وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 78 - إن مع العسر يسرا - التقنين الإلهي.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

الحمد لله رب العالمين ... يا رب أنت غنى كل فقير ، وعز كل ذليل ، وقوة كل ضعيف ، ومفزع كل ملهوف ، فحاشا يا رب أن نفتقر في غناك ، وأن نضل في هداك ، وأن نذل في عزك ، وأن نضام في سلطانك .
الحمد لله الذي كتب البلاء على عباده المؤمنين ، أحمده سبحانه إذ جعل أشد الناس بلاء الأنبياء والمرسلين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وعد للصابرين أفضل ما أعده لعباده المتقين .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، خيرته من خلقه ، قدوة الصابرين ، وإمام الشاكرين .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وأصحابه الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين .
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات ، إلى جنات القربات .

مخططات العدو :

يخطط العدو البعيد والقريب لمجتمعاتنا الإسلامية أن تمزق ، وأن تضعف ، وأن تفتقر ، وأن تفسد وأن تغوص في أوحال الحروب الأهلية ، وأن تسقط في حمأة الرذيلة والفساد ، وأن تتخلى عن دينها ، ويكفي دلالة على ذلك أن يخرج أحدنا إلى شارع من شوارع المسلمين ، أو إلى سوق من أسواقهم ، أو أن يشاهد أخبارهم ، ليرى نتائج هذا الغزو الثقافي ، ونتاج هذا التدمير العسكري الذي يراد لهذه الأمة .
فهذه الأمة التي يمكر بها أعداؤها مكراً تزول منه الجبال ، يخططون لإفقارها ، ولإضلالها ، ولإفسادها ، ولإذلالها ، ولإبادتها ، تحت اسم براق هو الشرق الأوسط الجديد .
قال الله تعالى :

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾

[ سورة إبراهيم الآية : 46 ]

طريق الخلاص بالصبر والتقوى :

لكن الله جل جلاله رسم لنا ـ معشر المؤمنين ـ طريق الخلاص من مكرهم الذي تزول منه الجبال قال تعالى :

﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 120 ]

إن ديننا يعلمنا أن الأسلوب الصحيح في مواجهة ضغوط الخارج وتحدياته لا يكون في الرد عليها ؛ مما قد يجرنا إلى معارك خاسرة ، وإنما يتمثل في الانكفاء على الداخل بالإصلاح والتنقية والتدعيم ... ولا ريب أن ذلك شاق على النفس ؛ لأن المرء آنذاك ينقد نفسه .

الحقائق المستنبطة من قوله وإن تصبروا وتتقوا :

والآية الكريمة :

﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ﴾

هذه الآية التي نحن بصددها معْلم بارز في التأصيل لهذا الانكفاء ، ولعلنا نقتبس منها الحقائق التالية :
أولاً :
إن كثيراً من النصوص توجهنا نحو الانكفاء على الداخل بالنقد والإصلاح والتقويم والتحسين في مواجهة الخارج ، وإن المتتبع للمنهج القرآني في قصص الأمم السابقة يجد أن ما ذكره القرآن الكريم من أسباب انقراضها ، واندثار حضاراتها ، لا يعود أبداً إلى قصور عمراني ، أو سوء في إدارة الموارد واستغلالها ؛ وإنما يعود إلى قصور داخلي ، يتمثل في الإعراض عن منهج الله جلّ وعلا ، والتأبي على رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذه الحقيقة بارزة في جميع أخبار الأمم السابقة .
انقراض الأمم السابقة سببه الإعراض عن منهج الله
وحين حلّت الهزيمة بالمسلمين في أحد ، قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم :
كيف نُهزَم ونحن جند الله ؟ !
فجاء الجواب القرآني :

﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 165 ]

فالهزيمة وقعت بسبب خلل داخلي ، وليس بسبب شراسة الأعداء ، وكثرة عددهم وعتادهم ؛ إذ لا ينبغي تضخيم العدو إلى الحد الذي يجعل تصور هزيمته شيئاً مستحيلاً ؛ فالعدو بَشَر له إمكاناته المحدودة ، وله موازناته ومشكلاته ، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ ﴾

[ سورة النساء الآية : 104]

القوة لا تعني التربية وهذا ما اخطأنا به :

العقوبات الرادعة تحمي المجتمع لكن لا تبنيه
لم نكن على مدار التاريخ نمتلك الوعي الكافي بهذه الحقيقة ، فبدل أن نلجأ إلى التربية والتوجيه والتعاضد والتراحم ، واكتساب عادات جديدة ، واقتلاع المشكلات من جذورها .. كنا نواجه التفسخ الاجتماعي ، والانحراف السلوكي بأمرين :
القوة ، ومزيد من القوانين .
حيث كانا أقرب الأشياء إلينا تناولاً ، وأقلها تكلفة بحسب ما يبدو ، وقد عبّر عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن هذه الحقيقة حيث قال : يحدث للناس من البلاء على مقدار ما يُحدثون من الفجور .
إن العقوبات الرادعة لا تنشئ مجتمعاً لكنها تحميه ، وهذه رؤية إسلامية جلية ، فآيات الأحكام والعقوبات جزء منها لا تشكل أكثر من عُشْر آيات القرآن الكريم ، أما الباقي فكان يستهدف البناء الإيجابي للإنسان من الداخل .
إن التجربة تعلمنا أن كثرة القوانين وتعقيدها تصب دائماً في مصلحة الأقوياء ، وتزيد في قيود الضعفاء !، وأن البطش لا يحل المشكلات ، لكن يؤجلها .

الصبر والتقوى هو ما نحتاجه لنهوض بأمة الاسلام :

إن الآية الكريمة تعلمنا مرة أخرى : أن النصر الخاص يسبق النصر العام ، وأن الأمة المنتصرة على أعدائها هي أمة حققت نصراً داخليّاً أولاً ، وحقق كل واحد من أفرادها نصراً خاصّاً على صعيده الشخصي قبل كل ذلك ، وهذه الحقيقة واضحة في قوله تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾

والآية الكريمة :

﴿وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ﴾

توجهنا إلى أمرين : الصبر ، والتقوى .
ويعني الصبر: احتمال المشاق ، ومتابعة صارمة في تأدية التكاليف الربانية ، مهما تكن الظروف قاسية ؛ لأن الصبر نصف النصر ، والنصف الثاني يأتي من أخطاء العدو .
فكأن الصبر استخدام للوقت في الخلاص من مشكلات لا نستطيع الآن أن ننجح في الخلاص منها .
قال تعالى:

﴿ ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾

[ سورة النحل الآية : 110]

مفهوم الصبر والتقوى يتجلى بتهذيب الذات وتحسينها
إن احتمال المعاناة دون حركة للخلاص من مسبِّباتها قد يكون ضرباً من اليأس والاستسلام ، وقد يكون ضرباً من العجز أو قصر النظر أو ضيق الأفق .
أما التقوى فتعني هنا بصورة أساسية : نوعاً من الحصانة الداخلية من التأثر بالظروف السيئة المحيطة ؛ إذ إن الهزائم العسكرية والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية .. كل ذلك محدود الضرر ما لم يغير من المبادئ والقيم والنفوس والأخلاق والسلوك ، بل إنها تقوي روح المقاومة ، وتُكسب الخبرة ، وتكشف عن الأجزاء الرخوة في البناء الداخلي ، وتحطِّم هيبة العدو في النفوس .
إن المفهوم الأساسي للصبر والتقوى هنا هو : تهذيب الذات وتحسينها ، وتدعيمها ، والرقي بها ؛ وهذا التدعيم يأخذ أشكالاً كثيرة ، منها :
المزيد من الالتزام الصارم بالعبادات ، ومقاومة الشهوات ، والتعاون ، والمواساة والتضحية والإيثار .
معرفة الحدود والمتاح وغير المتاح تقلل من إمكانية الخطأ
إن الفرد المسلم لا يستطيع أن يبتعد مسافات كبيرة عن الوضعية العامة للمجتمع ، وذلك التباعد مرهق ومكلف ؛ فحين يكون كسب القوت الضروري لا يتأتى للسواد الأعظم من الناس إلا عن طرق محرمة أو ملتوية مثلاً فإن الذين سوف يستجيبون لنداء اللقمة الحلال سيكونون قلة ، وسوف تظل مبادئهم في حالة اختبار دائم ، وربما أدخلهم ذلك في مشكلات مع أقرب الناس إليهم .
نحن في حاجة حقيقة لمعرفة الحدود الفاصلة بين القريب والبعيد ، والصعب والسهل ، وما نستطيع تغييره ، وما لا نستطيع ، وما نملكه وما لا نملكه ... حتى نقلل من إمكانات الخطأ ، وحتى نقلل من النزاع والجدال العقيم ، كما أننا في حاجة إليه من أجل توفير الجهد والوقت ، فنحن حين نعرف الطرق المسدودة ، نمضي في الطريق المفتوح بثقة وطمأنينة ، وحين نعرف ما لا نستطيع فعله ، نُعرض عنه ، وحين ندرك ما لا نستطيع دفعه ، نسلِّم لله تعالى به ، ونحتسب فيه .

اصبروا فما بعد الضيق إلا الفرج :

أما الآية الثانية التي فيها شفاء للصدور ، قوله تعالى :

﴿ إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً ﴾

في هذه الآية خير عظيم ، إذ فيها البشارة لأهل الإيمان بأن للكرب نهاية مهما طال أمده ، وأن الظلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر .
في رحم كل ضائقة مفتاح حلها
وإن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب ، وإن في رحم كل ضائقة أجنة انفراجها ومفتاح حلها ، وإن لجميع ما نعانيه من أزمات حلولاً مناسبة إذا ما توفر لها عقل المهندس ومبضع الجراح وحرقة الوالدة .. وعلى الله قصد السبيل .
وقد بثت هذه الآية :

﴿ إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً ﴾

الأمل في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم حيث رأوا في تكرارها توكيداً لوعود الله عز وجل بتحسن الأحوال ، فقال ابن مسعود :
لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه .
وذكر بعض أهل اللغة أن ( العسر ) معرّف بأل ، و ( يسراً ) منكر ، وأن العرب إذا أعادت ذكر المعرفة كانت عين الأولى ، وإذا أعادت النكرة فكانت الثانية غير الأولى ، وخرجوا على هذا قول ابن عباس : لن يغلب عسر يسرين .
الابتعاد عن توجيه اللوم للخارج والشكوى الدائمة
وفي الآية إشارة بديعة إلى وجود الفرج في الشدة مع أن الفرج لا يزامن الشدة ، وإنما يعقبها ، وذلك لتطمين ذوي العسرة ، بقرب انجلاء الكرب .
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الاستبشار بهذه الآية حيث يرى المسلمون الكثير من صنوف الإحباطات والهزائم وألوان القهر والنكد ؛ مما أدى إلى سيادة روح التشاؤم واليأس ، وصار الكثيرون يشعرون بانقطاع الحيلة والاستسلام للظروف والمتغيرات .
وأفرز هذا الوضع مقولات يمكن أن نسميها بثقافة الطريق المسدود ! هذه الثقافة تتمثل بالشكوى الدائمة من كل شيء، من خذلان الأصدقاء ، ومن تآمر الأعداء ، من تركة الآباء والأجداد، ومن تصرفات الأبناء والأحفاد !
وهؤلاء الانهزاميون أصحاب ثقافة الطريق المسدود يوجهون النقد دائماً نحو الخارج ؛ فهم في ذات أنفسهم يتوهمون أنهم على ما يرام ، وغيرهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم ! وإذا رأوا من يتجه إلى الإصلاح أطفؤوا حماسته بالقول : لن يدعوك تعلم ، ولن يدعوك تربي ، ولن يدعوك تتفوق ... وكل ذلك يفضي إلى العطالة والبطالة .
ولعلنا نلخص الأسباب الدافعة إلى تلك الحالة البائسة فيما يلي :

1. التربية الخاطئة التي يخضع لها الفرد :

وتلك التربية قد تقوم ببث روح التشاؤم واليأس من صلاح الزمان وأهله ، كما تقوم ببث نوع من العداء بينه وبين االمجتمع االذي ينتمي إليه ، عندها يقطع انتماءه له ، وصلته به ، وينعزل عنه شعورياً وينتمي إلى أسرته ، أو جماعته ، وبعدها يصبح عضواَ سلبياً مشلولاً .

2. التعامل مع الواقع على أنه لا يتغير :

يميل أكثر الناس إلى النظرة التبسيطية التي لا ترى لكل ظاهرة إلا سبباً واحداً ، ولا ترى في تركيبها إلا عنصراً واحداً . وهذه النظرة الخاطئة تفضي إلى معضلة منهجية كبرى ، هي عدم القدرة على تقسيم المشكلة موضع المعاناة إلى عناصر رئيسية وأخرى ثانوية ، كما تؤدي إلى عدم القدرة على إدراك علاقات السيطرة في الظاهرة الواحدة ، وعدم القدرة بالتالي على تغييرها أو تبديل مواقعها .
والنتيجة النهائية هي الوقوف مشدوهين أمام مشكلة متكلسة مستبهمة لا نرى لها بداية ولا نهاية ، والمحصلة النهائية هي الاستسلام للضغوط وانتظار المفاجآت ، مع أننا لو باشرنا العمل الممكن اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكنا غداً .

3. عدم الانتباه للعوامل الداخلية للمشكلة :

والذي يحدث أننا كثيراً ما نبصر المؤثرات الخارجية ، وهي مؤثرات قاهرة حقاً ، ونغض الطرف عن العوامل الداخلية ؛ فنحن مثلاً لا نملك إقناع الأعداء بأن يخففوا من غلوائهم في عدائنا ، لكن الذي نستطيعه هو تقوية أنفسنا حتى لا نكون لقمة سائغة لهم . لكن المشكلة أن أصعب أنواع المواجهات هي مواجهة الذات ، وأن أرقى أنواع الاكتشاف هي اكتشاف الذات !

4. عدم أدراك سنة الله في قوله تعالى : وتلك الأيام نداولها بين الناس .

تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار ، وما بعد رأس القمة إلا السفح وما بعد السفح إلا القاع . وإن دفع أية قضية إلى حدودها القصوى ، سيؤدي في النهاية إلى كسر ثورتها ، أو إنهائها بصورة تامة . نزلت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظن أنها لا تفرج .

من نصر الله وأخذ بأمره كان من الفائزين :

أما الآية الثالثة التي هي شفاء للصدور فهي قوله تعالى :

﴿ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ ﴾

تسلط الآية الكريمة الضوء على قضية مهمة في حياتنا ، هي قضية الكم والنوع ، وعلى العلاقة بينهما ؛ ففي القرآن الكريم :
حين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند

﴿ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾

هذا هو الكم ، فأراد أن يعرف نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم فمنعهم من الشرب من النهر ، فشرب منه السواد الأعظم منهم ، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمئة مقاتلً وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع نوعيتهم ،

﴿ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين﴾

َ
وهذا هو النوع هذه الفئة القليلة هي الغالبة لأنها استحقت تأييد الله ونصره ؛ لأنها نصرت أمره ، ونصرت دينه ، وختمت الآية :

﴿ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾

إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى بالصبر الضروري لمجالدة العدو.
إن للنوع شأناً وأي شأن في أوقات الأزمات عامة ، ومصارعة الأعداء خاصة ؛ حتى إن الرجل ليغالب العشرة من الرجال .

﴿ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ ﴾

[ سورة الأنفال الآية : 65 ]

وهذه الدنيا دار ابتلاء ، لأن بني البشر محاطون بكل ما من شأنه أن يكون ابتلاءً لهم ، وكل ما نتركه على حالته الطبيعية فهو كم يتحدى ، ويضايق ، وقد يشوه ، ويقتل ! ! ثم إننا نمتلك من القدرة والحرية بمقدار ما نحوله من كم إلى نوع .
امتلاك النوع هو وجود أشخاص موهوبين مؤهلين
وعلى صعيد النوع فإن باحثاً واحداً يعد مرجعاً في فرع من فروع المعرفة أجدى في التقدم العلمي من ألوف المتعلمين المحدودين ، وإن شخصاً موهوباً مؤهلاً واحداً أنفع من مئات الأشخاص الذين يحتاجون إلى من يصرف أمورهم ..
وفي قضايا الفكر والرأي والالتزام قد ننظر للكم تارة ، وقد ننظر للنوع تارة أخرى ؛ فإذا كان الحق الذي نتبعه قطعياً أي ليس متعلقاً بالاجتهاد فإن الكم مهدور حينئذ ، وهذا معنى قول بعض السلف : الجماعة أن تكون على الحق ، ولو كنت وحدك ، وحين يكون الحق اجتهادياً فإن الكم حينئذ معتبر ، ومن هنا نشأت أهمية كلمة الجمهور عند الفقهاء وغيرهم .
إن أمتنا اليوم لا تعاني من نقص في الكم على أي صعيد من الصعد ، لكنها تعاني من نقص شديد في النوع ؛ فنحن اليوم ربع العالم ، مليار ونصف ، وأراضينا واسعة شاسعة ، وخيراتنا كثيرة وفيرة ، لكننا ـ والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ـ إلى جانب هذا في حالة معيشية مأساوية أعني العالم الإسلامي بأكمله على أكثر الأصعدة ، فأكثر بلدان العالم الإسلامي مصنفة مع البلدان الفقيرة ، وكثير من شعوبنا يعيش تحت مستوى الفقر ! وأعلى نسبة للأمية موجودة عندنا ! أما الوزن الدولي فنحن جميعاً على الهامش موزعون ما بين شرق أوسط وأقصى وأدنى ، أي أننا نُصنف باستمرار تبعاً لموقعنا في المركز ! !

أمور ومرتكزات لنهوض بالأمة :

ومع أن الوحدة ظلت المحور الذي يجذب مشاعرنا وثقافتنا ، إلا أن حالتنا الراهنة تتجه باستمرار إلى مزيد من التمزق والتفكك ، مع أن العالم من حولنا يسير إلى التوحد والاندماج ! أما حقوقنا وكرامتنا وأراضينا فوضعنا ووضع العالم منها يلخصه المثل العربي القديم : أوسعتهم سباً وأودوا بالإبل !!
إن وضعنا الحالي قد جاءت به الإنذارات في نصوص كثيرة منها : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودققوا في قوله :

(( يوشكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعَى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها ، فقال قائل : من قِلَّة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنَّكم غُثاء كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صدور عدوِّكم المهابةَ منكم ، وليقذفنَّ في قُلُوبكم الوَهْنَ ، قيل : وما الوْهنُ يا رسول الله ؟ قال : حُبُّ الدُّنيا ، وكراهيَةُ الموتِ ))

[ أخرجه أبو داود ]

تشبيه الأمة بالغثاء يدل على خفة الوزن وعدم الترابط
وللغثاء سمتان أساسيتان : خفة الوزن وعدم الترابط ، ويترتب عليهما نتيجة مخيفة ، هي فقد الاتجاه الحر ، فالغثاء يساق دائماً إلى حيث يريد ، وإلى حيث لا يريد ؛ وفي موازين عديدة يعد فقد الاتجاه فقداً للوجود ذاته ! !
كيف نحول الكم إلى نوع ؟
نحن في حركتنا اليومية يجب أن نقوم باستمرار بتحويل الكم إلى نوع ، فالكم عبء ثقيل وعقبة كأداء في طريق نجاحنا ؛ فالأمي والجائع والمريض والمنحرف والفوضوي والكسول ، كل أولئك يشدون الأمة بعنف نحو الوراء ، ويقفون في وجهها ، وهي تخطو نحو الخلاص هؤلاء غثاء كغثاء السيل ، وهم نقاط ضعف في جسم الأمة ونقاط ارتكاز ورؤوس جسور للمتربصين بها الدوائر ! !
ويكون السؤال حينئذ : كيف نحد من نسبة هؤلاء لتكون قريبة من الطبيعية ؟ هناك محاور أربعة أحسبها منطلقات مهمة في هذه السبيل :
أن نشيع في الأمة روح التوحد على الأصول والحق القطعي أي الثوابت ، وأن نشيع إلى جانب ذلك روح التسامح في الفروع والحق الاجتهادي أي المتغيرات ، ونضرب للناس الأمثلة العملية التي تنير لهم السبيل .
أن نوسع في تربيتنا وحياتنا اليومية مفهومات العبادة لتشمل كل مجالات النفع العام ، كالأخذ بيد أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم وإمكاناتهم عن أن يعيشوا حياة كريمة طبيعية كما ورد في بعض الأحاديث :

(( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار ))

تأصيل روح الإخلاص والعطاء في العمل الجماعي
وذلك بغية التخفيف من المعاناة التي يكابدها كثيرون من أفراد الأمة ، رعاية النابهين وإعطاؤهم ما يستحقونه من الاهتمام والمتابعة والبذل ، والنابهون هم أولئك الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى من الإمكانات ما جعلهم محاور يدور في فلكهم الآخرون ، والنابه قد يكون طالباً عبقرياً ، وقد يكون وجيهاً يأتمر بأمره كثيرون ، وقد يكون واحداً من ذوي رؤوس الأموال الطائلة ، وقد يكون ويكون ...، وهذا من باب إنزال الناس منازلهم .
إقامة المؤسسات الكبرى على مختلف الصعد ، وتلك المؤسسات تؤصل فينا روح فريق العمل ، كما توفر الأطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين يملكون روح الإخلاص والعطاء .
إن المؤسسات تمثل مهمة المحرك للسفينة تارة ومهمة المراسي تارة أخرى، أي: تؤمن حركة راشدة متزنة .
وإذا ما فعلنا ذلك أو بعضه نكون قد ساعدنا الأمة في الخروج من نفق الغثائية الكمية المظلم ، ودفعناها نحو امتلاك أهلية قيادة العالم وهدايته . وعلى الله قصد السبيل .
أيها الإخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

***

الخطبة الثانية :

التقنين الإلهي :

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من الثابت أن التقنين الإلهي هو تقنينُ تأديبٍ وتربية ، لا تقنين عجز وضعف ، قال تعالى :

﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾

[ سورة الشورى الآية : 27 ]

وقال سبحانه:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ، وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾

[ سورة الحِجْر الآية :21 ]

لا يسوق الله لعبادة شدة إلا بما كسبت أيديهم
ثم إن الله جل وعلا لا يسوق لعباده شِدَّة إلا بما كسبت أيديهم ، ويعفو عن كثير ، قال عز وجل :

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء الآية : 147 ]

وقال عزَّ مِن قائلٍ :

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[ سورة الشورى الآية : 30 ]

روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال َ:

(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ـ عدد المصابين بمرض الإيدز في العالم سبع وستون مليوناً ـ وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ))

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور