وضع داكن
28-03-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 02 - خصائص النفس 2 نقاط ضعف الإنسان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 المذيع :
 أيها الإخوة المشاهدون، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحيّيكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرّنا أن نلتقي اليوم مع الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، أهلا ومرحباً بكم.
 الأستاذ:
 أهلا بكم أستاذ عدنان.
 المذيع:
 كنتم تحدثتم في حلقة سابقة عن فطرة الإنسان، وبيّنتم أن الإنسان في تكوينه مؤلف من نفس وجسد وروح، ثم توقفتم عند موضوع النفس، وتحدثتم عنها، وبينتم ما في النفس من أمور تعتلجها، هي مثلاً خائفة عجولة هلوعة، هذه الصفات عندما يأتيها الإيمان ينقلها من جادة الضياع إلى جادة الهدى، بل لا أقول من جادة الضياع، فليس للضياع جادة، إنما هي تشتت في تشتت، إنما مع الإيمان ينتقل الإنسان إلى جادة الهدى، وجادة الهدى صحيح أنها بدايةً يمكن أن تخالف نزعة الإنسان التي خلقه الله تعالى عليها، إنما تتغير رأساً على عقب، فيشعر في بعض الأحيان بالابتلاء أنه نعمة، يشعر بالعطاء رغم أنه يدفع من جيبه، لكنه يدفع من أجل الآخرين، ويشعر بلذّة، على حين أن البخيل لا تكاد يده تخرج من جيبه، فإن خرجت يشعر كأنما نزلت عليه صاعقة، هذا بسبب أن الإنسان سلك مسلك الجادة المثلى التي هداه الله إليها.
 وهنا نذكر أن فطرة الإنسان تتصل بهذه الأشياء بصاعقة، حتى لا نبتعد كثيراً عن الفكرة الأساسية التي بدأنا الحديث عنها.
 نتابع معكم موضوع عجلة الإنسان.
 الأستاذ:
 الحقيقة أستاذ عدنان جزاكم الله خيراً، الله عز وجل في أول سورة طويلة هي سورة البقرة يصف المؤمنين بصفة عجيبة، قال تعالى:

﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

(سورة البقرة)

  هناك شهود، وهناك غيب، هناك عالم الشهادة، وعالم الغيب، في عالم الشهادة الشهوات مستعرة، الفتن ثائرة، الدنيا خضرة نضرة، أما عالم الغيب فهناك ما بعد الموت، هناك جنة يدوم نعيمها، وهناك نار لا ينفذ عذابها، لكن الآخرة خبر، بينما الدنيا محسوسة، كيف ؟! أمامك بيت جميل، مركبة فارهة، طعام طيب، امرأة جميلة، هذه كلها محسوسة أمامك، بينما الجنة والنار خبران في القرآن، وفي الكتب السماوية الأخرى.
 أنا أوضح هذه الحقيقة بأن إنسان يركب دراجة، وصل إلى طريقين، طريق هابط، وطريق صاعد، الطريق الهابط معبد تحفه الأشجار والأزهار، وراكب الدارجة يرتاح في الطريق الهابط قطعاً، ليس عنده محرك.
 سأذكر مصطلحات مألوفة جداً: كل معطيات البيئة والواقعية وخصائصه تدعوه لأن يسلك الطريق الهابط، وكل معطيات البيئة وكل خصائصه الجسمية، وكل رغباته تصرفه عن الطريق الصاعد، الطريق الصاعد فيه حفر وأكمات، وغبار وجهد عالٍ جداً، فالإنسان إذا تعامل مع الواقع فقط، ومع خصائص جسمه فقط، ومع معطيات البيئة فقط فلابد من أن يسلك الطريق الهابط، لكن لو كتبت لوحة عند مفترق الطريقين أن هذا الطريق الهابط ينتهي بحفرة مالها من قرار، فيها وحوش كاسرة، وأن هذا الطريق الصاعد ينتهي بقصر منيف، هو لمن دخل إليه، ألا ينبغي أن يتخذ راكب الدراجة قراراً معاكساً ؟
 المشكلة أن هناك بيانًا إلهيًّا وضع بين يدي الإنسان، واقع محسوس وشهوات مستعرة، دنيا خضرة نضرة، وامرأة جميلة، وبيت جميل، ومنصب رفيع، وأشياء كثيرة.... لكن حينما تقرأ البيان الإلهي فلابد من أن تتخذ قراراً معاكساً، هذه القصة كلها، هناك دنيا محدودة، وآخرة لا تنتهي، قال تعالى:

 

﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)﴾

 

(سورة الضحى)

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)﴾

(سورة الإنسان)

  آيات كثيرة تبين أن الحقيقة هي الآخرة، وأن أكبر خسارة يخسرها الإنسان حينما يخسر الآخرة.

 

﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

 

(سورة الشورى)

  فالدنيا محسوسة، والآخرة خبر، لأن الإنسان فطر على أنه عجول يريد الأشياء المحسوسة التي أمامه، يريد ما هو قريب منه، وينصرف عن الشيء البعيد، لو أنه اختار الأهداف البعيدة فقد اختار الآخرة ورضوان الله عز وجل.
 ما معنى أن الإنسان مخير ؟ لو أن الإنسان لمجرد أن يعصي الله يعاقبه الله ! كيف هو مخير ؟! لمجرد أنه أطاعه وأكرمه ليس مخيراً، معنى كونه مخيرًا أنه يمكن أن تطيعه إلى أمد طويل، ولا يحدث شيء ! جسمك في أتم صحة، قلبك ينبض نبضاً طبيعياً، الضغط مناسب، يمكن أن تطيعه إلى أمد بعيد، ولا ترى شيئاً استثنائياً، ويمكن أن تعصيه إلى أمد بعيد، ولا ترى شيئاً استثنائياً

 

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

 

(سورة إبراهيم)

  المشكلة لما تكون حول المؤمن دنيا محسوسة، ترقص خضرة نضرة محببة، تتناغم مع شهواته ونزعاته وخصائص جسمه، والآخرة خبر في الكتب السماوية.
 المذيع:
 هنا دكتور يمكن أن يقول قائل: إذا أردت أن تسلم عليه هل تغمزني بيدك أولاً أو بعصاً، بعد ذلك ألتفت إليك، وبعد ذلك تقول لي: السلام عليكم ؟ لا حاجة لهذا، سلم علي مباشرة، لماذا جعل الله تعالى أمر الطريق الهابط أنه ينتهي بحفرة لا قرار لها، وجعل الطريق الصاعد للحفر والمتاهات والصعوبات ينتهي بقصر منيف ؟ لماذا لم يجعل الطريق سهلاً ؟ لماذا لم يتمها علينا ؟ فجعل الطريق سهلاً والنهاية محببة ؟
 الأستاذ:
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ))

(صحيح مسلم)

 عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَأَوْمَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ:

(( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ وَقَاهُ اللَّهُ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، أَلَا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، ثَلَاثًا، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

(مسند الإمام أحمد)

  هذه أنفس، أما المنطق فهذا العطاء الذي وعد الله به المؤمن يفوق حد الخيال.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ:

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.))

(صحيح البخاري)

  أستاذ عدنان المشاهدات محدودة، أنا سافرت إلى عدة بلدان في العالم، لكن لم أسافر إلى كل البلدان، لكن أسمع في الأخبار عن كل البلدان، فالمشاهدات محدودة،

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

  فالخواطر لا تنتهي، لذلك كل ما في الجنة لا يمكن أن يتصوره الإنسان، جئنا إلى الدنيا كي ندفع ثمن الجنة.
 لو فرضنا جنديًّا في ثكنة كبيرة جداً، على رأسها لواء، هل يستطيع هذا الجندي الغر بحسب القوانين العسكرية أن يدخل عليه ؟ مستحيل، يوجد تسلسل رتب، يوجد عريف، ومساعد، ومساعد أول، وملازم، لكن هذا الجندي الغر يستطيع أن يدخل على أعلى رتبة في هذه الثكنة في حالة نادرة، أنه رأى ابن اللواء يغرق فرمى بنفسه، وأنقذه.

 

﴿مفَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

 

(سورة الكهف)

نحن جئنا إلى الدنيا كي نعمل الأعمال الصالحة، نرتقي مرتين، نرتقي بالضبط، ونرتقي بالعطاء، الاستقامة سلبية، أقول: أنا ما كذبت، ما غششت، ما اغتبت، ما أكلت مالاً حراماً، كل الاستقامة فيها ما ( النفي )، الاستقامة سلبية، بينما الأعمال الصالحة إيجابية، أنا قدمت مالي، بذلت مالي وحياتي في سبيل إعزاز هذا الدين، فهناك بذل وامتناع، الامتناع والبذل يكسبان النفس ثقة، أن هذا الإله الذي تعبده راض عنك، لأن الجنة مع الله عز وجل، كما قلت قبل قليل:

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

لكن المؤمن في الجنة يرى ربه، بعض الروايات تذكر أنه يرى ربه فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة ‍!

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾

(سورة القيامة)


وفي الجنة أعلى من رؤية الله:

 

﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾

 

 

(سورة آل عمران)

 

 

(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

وفيها نظر إلى وجه الله الكريم، وفيها رضوان من الله العظيم، فهذه الجنة لا بد لها من ثمن.
بربك إنسان حتى يقال عنه: دكتور، هل يعقل أن يقدم طلبًا للجامعة يرجى منح الدكتوراه، وهو لا يقرأ، ولا يكتب، فيكون جواب الجامعة في اليوم التالي: لقد لبّينا طلبك، ومنحناك الدكتوراه، الطلب والإجابة لا قيمة لهما إطلاقاً، حتى يصل الإنسان إلى شيء في الدنيا لا يمل أبداً، ويبذل جهداً كبيراً، أيعقل أن تكون جنة عرضها السماوات والأرض، وفيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وفيها حياة أبدية ؟
 أستاذ عدنان، لي ملاحظة: واحد في الألف، وأصفار في الشمس، وبيننا وبين الشمس مئة وستة وخمسين كيلو مترًا، وكل ميليمتر صفر ! ما هذا الرقم ؟ نحن ثلاثة أصفار ألف، ثلاثة أُخَر مليون، ثلاثة أُخَر ألف مليون، ثلاثة أُخَر ترليون، أنا أقول: واحد بالألف أصفار للشمس، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم الذي لا يستوعبه العقل لو وضع صورة بكسر عشري، والمخرج لا نهاية يكون هو الصفر ! فالدنيا عند الله صفر.
 عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))

(سنن الترمذي)

   الدنيا لا شأن لها عند الله، لذلك أعطاها لمن لا يحب، وأعطاها لمن يحب، فهي ليست مقياساً، أعطيت لمن يحب، لسيدنا سليمان، وأعطيت لفرعون، وأعطي المال لقارون، ولبعض الصحابة الكرام، كسيدنا عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، لأنها أعطيت لمن يحب ولمن لا يحب فلا قيمة لها عند الله عز وجل، هي محدودة، عطاء الله عز وجل وكرمه لا يمكن أن يتناسب مع عطاء محدود، الله عز وجل إذا أعطى أدهش، عطاؤه الحقيقي لا يتناسب مع ألوهيته إلى الجنة، هل يعقل أن يمنّ ملك على مواطن عنده بقلم رصاص ؟ ببيت أو سيارة أقلّ شيء ؟ عطاء الملك يتناسب مع مكانته، فلذلك هذه الجنة ثمنها في الدنيا، وهو الضبط...
  بالمناسبة، ليس في الإسلام حرمان، الحقيقة المثل قد ينصرف الذهن إلى شيء ما أردته، لك أن تأكل، وتشرب، وتتزوج، وتؤسس عملا، وتتاجر، وتسكن في بيت أنيق، هذا كله سمح الإسلام به، ليس في الإسلام حرمان، بل فيه تنظيم، والدليل:

 

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

 

(سورة القصص)

 المعنى المخالف عند علماء الأصول: من يتبع هواه وفق هدى الله فلا شيء عليه، ليس هناك حرمان، بل تنظيم، فلذلك المؤمن يحيا حياة طيبة، ونِعم الدنيا لا تتناقض مع نِعم الآخرة، والإسلام واقعي، ودين الواقع والفطرة، الإسلام راعى الجسد، وراعى النفس، راعى الحاجات والقيم والدنيا والآخرة.
 أقول لك كلمة: النبي عليه الصلاة والسلام دخل إلى المسجد في وقت بين الفجر والظهر، رأى شابًا فقال له: من يطعمك ؟ هذا وقت عمل ! قال: أخي ! قال: أخوك أعبد منك !

 

(ورد في الأثر)

  هذا ملمح رائع ! سيدنا عبد الله بن مسعود أمسك النبي عليه الصلاة والسلام بيده فكانت خشنة من العمل، رفعها وقال:

 

(( إن هذه اليد يحبُّها الله ورسوله ))

(ورد في الأثر)

  عندما أقول: طريق هابط فهذا مثل لا ينصرف الذهن إلى تفاصيله، نحن في كل تشبيه يعنينا وجه شبه معين، أنا أردت أن الدنيا يمكن أن تعيش فيها حياة مستقرة وأمينة، ولكن لك هدف وقيم تنتظمك، لك منطلقات ورسالة تحملها، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، وإلا فيكون أشقى الناس، وهذه الآية:

 

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

 

(سورة طه)

  الإنسان خلق عجولاً، وهي نقطة ضعف فيه.
 أذكر مثلا للطرفة: يوجد مركبة عامة تقف في مركز المدينة في المرجة، وتتجه إلى خط المهاجرين، في أيام الصيف الحارة آخر موقف باتجاه الشرق، المقاعد اليمنى فيها شمس لاذعة، واليسرى فيها ظل ظليل، يصعد راكب إلى هذه المركبة، طبعاً لابد من أن يجلس في الظل بحسب حاجة جسمه للظل، وبحسب معطيات البيئة والواقع، لكن الراكب الذكي يجلس في الشمس، لأن هذه المركبة سوف تدور حول مركز المدينة لدقيقة واحدة، فتنعكس الآية.
 فلذلك الذي يعيش المستقبل هو المؤمن، نحن نعتقد أن الإنسان إذا عاش الماضي فقط، وأهمل حاضره فهو غبي، وإذا عاش حاضره كانت حياته ردود أفعال متأخرة، بينما الموفق يعيش المستقبل، وأكبر حدث في المستقبل مغادرة الدنيا، ماذا بعد الدنيا ؟
 أقول: كان أحد الخلفاء العباسيين يخاطب السحابة، ويقول: اذهبي أينما شئت، يكاد يأتيني خراجك، أقول قياساً على هذا القول لهذا الشارد: اذهب أينما شئت، في النهاية لابد من أن تعود إلى الله، هذه الدنيا خضرة نضرة، لكنها تغري، وتغوي، وترضي، وتشقي.
 لو انصببنا عليها، وتركنا أهدافنا التي خلقنا من أجلها شقينا، فلذلك أن يعرف الإنسان سر وجوده وغاية وجوده شيء مهم جداً.
 المذيع:
 دكتور، بالإضافة لما ذكرتم بأن لكل شيء ثمناً، وثمن الجنة شيء غالٍ جداً، إذا أردنا أن نقيسه بما عليه الجنة ! ولكن الإنسان الذي يعيش في الدنيا، وأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة يمتحنه ليدفع الثمن، وفي الوقت ذاته كي يميز الإنسان الجيد من السيئ، وإلا إذا أعطيت الجنة للجيد والسيئ فليس هناك عدل !
 الأستاذ:
 طلب الجنة من دون عمل ذنب من الذنوب !
 أضرب مثلا طريفًا: لو دخلنا إلى معرض سجاد، وطلبنا سجادة راقية جداً، أطلعنا صاحب المحل على سجادة، نريد أغلى منها، أتعبناه ساعتين، حتى أخذنا إلى مكان آخر، وأطلعنا على سجادة رائعة، يزيد ثمنها على مليون ليرة، لو دفعنا له بهذه السجادة خمس ليرات هل نخرج من محله سالمين ؟! مستحيل، جنة خلقها الله للإنسان، يمكن أن يكون ثمنها ركعتين تؤديان أداء شكلياً، ودرهمان ينفقان للفقير، انتهى الأمر، ونعيش على شهواتنا وحظوظنا ؟ هذه المشكلة، المشكلة أن الجنة تحتاج إلى جهد وعمل، إلى عمل يتناسب مع هذا العطاء الكبير، فلذلك

(( حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ))

 و

(( إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، ثَلَاثًا، أَلَا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

  يكفي أن تسترخي، ولا تفكر في شيء، وتأكل ما تشتهي، وتلتقي مع من تشتهي، وتقول ما تشتهي، وتبحث عن مصلحتك القريبة والمتوهمة، ولا تعبأ بقيمة، ولا بمنهج، ولا بتوجيه، ولا بكتاب سماوي، ولا بقيمة أرضية حتى يستحق الإنسان النار !
 أستاذ عدنان، يوجد شيء آخر: إن الإنسان خلقه الله ضعيفاً، قال تعالى:

 

﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾

 

(سورة النساء)

  هذه من نقاط ضعف الإنسان، وهي أربع نقاط ضعف:

 

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)﴾

 

(سورة المعارج)

  الهلوع عرفه الله بصفتين:

 

﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)﴾

  حريص على ما في يديه.

 

 

﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)﴾

 شديد الجزع.
 لو أن إنسانًا ـ لا سمح الله ولا قدر ـ شعر بشيء غير طبيعي في جسمه، وأجرى تحليلا، وكان في جسمه شيء لا يطمئن ينزعج.
 أذكر طبيباً ذكر لي عن مريض أن أجله بعد أربعة أشهر، معه مرض عضال، فقال: في هذه الأشهر هيئ نفسك، واكتب وصية، ووزع أموالك، مات في اليوم التالي !

 

 

﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)﴾
﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)﴾
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً(11)﴾

 الصفة الرابعة:

 

 

﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً (28)﴾

  لو أن الله خلق الإنسان قوياً لاستغنى بقوته، فشقي باستغنائه، ولو أن الإنسان خلق ضعيفاً لافتقر في ضعفه، فسعد بافتقاره، خلقه ضعيفاً ليفتقر إلى الله.
 لذلك في معركة حنين صار عند الصحابة شعور بأننا أقوياء:

 

 

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً﴾

 

(سورة التوبة)

  فالإنسان حينما يستغني عن الله يميل إلى المعصية والدليل:

 

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾

 

(سورة العلق)

  فالإنسان يتوهم أنه مستغن عن الله، لكنه في قبضته، والحقيقة أن في القرآن ملمحًا رائعًا، هو أن العبد تجمع على عبيد، وعلى عباد، والفرق بينهما دقيق، عبد القهر تجمع على عبيد:

 

 

﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾

 

 

(سورة فصلت)

  وعبد الشكر تجمع على عباد:

 

﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾

 

(سورة الحجر)

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾

(سورة البقرة)

  فالإنسان عبد شاء أم أبى، لكنه عبد القهر، شريانه التاجي وحركته بيد الله، في ثانية واحدة يفقد حركته ونطقه، وبخثرة (جلطة) لا يزيد حجمها على رأس دبوس تقف في أحد شرايين الدماغ يفقد حركته، فالإنسان في قبضة الله.
 فلذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ: هَنِيئًا لَكَ الْجَنَّةُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا نَظَرَ غَضْبَانَ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكِ ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَارِسُكَ، وَصَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( وَاللَّهِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ))

(أحمد)

  فالإنسان خلق ضعيفاً ليفتقر بضعفه، فيسعد بافتقاره، ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته فشقي باستغنائه.
 النقطة الدقيقة جداً: أن الإنسان أمامه امتحانان يمتحن بهما في اليوم عشرات المرات، في كل مجال، في حرفتك، وبيتك، وتربية أولادك، وكسب مالك، وإنفاق مالك، وأداء مهماتك، إذا قلت: أنا، معتداً بخبرتك، وقوتك، ومالك تخلى الله عنك، وإذا قلت: الله تولاك الله.
 أنا أقول: هذان الامتحانان وردا في القرآن، امتحان بدر وحنين.

 

﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

 

(سورة آل عمران)

﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً﴾

(سورة التوبة)

  الإنسان حينما يكون ضعيفاً يفتقر بضعفه، فيسعد بافتقاره، وحينما يكون قوياً يعتد بقوته، فيشقى بقوته، فخلق ضعيفاً لصالحه.
 وأوضح مثلٍ: نقطة الضعف في الآلة الغالية ( الفيوز )، نقطة ضعف حماية له، وأنا حينما أفهم أوامر الدين ضمانًا لسلامتي، وليست حداً لحريتي أكون فقيهاً، ونحن في حلقة عن الفقه المعاصر.
 المذيع:
 الحقيقة أن الحديث عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها ما يزال أمامنا ممتداً، والحلقات القادمة إن شاء الله سوف نتعرض إلى تمام هذه الفكرة، إنما في ختام هذا اللقاء كل الشكر للأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور