتدخل في كُلّ المجالات ومع كُلِّ المصالح، فهذا الدَّلال باع أحدهم بيْتاً في الطابق الخامس، والزبون ما شَعَر بهذا لأنَّ الدلال كان يقُصُّ عليه قِصَّة مُمْتِعة فباعَهُ البيْت ! والبيت شمالي، وهو صلى العِشاء من جِهَة الشمال، فقال الدلال: البيت قبْلي ! كُلُّ هذا من بعد الناس عن الله، وحِرْصِهم على الدِّرْهم والدِّينار، والدِّرْهم الحرام.
قال تعالى:

 

﴿ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)﴾

 

[ سورة المطفِّفين ]

 لو قُلْتَ لِنَجار غُرْفة نوم، أريد تَخْت واحد، يخْصُم لك مائتان ليرة خمْسة آلاف ففي الخْصم مبالغ زهيدة وفي البيع مبالغ خيالية، إن رأى التخْت كبيراً حاسبك على الكِبَر، وإن رآه ثقيلاً حاسبك على الوزْن، لا توجد قاعِدَة مُحدَّدة في البيع، الجهالة تُفْضي إلى المنازعة، لذلك إذا أدْت أن تسْتريح عليه أن يُوَضِّح كُلَّ شيء شِراءً أو بيْعاً، كُلُّ نقْطة غامِضة في البيْع أو الشِّراء تنتهي إلى قَضاء ومنازَعة، وأحْياناً يُدْفع على القضايا أضْعاف موضوع الخِلاف، فالإنسان البَطَل الذي لا يُحْرج نفسه بالدخول لهذه الأماكن.
قال تعالى:

 

﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)﴾

 

[ سورة المطفِّفين ]

 هذا الذي يأكل أموال الناس بالباطل ويَغُشُّهم، الزَّيْت أحْياناً له مواضيع لا تنتهي، بائِع يضع قالب واحدة بجنة مثل القشطة، يُذَوِّق الناس منه، والباقي من تحت لا يُرى، حياةٌ مَبْنِيَّة على الغِشّ والخِداع، ولذا نزع الله البركة من أيدي الناس.
الإنسان حينما يعلم أنَّه مُراقب ينضبط، فلو أنَّ شخْصاً علِم أنَّ الطريق مُراقب بالرادار ينضبط، لأنّ السيارة مُصَوَّرة، مع الرقْم والوقت والسرعة، فإذا أنت شَعَرْت أنَّ الإنسان يضبط انْضبط معه، فَكَيف الله عز وجل ؟ قال تعالى

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)﴾

 

[ سورة النِّساء ]

 قد يسأل سائل لماذا سورة المُطَفِّفين التي تتحَدَّث بشأن سلوكي اقْتُحِمَت بين آيات تتحَدَّث عن الكون ؛ بين سورة إذا السماء انفطرت وإذا الشَّمْس كُوِّرَت، والسماء ذات البروج ؟ فما سِرُّ ذلك ؟ قال: الذي لا يؤمن بهذه الآيات فهو كافر والذي يعْصي الله يُحْجَب عن الله كمن كان كافِراً، فالعِبْرة المُؤَدَّى الكافر مَحْجوب بِكُفْره، فإذا كان الواحد فاسِق أو ظالم أو مُعتدي عن الناس فهذا مَحْجوب بِمَعْصِيَتِه، فربُّنا عز وجل جعل هذه السورة المُتَعَلِّقَة بِسُلوك تعاملي جعلها بين سُوَرٍ تتحَدَّث عن الإيمان بالله، فكما أنَّ الكفر يحْجبك عن الله فالتَّطْفيف يحْجبك عن الله، وإمَّا أن يبدأ الخلل في فسادٍ في العقيدة فيَنْعَكِس في فسادٍ في السُّلوك، وإما أن يبدأ من السلوك فيُلْغي العقيدة، ما قيمة إيمانك بالله إن لم تكن مُنضَبِطاً، السيِّدَة عائِشَة لها كلمة ؛ تقول: بلِّغوا فلاناً من الذين تعامل معهم النبي عليه الصلاة والسلام إنَّهُ أبْطل جِهاده مع رسول الله ! أذْكر أنَّني وَقَفْت مرَّة أمام بائع بندورة، وَضَع نَوْعَين، نوع جَيِّد جداً سعره ستَّ ليرات، ونوع شيِّء جداً سعره ليرتين، فوقف شَخْص لم أنتبِه له، ووضَع من النوع الجيِّد ثمَّ في الأخير وَضَع من النوع السيِّء، أخذ ستَّ كيلو من النوع الجَيِّد وضعه من تحت والرديء من فوق، والبائِع مَشْغول لم ينتبِه، فهذا تَطْفيف، ذكرْتُ لكم هذا كي تعلموا أنّ هناك تطْفيف من المُشْترين، وهناك قِصَّتين أذكرهم لكم ؛ أحد إخواننا الكرام رجل فقير، وعِصامي وليس له محَلَّ تِجاري فاضْطَرَّ أن يبيع القُماش على الرَّصيف بالحَميدِيَّة فجاءَتْهُ امرأة إيرانِيَّة فاشْتَرَتْ قِطْعة، وكان معها دولارات، فهي بِذِهْنِها أنَّها دَفَعَتْ له دولار، أما هي دَفَعَت مائة دولار خطأً، بعد ما ذَهَبَتْ تطلَّع في النقود فإذا هي مائة دولار ! فتَرَك البَسْطة ولاحقها، وأعْطاها ثَمَنها وأخذ حَقَّه، وكان يُراقبه صاحب مَحَلّ فأعْجَبَتْهُ أمانته، فقال له: هل تُشارِكُني ؟ فقال أتمنَّى، خلال أسبوعَيْن أصْبح بِمَحَلّ، والله تعالى وَفَّق هذا التاجر المُخْلص واشْترى بيت وسيارة وهو من إخواننا الكِرام وذكر لي أخ من إخواننا أنَّ واحِداً بِمَنطقة سِتِّ رُقِيَّة، كذلك امرأة اشْترتْ قِطْعة قُماش كذلك دَفَعَت بالخطأ مائة دولار، فوجد البائِع هذا مَغْنم، إلا أنَّها راجَعَت الشرْطة فأخذوه وضُرِبَ حتى أقَرَّ ودفَّعوه خمْسة آلاف ليرة فوق المبلغ، أرَأيْتُم الاسْتِقامة ؟ فالمُسْتقيم صار غَنِيًّا، قال عليه الصلاة والسلام: الأمانة غِنىً..." فالمؤمن لا يأكل مال الحرام تَرْك دانِقٍ من حرام خير من ثمانين حجَّةً بعد الإسلام ‍! فحاوِل أن تُؤَدِّي الذي عليك، حَدَّثني أخٌ أنَّ قطعة سيارة ما بيعَت معه عشرين سنة، وهي تتنقل من جَرد لآخر، فجاءه زبون أحد المرات فقال: له هل هي أصْلِيَّة ؟ فأجابه: ليستْ أصْلِيَّة ! فقال الزبون أعطينها ! كلمة واحِدَة فقط تفْصل بين الحلال والحرام، فلو قال له: أصْلِيَّة لكان ثمنها حرام فقوله تعالى:

 

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)﴾

 

[سورة المطففين]

 تشْمل كُلَّ المصالح، فالقَضِيَّة دقيقة تدْخل مع كلِّ واحِدٍ منَّا، ما من واحِدٍ يخرج من هذه الآية، وكُلّ واحِد بالمَصْلحة يسْتطيع أن يغُشّ، فلو أنَّ الثَّيْدلي غيَّر تاريخ الدواء لكان مُطَفِّف، فالدواء إن انتهت مدَّته أصْبح سامًّا، لأنه تَفَكَّكت ذراته، والذي يقول لك مثَلاً لا بدّ لك من اثنى عشر تحْليلاً، وأنت لا تحْتاج إلا إلى واحد، فالآن هناك عُقود بين الأطِبَّاء والمُحَلِّلين، هذا تَطْفيف، والله تعالى حينها يَمْحَق البَرَكة، المِهَن الراقِيَة داخِلة في هذا الموضوع، وكذا ذوي المِهَن المُنْحَطَّة، وبائِعوا البطيخ والزَّيْت والأقْمِشَة، وكُلَّ مصالح المسلمين.
قال تعالى:

 

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾

 

[ سورة المطفِّفين ]

تحميل النص

إخفاء الصور