وضع داكن
24-04-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 18 - إقرأ 1 العقل غذاؤه العلم .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع:

 أحييكم عبر القناة الفضائية السورية من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وأستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة، أهلاً ومرحباً بكم.
الحقيقة أن كل ما في القرآن، وما في الحديث النبوي معجز، إن كان في التشريع، أو في الإعجاز العلمي، أو في أي ميدان من ميادين الحياة، فأصول الحياة الشرعية من إرادة الله تعالى الذي خلق البشر، ويعلم ما يضرهم وما ينفعهم، والإنسان بطبيعته مكون من أشياء عديدة، إذا ما درست، ونوقشت هذه الأشياء من خلال أن تكون مظلة الشرع الإسلامي مظللة لها ومسيرة لها، فإنما نجد في هذا الإنسان أشياء كثيرة يمكن أن تكون موضوعاً للبحث، وهذه الأشياء الكثيرة إنما من خلال تكاملها مع فهمها للتشريع الإسلامي تبدو إعجازات عديدة يجب أن نقف عندها معكم.

 

الأستاذ:

 بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً، الإنسان هو المخلوق الأول رتبة، لأن الله عز وجل يقول:

 

 

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

 

(سورة الأحزاب)

 والله عز وجل كرمه أعظم تكريم، فقال:

 

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾

 

(سورة الإسراء)

 إلا أن الإنسان له جوانب، والخطأ الكبير في الفلسفة المادية أنهم رأوه كائناً متحركاً، يأكل، ويشرب، ويستمتع، ورفضوا الجانب العقلي والنفسي، فالإنسان من جوانبه أنه عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، والعقل غذاؤه العلم، والقلب غذاؤه الحب، والجسم غذاؤه الطعام والشراب، وما لم نروّض هذه الجوانب الثلاثة بمقتضياتها نكون قد وقعنا في خللٍ كبير، فالإنسان فيه عقل يدرك، ففيه جانب معرفي، وجانب إدراكي، وقد ميزه الله على بقية المخلوقات بهذا الجانب الإدراكي، فأي إنسان لا يطلب العلم، ولا يطلب الحقيقة فقد عطل جانبه الإنساني، وبقي في مستوى آخر لا يليق به، الجانب الآخر أنه قلب يحب، فما لم يتعلق بقيم إنسانية، ما لم يسعَ لهدف، ولا يشعر بمشاعر تسمو به عن بقية المخلوقات فلا يعد إنسانًا، وهذا الجسم له قوانين وحاجات، إن لم تلبَّ حاجات الجسم فإن هذا الإنسان يختل توازنه !
 الحقيقة أن هنا إشارة للفرق بين التطرف والتوازن، أنت حينما تلبي حاجات العقل والقلب والجسم معاً فأنت متوازن، أما حينما تلبي حاجة على حساب حاجة فأنت تفقد التوازن، فالتوازن يعني أن تتحرك في خط طلب المعرفة، وفي خط الانضباط بالقيم، وتأمين حاجات الجسم، من طعام وشراب، ومسكن ومأوى، فلن تكون مفلحاً في الحياة، بل إن الخطاب الديني ـ إن صح التعبير ـ لا يفلح إلا إذا نظر الإنسان من كل جوانبه، فأية دعوة تقتصر على عقل الإنسان لا تنجح، أية دعوة تقتصر على قلب الإنسان لا تنجح، أية دعوة تقتصر على جسم الإنسان لا تنجح.
( ألكس كيل ) عالم كبير، ألف كتاباً سماه الإنسان ذلك المشهور، بيّن أن الحضارة الحديثة اعتنت عناية خيالية بجسم الإنسان، براحته، وهذا يقودنا إلى موضوع دقيق جداً، هو أن هناك لذّات حسية، وأن هناك سعادة نفسية، اللذات الحسية تحتاج إلى أشياء خارجة عن الإنسان، تحتاج إلى مال وفير، وبيت كبير، وامرأة جميلة، وطعام نفيس، هذه كلها أشياء خارجة عن ذات الإنسان، فإذا بلغها الإنسان أصبحت اعتيادية، ربما أصابه الملل والسقم، وهذا من حكمة الله عز وجل، وهذه الأشياء لو أنه طلبها من طريق غير مشروع لأورثته كآبة، هي عقاب النفس لصاحبها، أما إذا كانت في أمور محرمة فهذه تنتهي إلى عذاب النار، وبئس المصير، اللذات الحسية مشكلتها أنها تأتي من الخارج، ولها شروط ثلاثة، لا بد من أن يكون أحد هذه الشروط مفقودًا في أيّ مرحلة في الحياة
 فقال علماء النفس: اللذة تحتاج إلى وقت ومال وصحة، ففي بداية الحياة الصحة متوفرة، والوقت متوافر، لكن ليس هناك مال لتوفير الشهوات، في منتصف العمر الصحة متوافرة والمال متوافر، لكن ليس هناك وقت، هو على رأس عمله، إذا ترك عمله ضاع العمل، في خريف العمر المال موجود، والوقت موجود، لكن الصحة غير موجودة، فهذه اللذات الحسية التي يلهث الناس وراءها دائماً هناك منغصات، فإمّا أن يفتقد الإنسان المال أو الصحة أو الوقت، هذه اللذات مارسها الإنسان من طرقها المشروعة سئمها في النهاية، أما إن مارسها من طرق غير مشروعة أورثته كآبة هي عقاب الفطرة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

 

(سورة طه)

 أما السعادة فهي تنبع من الداخل، الإنسان حينما يتصل بالله عز وجل يتألق، إذا تألق خلق الله في قلبه السكينة، والسكينة يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شي، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء، سعادة الإنسان تنبع من داخله، فقد تكون حياته خشنة أو بسيطة، لكن اتصاله بالله يجعله متألقاً لذلك:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾

 

(سورة النحل)

 الإنسان حينما يسعى إلى الملذّات الحسية ليلبي حاجات الجسد فقط لا يسعى لسعادته التي أرادها الله له، لا يسعى لما خلق من أجله.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

(سورة الذاريات)

والعبادة في أدق تعاريفها: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادة أبدية، هناك جانب معرفي لا بد من طلب العلم، وهناك جانب سلوكي، وهو الدين الحقيقي، هو الالتزام، وهناك جانب جمالي، وهو الثمرة.
 الحديث عن جوانب الإنسان متعددة، جانب عقلي غذاؤه العلم، وجانب سلوكي أساسه الانضباط، وجانب جمالي أساسه الاتصال بالله عز وجل، نخلص من هذه المقدمة إلى أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان قوة إدراكية، الإنسان يدرك، وما لم يسعَ للحقيقة، ولطلب العلم لا يؤكد إنسانيته، يؤكد مستوى آخر لا يليق به، يشترك به مع بقية المخلوقات، يؤكد جانبه المادي.
 لذلك أول آية نزلت في القرآن الكريم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم:  اِقْرَأْ ، ما معناها ؟ هي مفتاح العلم، وفي اللغة العربية أن الفعل إذا ألغينا مفعوله أطلق معناه، اقرأ في كل شيء، تعلم، ابحث، تأمل، اعرف من أنت، وما سر وغاية وجودك، ولماذا خلقت، واعرف ماذا بعد الموت، وماذا كنت، وإلى أين، ولماذا !!! هذه أسئلة كبيرة الإنسان قد يغفلها في زحمة الحياة، والحياة تستهلكه.
لذلك الله عز وجل وصف عباده فقال:

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾

(سورة الفرقان)

 حار العلماء في تفسير هذه الآية، كان عليه الصلاة والسلام إذا مشى كأنه ينحط، يمشي مسرعاً، وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن سيدنا عمر: " كان إذا سار أسرع، وإذا أطعم أشبع، وإذا قال أسمع "، فالذي أثر عن الصحابة الكرام أنهم إذا مشوا أسرعوا، والآية تقول:

 

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾

 قال علماء التفسير: لا يسمحون للدنيا بأن تأخذهم، لا يسمحون لقضية جانبية أن تنسيهم سر وغاية وجودهم، أهدافهم واضحة جداً، ولو سألت مئة إنسان لا على التعيين: ما الهدف الذي تعيش من أجله ؟ لقال لك: لا أدري، والمسلمون ينقصهم علم دقيق جداً، هو إدارة الوقت، فهذه العلوم الدقيقة جداً تتلخص في آية واحدة:

 

 

﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾

 

(سورة الملك)

المذيع:

 دكتور، ألا ترى في موضوع أن المشي على الأرض، وأن يكون هذا المشي هوناً أمر يقتبس بالجانب المادي، والإنسان كما تفضلتم ليس جانباً مادياً فقط، إنما إلى جانبه كما بينتم العقل والقلب والجسم، فتكامل هذه الأشياء هوناً، حتى لتربط ما بين المادة والروح، فلا يطغى جانب على جانب.

 

الأستاذ:

 بارك الله بكم، هذا جانب من المعنى، ينبغي ألا تنسيه الدنيا هدفه الكبير، ومتاعب الدنيا ما أوكل إليه في هذه الدنيا، فالإنسان عنده قدرة إدراكية، الله عز وجل قال له في كتابه:

 

 

﴿ اِقْرَأْ ﴾

 أي تعلم، أطلق مفعوله، الكون كما قالوا قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، فسواء قرأت في آيات الله الدالة على عظمته في الكون، أو قرأت في آيات القرآن الكريم، أو قرأت في شرح سيد المرسلين تصل للحقيقة،

 

 

﴿ اِقْرَأْ ﴾

 لكن الإنسان لأنه مخير فكل شيء حيادي، يمكن أن نقرأ قراءة نفعية، فنطغى بها، ويمكن أن نقرأ قراءة إيمانية، فالله عز وجل حينما أمرنا أن نقرأ قيدنا بالقراءة الإيمانية، لأن هذا العقل خلق لمعرفة الله، وقد استخدم لغير ما خلق له،

 

 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴾

 فالله عز وجل أمرنا أن نقرأ ما في الكون قراءة إيمانية، فهذه الوقفة التأملية في آيات الله العظيمة، في السماوات والأرض، والجبال والبحار، والأسماك والأطيار، وخلق الإنسان، وطعامه وشرابه، وما حوله، وما فوقه وما تحته، هذه القراءة ينبغي أن تنتهي بالإنسان إلى الإيمان بالله.

 

 

المذيع:

 والرسول عليه الصلاة والسلام حينما نزل عليه الوحي بالآيات الكريمة:

 

 

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾

 

(سورة البقرة)

 في النهاية علّق:

(( وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا، وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ))

(ابن حبان في صحيحه عن عائشة)

الأستاذ:

 ينبغي أن تؤمن بالله موجوداً، وواحداً، وكاملاً، وخالقاً، ومربياً، ومسيراً، وبأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، فكأن أستاذ الرياضيات أعطى الطلاب مسألة، ثم كتب في نهاية السؤال الجواب، فإذا حللت المسألة، وانتهى بك الحل إلى هذا الجواب فأنت على صواب، أما إذا انتهى بك الحل إلى جواب غير هذا الجواب فأنت على خطأ، فالله عز وجل حينما أمرنا أن نقرأ قيّدنا بقراءة إيمانية، بدليل أن الله عز وجل يقول في الآية نفسها:

 

﴿ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 فينبغي أن تصل للذي خلقك، والجهة التي خلقت هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، الإنسان أعقد آلة في الكون، تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، ولهذه الآلة البالغة الدقة والتعقيد صانع حكيم، وله تعليمات التشغيل والصيانة، فالجهة الصانعة هي الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، بدليل أن الله عز وجل يقول:

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾

 

(سورة البقرة)

 وقد قال عن ذاته:

 

﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

 

 

(سورة فاطر)

 ونحن في حياتنا اليومية إذا كان عندنا جهاز غال، وله فوائد جمة، وبالغ التعقيد، وأصابه خلل، أو عطب، لا نأخذه إلا للشركة الصانعة، لأنها الشركة الوحيدة التي تجعله يمكن أن يعمل بشكل منتظم،

 

﴿ اِقْرَأْ باِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾

 لكن الإنسان ليس مطالباً لأن يركب المركبات الفضائية ليرى الأكوان، لفت الله نظره لآية قريبة منه جداً، قال:

 

 

﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾

أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالَم الأكبرُ
 في شبكية العين مئة وثلاثون مليون عصية ومخروط، بعض آلات الديجيتال يعبرون عن دقتها بستة ملايين في البورصة الواحدة، في الشبكية التي لا يزيد حجمها على حبة العدس مئة وثلاثون مليون نقطة، لدقة الصورة، ولو درجنا لون أخضر ثمانمئة ألف درجة العين السليمة تفرق بين درجتين، الدماغ فيه مئة وأربعون مليار خلية سمراء لم تعرف وظيفتها بعد، في رأس الإنسان ما يقارب ثلاثمئة ألف شعرة، لكل شعرة وريد وشريان، وعضلة، وغدة دهنية وغدة صبغية، قلب الإنسان، أعضاء الإنسان، السمع، عصب الشم، فيه عشرون مليون عصب، كل عصب ينتهي بخمسة أهداب، والهدب مغمس بمادة تتفاعل مع الرائحة تفاعلاً يشكل شكلاً هندسياً، يشحن لذاكرة الروائح في الدماغ، في هذه الذاكرة عشرة آلاف بند، هذه الرائحة تعرض على هذه البنود كلها، فأي بند تطابقت معه يقول لك: هذه رائحة الياسمين مثلاً.

 

 

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾

 

(سورة التين)

 فالله عز وجل حينما أمرنا أن نقرأ، ولفت نظرنا إلى أن أقرب شيء إليك جسمك، بل إن الإنسان يرى كيف خُلِق من ابنه، نقطة من ماء مهين، حوين واحد من خمسمئة مليون حوين في اللقاء الزوجي يلقح البويضة، ثم هذه البويضة تنقسم لتكون طفلاً وليدًا، له رأس، ويدان، وأرجل، وقلب، ورئتان....

 

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾

 

(سورة التين)

 لكنه إذا غفل عن الله، واتبع شهوته، وبنى مجده على أنقاض الآخرين:

 

﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)﴾

 

(سورة التين)

من هنا يقول سيدنا علي رضي الله عنه: " رُكِّبَ الملَك من عقل بلا شهوة، وركِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، وركِّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ".

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)﴾

(سورة العلق)

 هذه القراءة الأولى، قراءة البحث والإيمان، يمكن أن تقرأ ما في الكون قراءة بحث وإيمان، يمكن أن تصل من هذه القراءة إلى الواحد الديان، ولكن هناك قراءة ثانية، وهي:

 

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾

 سميتها قراءة أخلاقية، أو قراءة شكر وعرفان، والله منحنا نعمة الإيجاد، والإمداد، أمدنا بالطعام، والشراب، والهواء وكل ما نحتاج، ومنحنا نعمة الهدى والرشاد، الإنسان مُنِح نعمة الإيجاد.

 

 

 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

 

 

(سورة الإنسان)

 لو اطلعت على كتاب طبع قبل تاريخ ميلادك، يوم طبع هذا الكتاب أين كنت ؟ أنا حينما أقرأ كتاباً يحلو لي أن أنظر إلى سنة الطبع، فإن كانت سنة الطبع قبل ولادتي أذكر هذه الآية:

 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾

 منحت نعمة الإيجاد، والإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، ولأن الإنسان قبل حمل الأمانة:

 

 

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾

 

(سورة الجاثية)

 هذا التسخير كما قال عنه العلماء تسخير تكريم، وتعريف، هذا التسخير تسخير تعريف وتكريم، واجب التعريف أن تؤمن، وواجب التكريم أن تشكر، فإذا آمنت، وشكرت فقد حققت الهدف من وجودك، لذلك قال سبحانه وتعالى:

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

 

(سورة النساء)

 أضرب مثلاً للتوضيح: لو أن ابناً جاء إلى بيته عقب نهاية العام الدراسي، ومعه جلاء، حصل على العلامات التامة في كل المواد، ثم كتب في الملاحظات، إنه طالب ذو خلُق، مهذب، ونظيف، ومرتب، هل هناك أب في الأرض يضربه على هذا النجاح ؟ مستحيل، فإذا كان شأن الإنسان أنه إذا رأى ابنه متفوقًا أخلاقياً يكرمه، الإله العظيم إذا رأى العبد مستقيماً، منيباً، ورعاً، نصوحاً يكرمه، لذلك قال تعالى:

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾

 أنت حينما تؤمن وتشكر حققت الهدف من وجودك، فالمعالجة واحدة، لذلك لا تأتي المصائب جزافاً، ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة.

 

 

﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾

 

(سورة آل عمران)

 لذلك قال تعالى:

 

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه ﴾

 

(سورة محمد)

 الأمر بيد الله:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

(سورة هود)

 فإن جاءك شيء لا ترضى عنه فقد قال تعالى:

 

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾

 القراءة الثانية: قراءة الشكر والعرفان، منحنا نعمة الإيجاد، والإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، سخر تسخير تعريف وتكريم، واجب التعريف أن نؤمن، وواجب التكريم أن نشكر، فإذا آمنا، وشكرنا حققنا الهدف من وجودنا، هذه القراءة الثانية:

 

 

﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾

 الأكرم اسم تفضيل، هو الذي أكرمك بأن أوجدك، ولأنه خلقك في أحسن تقويم، ولأنه مرجعك إليه.
لكن من أجلّ هذه النعم الذي أنعم بها نعمة البيان:

 

 

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

(سورة الرحمن)

 نحن الأشياء التي نألفها قد لا ننتبه إليها، تصور لو أن الإنسان لا يتكلم، كيف يعبر عن حاجته ؟ أحياناً الطفل يبكي ساعات، ولا تدري أمُّه ما به، لو أنه تكلم يقول لك: أنا جائع ! تطعمه، فلا يأكل، تقدم له بعض الحاجات فلا يقبلها، عنده حاجة هو عاجز عن يعبر عليها، أما الإنسان فيعبر بالبيان عن حاجاته وأفكاره، ومبادئه وقيمه، ومشاعره، أنا بالبيان أفهم مبادئك وأفكارك، ومشاعرك وحاجاتك، البيان أدق تواصل بين أفراد النوع، ومن نعم الله الكبرى على الإنسان البيان.
 أذكر قصة رجل له ابن، وكانوا في سفر، بكى بكاء أقلقهم، بعد ساعات اكتشفوا أن دبوساً في جسمه يؤلمه، أطعموه وأشربوه فلم يسكت، لم يفهموا ما به ! فالإنسان يتكلم، ويقول ما مشكلته، علمه البيان، فهذا البيان شفهي، وهو يحتاج إلى تواصل، لكن البيان الكتابي لو أدركنا قيمته لصعقنا، أنت بالبيان الكتابي تنقل معارفك إلى كل الناس، بتأليف كتاب، بالبيان الكتابي تتعلم من كل الناس، ولو لم تلتقِ بهم، البيان الكتابي تنتقل المعارف من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة عن طريق الترجمة، الآن ما الذي يحصل ؟ الإنسانية كلها معها جعبة واحدة، كل العلوم في جعبة واحدة، فالإنسان إذا أراد أن يتقدم بالعلم يبدأ من آخر خطوة، حتى إنه بلغني أن بعض الجامعات أقامت شبكات إنترنت متواصلة، حيث إن الطالب إذا اختار موضوعًا للدكتوراه، وقد بحث في بلد آخر يعلم بذلك لئلا يكون جهده ضائعاً، اللغة حينما تترجم، أو تكتب تكون المعارف مشتبكة بين كل البشر، هذا معنى قول الله عز وجل:

 

﴿ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾

 

﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)﴾

المذيع:

 هل يتصل هذا المعنى بشكل ما بموضوع بيان اللغة العربية ؟ وهل لهذا تأكيد على أن حملة اللغة العربية يجب أن يكونوا على مستوى راق في تفاقم اللغة والتعامل معها ؟

 

الأستاذ:

 لأنها لغة القرآن، ولأن الله اختارها لغة البيان:

 

 

﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)﴾

 

(سورة الشعراء)

 القرآن الكريم لغته عربية، لذلك ورد أحاديث وكلمات كثيرة عن فضل تعلم هذه اللغة، لسيدنا عمر قول رائع: " تعلم العربية، فإنها من الدين "، يوجد قول يتفق مع أحدث نظريات اجتماعية: " ليست العربية بأحدكم من أب، أو أم، ولكن من تكلم العربية فهو عربي " ! من يتكلم هذه اللغة يفهم أفكار أصحابها ومعانيها ومشاعرهم وقيمهم، وكأنه منهم.

 

المذيع:

 في ختام هذا اللقاء نشكر فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وأستاذ البيان والإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، وكل الشكر للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور