وضع داكن
19-04-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 15 - خلق الإنسان ضعيفاً وهلوعاً 2 الإنسان لا يحتمل المصيبة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ عدنان:

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحييكم عبرة القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه وحضارية الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق .
أهلاً ومرحباً بكم .
 دكتور، في حلقة سبقت تحدثتم عن الإنسان ضعفه، عجلته، كيف يكون هلعاً، كيف تكون عنده بعض نقاط ضعف هي لمصلحته، مع أنه يمكن أن يتصورها في بعض الأحيان إن لم يكن معتمداً على الله لبعض أمور تقصيرية، إنما في الحقيقة هي لذات الإنسان لتذكره بأن الله تعالى هو الذي يحمي من يلتجئ إليه، فإن فقَد نقاط الضعف هذه، أو لم تكن في ذاته فإنه يمكن من خلال قوته أن يستغني عن الله تعالى، والاستغناء عن الله تعالى يورثه الشقاء في الحقيقة، إذ مهما عظم الإنسان أو قوي أو تجبر فإن الله هو الغالب على أمره، والله تعالى والله تعالى هو الذي يقهر عباده بالموت، ولا يستطيع إنسان أن يتخطى نواميس الكون الذي أرادها الله تعالى أيضاً .
 نتابع معكم فيما يتصل بضعف الإنسان، والإنسان عندما يكون بعيداً عن الله تعالى كيف يكون، وعندما يتقرب إلى الله تعالى وإن كان ضعيفاً فإن الله يبدله بضعفه قوة، وإن كان في الأصل متعجلاً يبدله الله تعالى عن هذا برَوِيّة وهدوء، وإن أصابه ما يصيبه في الحياة فإنه يتلقاه بشكر ورضًى في الأحوال كلها، شكر في النعم، ورضًى في الضراء، ويبقى معتمداً على الله تعالى في كل الأحوال، نتابع معكم .

 

الأستاذ راتب:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
 ذكرت في حلقة سابقة كما تفضلتم أن هذه النقاط نقاط الضعف هي لصالح إيمان المؤمن، ولصالح مستقبله الأخروي، ولصالح سعادته الأبدية، فالإنسان صاحب النظر البعيد يرى أن هذه الأشياء لصالحه، بل إن بعض العلماء يرى أن النعم نوعان، نعم ظاهرة معروفة مألوفة، ونعم باطنة هي المصائب، فالإنسان كما قال الله عز وجل:

 

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾

 

( سورة المعارج )

 ما معنى هلوع ؟ القرآن فسر الهلوع، قال:

 

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)﴾

 

( سورة المعارج )

 يعني أن الإنسان لا يحتمل المصيبة، يفرُق منها، تضعف قواه عن تحملها، فهذا الإنسان هذا شأنه، لأنه خلق كما قلنا في حلقة سابقة ضعيفاً،

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴾

الله عز وجل كيف يؤدب هذا الإنسان ؟ لأنه لا يحتمل المرض، لا يحتمل الفقر، لا يحتمل القهر، لا يحتمل الذل، بنيته النفسية لا تحتمل، بنيته النفسية شديدة الجزع .
 حدثني أخ كان في طائرة أوشكت على السقوط، هو مضيف الطائرة، وصف لي وضع الركاب بشكل مهيب، الهلع، والجزع، والبكاء، والصراخ، والعويل، وأراد أن يسكتهم، أو يدعوهم إلى السكينة فلم يجد أحداً يسمعه إطلاقاً، لكنه توسم خيرًا في واحد هادئ، اقترب منه فإذا هو مغمًى عليه،

 

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾

 لو أن الإنسان لا سمح الله ولا قدر وجد في تقرير صحي أن فيه ورمًا خبيثًا، يكاد يبرك، فإن الإنسان خلق هلوعا، وهو حريص على رزقه، حريص على صحته، حريص على سعادته، لكن في الناحية الدقيقة جداً أن الإنسان في أصل فطرته يحب ذاته، يحب وجوده، يحب سلامة وجوده، يحب كمال وجوده، يحب استمرار وجوده، من أين يأتي الشقاء ؟ من نقص العلم .
 في حلقات سابقة ذكرت مثلاً لا بد من ذكره الآن، إنسان يتجه بمركبته إلى حمص في أيام الشتاء القارصة، والثلوج متراكمة في الطرقات، في ظاهر دمشق رأى لوحة وضعتها إدارة المرور كتب عليها: " الطريق إلى حمص ليست سالكة بسبب تراكم الثلوج عند النبك "، أي إنسان عاقل، أو أي إنسان عنده حد أدنى من العقل يتوقف ويعود، لو أن دابة تمشي أين تقف ؟ إذاً الإنسان يحكمه النص والبيان، والإنسان عندما يعطل عقله يحكمه الواقع، لذلك قال الله عز وجل في معرض الحديث عن قول بعض الأنبياء:

 

 

﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)﴾

 

( سورة يونس )

 فالذي يخاف بعقله إنسان، والذي يخاف بعينه ابتعد عن مستوى الإنسانية، الذي يخاف بعقله إنسان، فالإنسان العاقل يحكمه النص، فالإنسان خلق هلوعا يخاف عند الخطر، لكن من هو الأعقل ؟ الذي يخاف عند النص، الذي يخاف عند البيان، هذا الأعقل .
هذا مثل منتزع من واقع الحياة: الذي يمتنع عن التدخين بعد إصابته بالسرطان هذا إنسان عطل عقله، أما الذي يمتنع عن التدخين بعد قراءة العلمية، أو الحكم الشرعي في التدخين فهذا إنسان عاقل، ينبغي أن تكف عن الشيء لا عندما يتفاقم الخطر، بل عندما يأتيك بيان في ذلك .
بالمناسبة أستاذ عدنان، جزاكم الله خيراً، الله عز وجل له أسلوب في تربية عباده، يبدأ بهم بالهدى البياني، وأنت صحيح قوي معافًى، في مكانة علية، يأتيك القرآن، تستمع إلى القرآن، تستمع إلى حديث للنبي العدنان ، تصغي إلى خطبة تلقى عميقة، تقرأ كتاباً، فالإنسان يبدأ الله معه بالهدى البياني، بيان، كلام، كلام يلقى عليك، كتاب تقرأه، خطبة تسمعها، موضوع يعالج أمامك، هذا الهدى البياني أكمل موقف فيه أن تستجيب إلى الله:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾

 

( سورة الأنفال الآية: 24 )

 الإنسان إن لم يستجب يخضعه الله لمعالجة ثانية، التأديب التربوي:

 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)﴾

 

( سورة السجدة )

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾

( سورة الروم )

 فالإنسان حينما لا يستجيب للهدى البياني لا يستجيب للنص، لا يستجيب للبيان يعطل عقله، يخضع لشهوته ونزوته ومصلحته، ولا يعبأ بالمنهج الإلهي افعل ولا تفعل، هذا الإنسان عنده مشكلة، قد يقول الطبيب للمريض: إذا امتنعت عن هذه الأطعمة تعافى من مرض قرحة المعدة، أما إن لم تمتنع فلا بد من عملية جراحية، بالضبط، فهناك وسائل لو اتبعها الإنسان لنجا من عذاب الله، وهو في الدنيا، أما إن لم يتبعها، وركب رأسه، وأسرف في شهواته، وانحاز إلى مصالحة، ولم يعبأ بمنهج الله افعل ولا تفعل، عندئذٍ يخضعه الله لمرحلة في التربية جديدة، اسمها التأديب التربوي .
 حينما حدثنا ربنا جل جلاله عن أصحاب الجنة:

 

﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾

 

( سورة القلم )

 أتلفت هذه المحاصيل كلها، في اليوم التالي:

 

﴿ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)﴾

 

( سورة القلم )

 فلما رأوها دهشوا وصعقوا:

 

﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)﴾

 

( سورة القلم )

 ليست هذه مزارعنا، ثم تأكدوا أنها مزارعهم فقالوا:

 

﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)﴾

 

( سورة القلم )

 يعنينا من هذه القصة كلمة واحدة، قال الله عز وجل بعدها:

 

﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾

 

( سورة القلم الآية: 33 )

 يعني: يا عبادي، كل أنواع الشدائد التي أسوقها لكم في الدنيا من هذا النوع، كي تعودوا إلي، الإنسان حينما لا يستجيب للهدى البياني، بالنص، بالقرآن، بالسنة، بخطبة تلقى رصينة، بكتاب مفيد تقرأه، حينما لا تستجيب بالنص يخضع الإنسان إلى معالجة أقسى ـ بالسين ـ يعني فيها شدة، الآية الكريمة:

 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

 المرحلة الثانية أكبر موقف فيها أن تتوب إلى الله، فإن لم يتب الإنسان أخضعه الله لمعالجة ثالثة، لكن نسبة النجاح في الثانية كبير، أما في الثالثة فقليل، اسمه الإكرام الاستدراجي .

 

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

 

( سورة الأنعام )

 إذا بين الله للإنسان الحقيقة والهدى فلم يستجب، ثم ساق له بعض الشدائد فلم يتب، الآن يخضعه للإكرام الاستدراجي، نسبة النجاح في المرحلة الثالثة ضعيفة جداً، فإن لم يشكر قصمه الله عز وجل،

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾

 فالبطولة أن تكون خاضعاً لله في المرحلة الأولى،

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾

 فالإنسان خلق هلوعاً كي يؤدبه الله عز وجل، كي يستجيب له، أنا أؤكد لكم، وكأنني واثق من هذا التأكيد، أنك إذا دخلت إلى مسجد، ورأيت فيه المصلين، فاعلم علم اليقين أن 90% من هؤلاء جاؤوا عقب تأديب إلهي، التربية الإلهية نجحت .
 مرة هارون الرشيد كان إذا نظر إلى سحابة يقول: اذهبِي أينما شئت، فإنه يأتيني خراجك، أنا أردت أن أسحب هذه المقولة على شيء آخر، هذا الإنسان الشارد نقول له: اذهب أينما شئت، في النهاية لا بد من رجوعك إلى الله، في النهاية إلى المسجد، لأن الإنسان حينما يحس بالخطر يخاف، الإنسان حريص على سلامة وجوده، هذا في أصل فطرته، الله عز وجل خلقه هلوع،

 

 

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴾

 كي يؤدبه، كي يعود إليه، كي ينيب إليه، كي يلجئه إلى بابه، الخير كله عند الله، فإذا عدنا إلى الله كان الله معنا، قال تعالى:

 

 

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴾

 

﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾

 للإنسان معمل حريص عليه، حريص على ما في يديه، من مال، من قوة، من خبرة، قد يمن بخبرته على أحد، قد لا يعلّم أحداً إذا كان صاحب مصلحة بالتعبير الشائع، وهو يكسب منها رزقًا كبيرًا لا يعلّمها لأحد، حريص على خبراته، حريص على مكتسباته، حريص على علمه، حريص على مكانته، حريص على منصبه حريص على ماله،

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾

 الآن:

 

 

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾

 

( سورة المعارج )

 المصلون مستثنون من هذا الضعف، المصلي اكتفى بالقوة العظمى، اكتفوا بالمطلق، اكتفوا بالحكمة المطلقة، اكتفوا بالقوة المطلقة، بالرحمة المطلقة، فاعتمد على الله عز وجل، الإنسان الشارد عن الله مع النعمة، بينما المؤمن مع المنعم، الإنسان الشارد عن الله كل أفقه في الدنيا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، لكن المؤمن أُفُقه يمتد إلى أبد الآبدين، هو لماذا يتحمل كل متاعب الحياة ؟ لأن الله وعده بالجنة فقال سبحانه:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

( سورة القصص )

 فالإنسان موعود بجنة عرضها السماوات والأرض .

 

﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)﴾

 

( سورة النساء )

 سألني أحدهم سؤالا قبل يومين، قال: لي صديق عنده مشكلة، هل عندك دليل عقلي لا نقلي على أن الله يفي بوعده فيضع المؤمنين في الجنة، أنا طبعاً داعبته، قلت له:

 

﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾

 قال لي: هذه آية، أنا أريد دليلا عقليًّا، قلت له: لو أن إنسانًا تبرع بمئة مليون لأعمال البر، وإنشاء المساجد، ثم بلغك أنه سرق عشر ليرات هل تقبل هذا ؟ قال لي: أبداً، قلت له هذا الدليل العقلي .
إله عظيم مطلق في قدرته، في قوته، في حكمته، في كماله، وكمال الخلق يدل على كمال التصرف، إذاً:

 

 

﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾

 لماذا نرقى نحن إذا أنفقنا المال ؟ لأن الله حبب إلينا المال .

 

 

﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ﴾

 

( سورة آل عمران الآية: 14 )

 فالشيء المحبب نظن به ونبخل، هذا في أصل فطرتنا، هذا في أصل بنيتنا، هذا في أصل جبلتنا،

 

﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

 لكن هناك فقرة دقيقة جداً في هذا الموطن، لو قلت: إنسان، هذه الكلمة تغطي كم ؟ تغطي ستة آلاف مليون، لو أضفت كلمة واحدة، إنسان مسلم، تغطي مليارًا ومئتي مليون، أضف كلمة ثالثة، إنسان مسلم عربي، تصبح أربعمئة مليون، ينزل، كلما أضفت صفة تضيق الدائرة، إنسان مسلم عربي مثقف، قد يكون مئتي ألف، إنسان مسلم عربي مثقف طبيب، كلما تضيف كلمة تضيق الدائرة، الآن نحن حتى لا نتوهم أن أي إنسان صلى أخذ ميزات هذه الآية،

 

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

 

 

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) ﴾

( سورة المعارج )

 وليس كل مصَلٍّ يصلي .

 

الأستاذ عدنان:

 يمكن أن يقول قائل: إن الله تعالى قد ضيق علينا الدائرة الواسعة أصلاً إلى أضيق وأضيق وأضيق، حيث لن يبقي لنا شيئاً .

 

 

الأستاذ راتب:

 أرادك أن تصلي صلاةً حقيقية، أرادك أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر، الحديث القدسي: قال الله عز وجل:

 

 

((ليس كل مصل يصلي، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب وآوى الغريب كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلما، والظلمة نورا، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلأه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها ))

 

[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]

 أستاذ عدنان، عندنا في النصوص شيء دقيق جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( أَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مَنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ، بِيضاً، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثُوْبان: يَا رَسُولَ اللهِ ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتَكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا ))

 

[ ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ ]

 إذاً:

 

(( ليس كل مصل يصلي ))

 النبي الكريم سأل أصحابه مرةً من المفلس ؟ فكروا في الإجابة عن هذا السؤال بحسب الواقع، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

 

((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنَّ لْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))

 

[ رواه مسلم ]

 أستاذ عدنان، العبادات الخمس كل عبادة أحياناً تنقض، الإنسان إذا ذهب إلى حج بيت الله الحرام، وكان ماله حراماً، ووضع رجله في الركاب، وقال: لبيك اللهم لبيك، ينادى أن لا لبيك، ولا سعديك، وحجك مردود عليك .

 

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53)﴾

 

( سورة التوبة )

 حتى لو أن الإنسان أنفق ماله وهو غارق في المعاصي والآثام، غير مقبول ذلك، الالتزام يجب أن يكون كاملا، الآن حتى الصيام، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))

 

[ البخاري]

 الله عز وجل قال:

 

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

 من هم المصلون ؟ الملتزمون بأمر الله ونهيه، الذين نهتهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، الذين عقدوا مع الله صلة في صلاتهم، الذين طهرت قلوبهم من الأغلال والأدران، الذين سمت نفوسهم إلى الواحد الديان، فالصلاة التي أمرنا الله بها أنا أتصور أنها غير هذه الصلاة التي يؤديها المسلمون، وهم في انحراف، أو في تقصير، أو في خروج عن منهج الله عز وجل .

 

 

الأستاذ عدنان:

 يا سيدي، هذه الناحية أيضاً في الأصل ذكرتني بشيئين اثنين، أولاً: كما قلت، هل هذه هي الصلاة المطلوبة ؟ ثانياً: قبلها كنتَ تحدثت أن الإنسان الذي نجده يأتي إلى المسجد، ويصلي إذا ما سألناه، ترى ماذا حدث معك من أشياء تذكرك بالله ؟ تارةً يقول: حادثة، وتارةً يقول: حلم، وتارةً يرى شيئاً يعجب أمامه، ورابعاً: يخاطب نفسه في بعض الأحيان، يتأمل في شيء عظيم مِن صنع الله، أشياء عديدة يمكن وهي من حوله باستمرار أن تدعوه ليكون متقرباً إلى الله تعالى، أما الناحية الأولى، وهي في مرتبتها زمن، ذكرتها ثانياً، موضوع الصلاة، نحن الآن في كثير من الأحيان بعد فراغه من صلاته يمكن أن يصف لك ما حدث إلى جانبه، مع أنه بين يدي الله تعالى، على حين كنا نسمع عن السلف الصالح، وهذا ليس مبالغة، ولا تأليفاً غير صحيح، كان إذا ما وقف أحدهم في صلاته وسجد يحط الطائر على ظهره مدة، ولا يتحرك، لماذا ؟ لأنه مستغرق في صلاته، كان يقع عمود جسر في مسجد، وكان الإنسان يصلي فيه فيسمع صوت الارتطام كل من حول هذا المكان، ولا يسمعه هذا المصلي .
 عروة الذي كان لا بد له من إجراء عملية جراحية في إحدى أطرافه، قال: إذا ذكرت الله، ورأيتموني قد استغرقت فما أردتم فافعلوه، استغرق، وقطعوا له طرفاً، ولما شم في النهاية رائحة الزيت علم أنه قد انتهت العملية، وقال: الحمد لله أن أخذتَ لي طرفًا، وأبقيتَ لي أطرافاً .
هذه الناحية هي التي يمكن ومعها تضيق الدائرة كما تحدثت في موضوع الدوائر، هذه هي الناحية المطلوبة، ولكن الإنسان مع أن الدوائر تضيق يسعد بها أكثر بكثير، ويجد اللذة بها أكثر بكثير ممن يمتلك الدوائر العريضة .

 

 

الأستاذ راتب:

 هذا الفرق بين أرحنا بها وأرحنا منها، هذا الفرق بين الحب والواجب، هذا الفرق بين إنسان انعقدت له مع الله صلة، وإنسان يؤدي حركات الصلاة لكنه لا يصلي، الحقيقة أنا أرى والله أعلم أنه حينما ضعفت معرفتنا بالله عز وجل، ونمت معرفتنا بأمره هذه المفارقة هي وراء هذه الظاهرة المرَضية في الصلاة، فأنت حينما تعرف الآمر، ثم تعرف الأمر، تتفانى في طاعة الآمر، فإذا تفانيت في طاعة الآمر أقبلت عليه .
 مثلاً، جندي التحق بالخدمة الإلزامية لتوه، أقل مرتبة له في الجيش اسمه الجندي الغر، هل يستطيع هذا الدخول على اللواء بلا إذن ؟ مستحيل في الأنظمة العسكرية في العالم كله، هناك تسلسل طويل، بينه وبين اللواء عشرات الرتب، لكن بحالة واحدة يدخل عليه بلا إذن، لو رأى ابنه كاد يغرق فأنقذه، يدخل عليه بلا إذن، قال تعالى:

 

 

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾

 

( سورة الكهف الآية: 110 )

 أنت حينما تعمل عملاً صالحاً لخدمة خلق الله تسعد، لأن:

 

(( الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))

 

[ رواه الطبراني وأبو النعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود ]

 أنت حينما تكون في خدمة الخلق لا تكذب عليهم، لا تحتال عليهم، لا تبتز أموالهم، لا ترهقهم، لا تهينهم، أنت حين تنصحهم وتخدمهم، وتقدم لهم كل ما عندك إرضاء لله عز وجل فالطريق إلى الله سالك .

 

الأستاذ عدنان:

 دكتور، أيضاً هنا يمكن أن يطرح السؤال التالي: مع أن الإجابة عليه يمكن أن تكون طويلة، لكن يمكن أن نعطى لها عنوانًا فقط، قد يقول قائل: طيب، نحن في حياتنا هذه، في الزمن المتأخر عن زمن الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته، وكلما تأخر زمان تضعف هذه النواحي التي تذكرنا بها، فهل لنا من واقعنا ما يشفع لنا في تقصيرنا ؟ أو أنه لا بد من وجود الإنسان الذي تحدثت عن صفاته الإيمانية، والتي يتقرب من خلالها إلى الله تعالى، فإذا وقع عمود وهو في صلاته لا يشعر، ولا يسمع صوته، وإذا حط الطائر على ظهره من طول سجوده، وهو مستغرق في دعائه، وموضوع أرحنا بها يا بلال، وأرحنا منها، وهذا الفارق الذي تحدثت عنه، ترى هل يشفع تأخر الزمن بالنسبة لنا عما تحدثت، أم لا بد من وجده أيضاً ؟ الإجابة أرجو أن تكون عنواناً .

 

 

الأستاذ راتب:

 الاستقامة حدية، والبذل نسبي، الاستقامة حدية، هناك شروط أساسية لضرب حقنة لمريض يطيقها أعلى طبيب في الأرض وأقل ممرض، إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، في أمور الاستقامة، الاستقامة حدية، لا تزيد ولا تنقص ولا علاقة لها بالتطور، بينما الأعمال الصالحة لها علاقة بالظروف والبيئات، فالأعمال الصالحة التي فيها بذل هذه نسبية، بحسب إيمان الإنسان، بحسب العصر، بحسب الحاجات، بحسب الظروف، أما الاستقامة فلا تستطيع في أي زمان أن تأكل حق امرئ، وأن تكذب، ولا أن تحتال، فالاستقامة حدية، والعمل الصالح نسبي، هذا الجواب الدقيق، دائماً الله عز وجل قال:

 

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾

 

( سورة التوبة الآية: 119 )

 كأنه يقول: ولكنكم لا تستطيعون إلا:

 

﴿ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

 

( سورة التوبة )

 فلابد لك من بيئة صالحة، من بيئة تذكرك بالله عز وجل، أما حينما ينسلخ الإنسان من المؤمنين، ويعيش مع الشاردين يصعب عليهم أن يستقم .

 

الأستاذ عدنان:

 في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم .

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور