وضع داكن
28-03-2024
Logo
الصيام - الدرس : 02 - تعريف الصيام ، شروطه ، أركانه ، مفطراته .
  • الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
  • /
  • ٠2الصيام
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

تعريف الصوم :

 أيها الأخوة الأكارم ، مهدنا في الدرس الماضي لموضوع الصوم ، و اليوم نتحدث عن بعض أحكامه .
 أولاً : تعريف الصوم هو الإمساك نهاراً عن إدخال شيء عمداً أو خطأ ، بطناً أو ما له حكم البطن ، و عن شهوة الفرج بنية من أهله

هذا تعريف من نوع جامع مانع ، الإمساك أي ترك الطعام و الشراب ، نهاراً : لأن الطعام و الشراب في الليل مباح ، عن إدخال شيء عمداً أو خطأً : من تمضمض و بالغ في المضمضة و دخل شيء من الماء إلى جوفه فقد أفطر و عليه أن يبقي نفسه صائماً ، و أن يعيد صيام هذا اليوم عمداً أو خطأً ، بطناً ، و الإمساك عن شهوة الفرج بنية : لولا النية - النية تفرق العبادة عن العادة - لولا النية لاختلط الأمر بين العبادات و العادات ، من أهله : المرأة النفساء ليست أهلاً للصيام و كذلك الحائض ، و سبب وجوبه شهود جزء منه ، لو الإنسان أسلم بخمسة عشر من رمضان عليه أن يصوم الأسبوعين المتبقيين و سبب وجوبه شهود جزء منه ، و كل يوم منه سبب لوجوب أدائه ، كل يوم من أيام هذا الشهر الكريم سبب لأدائه ، و هو فرض أي الصيام أداءً و قضاءً ، أي إذا كانت المرأة تقضي بعض أيام رمضان في أشهر السنة لا يستطيع زوجها أن يأمرها بالإفطار هذا فرض ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، يقول لها : هذا ليس رمضان هي تقضي ما فاتها من رمضان ، و هو فرض أداءً و قضاءً على من اجتمع فيه أربعة أشياء :
 أولها الإسلام ، و ثانيها العقل ، و ثالثها البلوغ ، و رابعها العلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب ، كيف؟ أي في أثناء المعارك أو في أثناء الحرب دخل أحد الكفار في الإسلام ، و قد شهد أنه لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله لكنه ، و هو في زحمة المعركة لم يبلغ أنه لا بد من صيام رمضان ، فالعلم بوجوب الصيام أحد الشروط التي يجب أن تتوافر في الصائم ، الإسلام و العقل و البلوغ و العلم بالوجوب لمن أسلم بدار الحرب ، أما من كان في ديار الإسلام فلا يقبل منه الجهل ، ليس من المعقول إنسان في بلد إسلامي و يأتي رمضان و يقول لك : لا أعلم أن هناك صياماً هذا مرفوض ، لكنه إذا أسلم بدار الحرب كان العلم بالوجوب أحد الشروط اللازمة للصيام ، أما المقيم في دار الإسلام فهذا لا يعتد به .

شروط الصيام :

 و يشترط لوجوب أدائه الصحة من مرض و حيض و نفاس ، و الإقامة أي أن يكون مقيماً و ليس مسافراً ، فالمسافر قال تعالى :

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

[ سورة البقرة : 27]

 و يشترط لصحة أدائه ثلاثة : النية لابد من النية - كما قلنا قبل قليل - النية تميز العبادة عن العادة ، و الخلو عما ينافيه من حيض و نفاس و عما يفسده ، و لا يشترط الخلو عن الجنابة أي من أصبح صائماً و كان في الليلة جنباً فصيامه صحيح يغتسل و يتابعه ، و ركنه : الكف عن قضاء شهوتي البطن و الفرج و ما ألحق بهما ، و حكمه : سقوط الواجب عن الذمة و الصواب في الآخرة و الله أعلم ، الصيام فرض إذاً لابد من أدائه ، حكمه أنك إذا صمت سقط عنك هذا الفرض و لك في الآخرة ثواب ، و هناك أهداف أخرى بيّنها القرآن الكريم و الله أعلم .
 يتضح لكم أن هذه المعلومات أساسية و واضحة لكن إذا أردنا أن نقف عند بعضها الذي نحن بحاجة إليه ، أولاً : من أفطر مخطئاً عليه أن يعيد اليوم ، بالغ في المضمضة و الوضوء إلا أن تكون صائماً ، فإن كنت صائماً و بالغت في المضمضة و دخل شيء من الماء في جوفك عليك أن تعيد صيام هذا اليوم ، و أن تمسك بقية النهار هذا حكم ، هذا معنى خطأً ، طبعاً عمداً معروف ، إفطار قطعي ، النية أساسية في الصيام ، الأهلية أساسية في الصيام ، خلو الإنسان من مرض أو حيض أو نفاس أو سفر ، أي أدرك المؤمن من هذا الشهر يوماً عليه أن يصوم بقية الشهر ، كل يوم سبب لأدائه ، لا جهل في دار الإسلام إن كنت مقيماً بين المسلمين لا يعتد بالجهل ، لكنك إن كنت مقيماً في دار حرب و حديث عهد بالإسلام علمك بوجوب صيام هذا الشهر شرط أساسي من شروطه .
 الجنابة لا تفسد الصيام ، و الدرس القادم إن شاء الله نتابع فيه أنواع الصيام الستة؛ فرض و واجب و مسنون و مندوب و نفل و مكروه .
 أما النية فهي من عمل القلب لكن بعض الفقهاء شدد في اللفظ و بعضهم قال : نية القلب تكفي .

* * *

الطهارة :

 من الفصول المختارة من إحياء علوم الدين كتاب الطهارة و قال المؤلف رحمه الله و رضي عنه : اعلم أن الطهارة لها أربع مراتب ، الأولى : تطهير الظاهر من الأحداث و الأنجاس و الفضلات ، الأحداث هناك حدث أصغر و حدث أكبر ، و الأنجاس العينية ، و الفضلات كحلق شعر الإبط و ما شاكل ذلك ، و قص الأظافر ، فجمعت في هذه الكلمات الثلاث تطهير الظاهر من الأحداث و الأنجاس و الفضلات ، و الثانية : تطهير الجوارح من الذنوب و الآثام ، و الثالثة : تطهير القلب من الأخلاق المذمومة و الرذائل الممقوتة ، و الرابعة : تطهير السر عما سوى الله عز وجل - أربعة مراتب - و هذه هي الغاية القصوى ، قال : فمن قويت بصيرته سمت إلى هذا المطلب - الرتبة - سريرته ، و من عميت بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى ، هذه ظاهرة تجد مسلمين كثيرين لا يعنون إلا بطهارة الظاهر بل إنهم يصابون بأمراض نفسية اسمها الوساوس المتسلطة ، كم من قضية رفعت إليّ من أن إنساناً أصيب بأمراض من هذا النوع أصبحت حياته جحيماً لا تطاق ، يتوضأ و يعيد الوضوء و يدخل دورة المياه و يخرج و يشك في نوع طهارته فيدخل ثانية و يخرج ، يتحرى مصلاه إن داس عليه طفل صغير يعيد الصلاة ، هذه أمراض نفسية أي مثل هذا الإنسان يعالج في مصحات ، فالإنسان عندما ينسى مراتب الطهارة و يكتفي بالمرتبة الأولى و هو تطهير الظاهر من الأحداث و الأنجاس و الفضلات فقد غفل عن حقيقة الطهارة لماذا ؟ لأن الإسلام بني على النظافة ، النظافة أي إياكم أن تظنوا النظافة المادية فقط ، كنت قد ضربت لكم مثلاً : قلت من قبل أن إنساناً يعمل في مصلحة فيها زيت و شحم و أشياء تلوث الثياب - مكنسيان مثلاً - و مرتدياً أفرول كما يسمونه أصله أزرق صار أسود اللون من الشحم و الزيت و الفحم و الوحل ، و انبطح تحت سيارة ليفك بعض أجزائها ، و أتقن عمله ، و أخذ أجراً معتدلاً ، فهذا العمل في الإسلام نظيف إلى أقصى الحدود ، وقد تقبع في غرفة مؤسسة بأفخر الأثاث ، و فيها أجمل المفروشات ، و هي مكيفة ، و فيها كل وسائل الراحة ، فإذا كان هذا العمل مبنياً على إيذاء الناس في هذه الغرفة فهذا عمل قذر ، فالنظافة إذا أطلقت إياكم 

أن تظنوا أنها تنصرف إلى النظافة المادية

ذاك العمل نظيف ، و النبي عليه الصلاة و السلام أثنى على من يعمل بيده و هو من الكسب الحلال ، وسيدنا عمر يقول : " إني أرى الرجل لا عمل له فيسقط من عيني " ، و الإمام علي كرم الله وجهه يقول : " قيمة الرجل ما يحسنه " ، إن كان يحسن عملاً فله عند الله قيمة لأنه عنصر معطاء ، فالنظافة المقصود بها هي الطهارة الداخلية ، فالكذاب قذر ، المخادع قذر ، النمام قذر ، المتكبر قذر ، الذي يحتقر الناس قذر ، و هناك أعمال قذرة مبنية على إيقاع الأذى بالناس ، على أخذ أموالهم ، على إيقاع الرعب فيهم ، هذه أعمال كلها قذرة ، و الأعمال التي يحتاج فيها الإنسان إلى ثياب خاصة هذه الأعمال هي عند الله نظيفة ، و عند الناس نظيفة ، و أنعم بها من أعمال، فبني الإسلام على النظافة ، يجوز إنسان يذهب إلى أوربا يجد هناك مظاهر نظافة من أعلى مستوى ، لكن لو عاشرهم و أقام بينهم لرأى من قذارتهم ما لا يوصف ، من تفسخهم الاجتماعي ، من انحلالهم الخلقي ، من اختلاط الأنساب عندهم ، أي كيف تقبل أيها الإنسان أن إحصائية أجريت في أمريكا قبل أشهر عن بعض العلاقات المحرمة بين الأقارب فوجد أن ثلاثين في المئة من النساء هناك يمارسن علاقات محرمة مع محارمهن كالآباء و الأخوات ، ما تفسير ذلك ؟ هؤلاء ليسوا بناتهن ، و هؤلاء ليسوا أخواتهن بسبب اختلاط الأنساب ، لا يوجد عندهم عدة ، و لا هذا التشريع الحكيم الذي جاء به النبي الكريم ، فيظن أن هذه أخته هي ليست أخته ، يُظن أن هذه ابنته و هي ليست ابنته ، فهذه هي القذارة الحقيقية ؛ التفسخ ، و الانحلال ، و اللؤم ، و كسب المال الحرام ، و الكذب ، و الغش ، و النميمة ، هذا كله يسبب قذارة النفس ، فمن قويت بصيرته سمت إلى هذه الأهداف همته ، و من عميت بصيرته لم يفهم من مراتب الطهارة إلا المرتبة الأولى فتراه يضيع أكثر زمانه الشريف في المبالغة في الاستنجاء و غسل الثياب ، انظر المؤلف قال : زمانه الشريف ، أي أنت هذا العصر الذي تعيشه و هذا العمر الذي تستهلكه هو ثمين جداً ، أي كل دقيقة أحياناً يقول لك : هذه المركبة الفضائية كلفت كل دقيقة منها ثلاثة عشر مليون دولار مثلاً ، ما معنى ذلك ؟ أي هذه المركبة الفضائية بذل من أجل إطلاقها إلى القمر علم الأرض كله ، أي جميع العلوم ؛ الرياضيات ، الفلك ، الفيزياء ، الكيمياء ، كل هذه العلوم تضافرت و ساهمت في هذه المركبة الفضائية ، أحصيت نفقاتها فإذا هي رقم كبير كبير ، قسم هذا المبلغ الكبير على أيام بقائها في الفضاء ، و على ساعات بقائها ، و على دقائق بقائها ، فقيل : إن الدقيقة الواحدة كلفت ثلاثة عشر مليون دولار .

العمر ثمين جداً :

 هل تصدق أيها الأخ الكريم أن الثانية الواحدة من حياتك تكلف ألوف ألوف الملايين من أجل أن تشرب هذا الكأس من الماء ، لابد من الشمس ، لا بد من السحاب ، لابد من البحار من أجل أن تأكل ، هذه المناخات المتقلبة من حر و قر و أمطار وثلوج و غيم و شمس ساطعة و شمس محجوبة ، هذه كلها تسهم في صنع الطعام و الشراب ، في صنع الخضراوات و المحاصيل و الفاكهة ، فأنت مثلاً قلبك من أجل تركيب دسام في القلب صناعي اسمع العمليات تقدر بمئتي ألف ، بثلاثمئة ألف ، تركيب كلية كلف ثمانمئة ألف ليرة ، زرع كلية مأخوذة لإنسان ، فالإنسان عندما تكون أجهزته سليمة مادام زرع كلية يكلف ثمانمئة ألف، و عملية بالقلب ثلاثمئة ألف ، ووضع دسام صناعي بأربعمئة ألف ، معنى ذلك أن الإنسان يكلف في كل ثانية ألوف الملايين ، و معنى هذا أن العمر ثمين جداً ، فمن استهلك هذا العمر في سفاسف الأمور ، في اللهو و الباطل ، و أهداف غير صحيحة ، و في طرق مسدودة ، و أعمال لا طائل منها ، في لعب و تفاخر بالأموال و الأولاد ، فهو من أخسر الناس ، لأن ساعة اللقاء لا يندم فيها المرء إلا على ساعة مرت في الدنيا لم يذكر الله فيها ، فالإنسان يدقق في وقته كيف يصرفه ؟ أي ما مضى فات ، و المؤمل غيب ، و لك الساعة التي أنت فيها ، ما مضى صليت أم لم تصلِّ ، صمت أم لم تصم ، فكرت أم لم تفكر ، أحسنت أم أسأت ، ما مضى مضى و انتهى أمره ، و التفكير فيه مضيعة للوقت ، و المؤمل غيب ، سأفعل هذا بعد غد ، في نهاية الشتاء سوف أتوب ، في مطلع العام الدراسي سوف أتوب ، بعد أن أنجز هذا العمل سوف أتوب ، و المؤمل غيب ، و لك الساعة التي أنت فيها ، لا تملك إلا هذه الساعة ، فإذا عرفت الله عز وجل قم و بادر إلى طاعته قبل ألا تدري ما سيكون ، إذاً فتراه يضيع أكثر زمانه الشريف في المبالغة في الاستنجاء و غسل الثياب ظناً منه بحكم الوسوسة ، و قلة العلم أن الطهارة المطلوبة هي هذه فقط طهارة الثياب ، و جهلاً بسير المتقدمين الذين كانوا يستغرقون الزمان في تطهير القلوب ، ممكن أن تجد مسلماً نظيفاً و لكن عنده حقد ، عنده استعلاء ، عنده حسد ، ليس معقولاً ، ما قيمة هذه النظافة الظاهرة؟ لابد من تطهير القلب ، لذلك سيدنا عمر قال : " تعاهد قلبك " ، يجب أن تراقب قلبك ماذا يُكِن للناس ؟ هل يكن لهم المحبة أم الحقد ؟ ماذا يكن ؟ قال تعالى :

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء : 88-89 ]

عملية الطهور في كل المراتب تعد شطر الإيمان :

 و قد انتهى الأمر إلى قوم يسمون الرعونة نظافة ، فترى أكثر زمانهم يمضي في تزيين الظواهر و بواطنهم خراب محشوة بخبائط الكبر ، و العظم ، و الجهل ، و الرياء ، و النفاق ، و لو رأوا النظافة مقتصرة على الاستجمار على الحجر أي رأوا النظافة مقتصرة على أمور التطهير المادية ، و هذا لا ينبغي أن يكون في هذا الفهم القاصر .
في الحديث عن النبي عليه الصلاة و السلام يقول :

(( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ ))

[مسلم عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ]

 فسر بعضهم هذا الحديث أن كل مراتب النظافة هذه ؛ مرتبة الجوارح ، و مرتبة تطهير الجوارح من الذنوب ، تطهير القلب من الأخلاق المذمومة ، تطهير السر عما سوى الله ، الطهور شطر هذه المراتب ، أي هذا القلب هذا السر من أجل أن يكون الله فيه ، ماذا ينبغي أن تفعل أولاً ؟ أن تطهره عما سوى الله ، فعملية التطهير نصف الإيمان ، و هذه الجوارح من أجل أن تكون قائمة بأمر الله ، ماذا ينبغي أن تفعل ؟ ينبغي أن تطهرها عن الذنوب و الآثام ، هذا القلب الذي هو موضع الأخلاق المذمومة كيف تحليه بالأخلاق الحميدة؟ لابد من تطهيره من هذه المذمومة ، إذاً عملية الطهور في كل المراتب تعد شطر الإيمان ، أي نصف الإيمان بالذات .

 

الإسلام نظيف ظاهراً و باطناً :

 و هناك حديث آخر يقول عليه الصلاة و السلام :

(( مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ ))

[الترمذي عَنْ عَلِيٍّ]

 طبعاً الحديث يؤخذ على ظاهره ، لابد من الطهارة ، و الطهارة أحد شروط الصلاة ، و لكن لا ينبغي أن يقتصر الفهم على هذا المعنى ، مفتاح الصلاة الطهور بمعنى من كان غاشاً للمسلمين ، من كان مستغيباً لهم ، من كان ناماً فيما بينهم ، من نظر إلى عوراتهم ، من غشهم في بيعهم و شرائهم ، لا يستطيع أن يصلي ، و بعضهم حمل قوله تعالى :

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾

[سورة الأعراف : 31]

 بعضهم حمل قوله تعالى هذا على أن الزينة العمل الصالح ، البس أجمل الثياب و تعطر و تزين و هذا شكل الآية ، المعنى الآخر في الآية : لابد من عمل صالح تقدمه بين يديك في أثناء الصلاة ، فلو أغثت ملهوفاً ، أعنت فقيراً ، تصدقت ، عدت مريضاً ، أجبت سائلاً ، ثم ذهبت لتصلي فإن هذا العمل الذي قدمته يعينك على الاتصال بالله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾

[ سورة الكهف : 110]

 على كلٍّ كل هذه المعاني التي ذكرناها لا تنفي المعاني الظاهرة للنظافة ، الإسلام نظيف ظاهراً و باطناً ، و إن رأيت إنساناً نظيفاً ظاهراً فادعه إلى نظافة الباطن لأن الأولى لا تكفي .

* * *

المساجد و الأسواق :

 و الآن إلى بعض الأحاديث الشريفة يقول عليه الصلاة و السلام :

(( . . . . خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ ، وَأَنَّ شَرَّ الْبِقَاعِ الأَسْوَاقُ ))

[الحاكم عن ابن عمر]

كلمة خير اسم تفضيل بمعنى أخير لكن لكثرة استعمالها اختصرت و أصبحت خير، فأنت في المسجد يطهر قلبك ، و تسمو نفسك ، و تشحذ عزيمتك ، و يلين قلبك ، و تنعقد توبتك ، و تطمح إلى أن تكون من أهل الجنة ، و تحس بالصفاء ، و يبعد عنك الانقباض و الضيق ، و هكذا قال بعض الصحابة : " نكون مع رسول الله و نحن و الجنة كهاتين فإذا عافسنا الأهل و الأولاد ننسى "، هذه الحال تذهب عنا ، لكن في الأسواق هذه الحاجة جميلة لا تملك ثمنها إن اشتريتها ديناً أصابك ذل الدين ، و إن امتنعت عنها شعرت بالحرمان ، و إن كان في الطريق فهناك نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات تلعنهن لأنهن ملعونات ، الإنسان تغيرت وجهته ، فالنبي الكريم قال :

(( . . . . خَيْرَ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ ، وَأَنَّ شَرَّ الْبِقَاعِ الأَسْوَاقُ ))

[الحاكم عن ابن عمر]

 إن لم تكن لك حاجة ماسة بالسوق لا تذهب إليه ، لأن السوق كما قلنا : موطن الفتنة ، إما فتنة في الحاجات أو فتنة فيمن حول الحاجات ، إياكم و فضول النظر فإنه يوقع في النفس الهوى ، حتى الحاجات التي لست بحاجة إليها لا تتأمل فيها كثيراً فقد تبذل في نفسك الهوى، هناك شيء آخر النبي الكريم كان إذا وقع بصره على شيء من زينة الدنيا يقول :

(( اللهم لا عيْشَ إِلا عَيْشُ الآخِرَةِ . . . ))

[ البخاري عن أنس بن مالك ]

 هذا الدعاء يذكرك بالآخرة و ما فيها من نعيم مقيم ، و كيف أن أهل الجنة في الجنة ينعمون إلى أبد الآبدين ، فكلما لاحت لك زينة الدنيا تذكر الآخرة و ما فيها من سعادة عظمى .

 

خير الأعمال و الأصحاب عند الله :

 و يقول عليه الصلاة و السلام :

((خير الأعمال الصلاة في أول وقتها))

[عن عثمان بن عمر وهو صحيح على شرط الشيخين]

 يبدو أن الصلاة في أول وقتها تسعد صاحبها ، ومن أخّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره ، أي لا ينعم بالوقت ، إذا الإنسان صلى الظهر بوقته ، والعشاء بوقته ، يستريح فإذا أصابه النعاس نام فوراً ، فإذا أخّر العشاء وأصابه النعاس ولم يكن قد صلى فالصلاة أصبحت عبئاً عليه ثقيلاً ، فخير الأعمال الصلاة في أول وقتها ، و خير الأصحاب صاحب إذا ذكرت الله أعانك ، و إذا نسيت ذكرك ، إذا ذكرت الله أعانك فزادك قال لك : و الله إنه شيء جميل ، أكمل حدثنا ، أي شجعك على الحديث ، كنت معه بنزهة أو بسفر هذا الوقت الثمين أمضيتموه في معرفة الله ، إذا ذكرت الله أعانك هذه نصيحة لوجه الله ، إن حدثت صديقاً عن الله و قال لك : هذا الموضوع دعنا منه الآن ، لا تصاحبه ، هذا قد يسبب لك ضياعاً وفساداً ، إذا قال لك : دعنا من هذا الموضوع مازال باكراً علينا ، من مات و رأى ماذا يوجد بعد الموت ؟ الله كريم ، غداً نحج و نتوب ، هذه الأقوال إن قيلت فهذا الصاحب لا ينبغي أن تصاحبه .
 و عض عليه بالنواجذ بمعنى الزم صحبته ، و يقول عليه الصلاة و السلام :

(( خَيْرُ الأصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ))

[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

 أي صاحبان هذا قدم لهذا خدمة كبيرة ، هذا عند الله خير من هذا ، الأكثر نفعاً هو الأفضل عند الله عز وجل ، أي يوجد أصحاب يبني صحبته على ابتزاز صديقه ، أي إذا تناولوا الطعام بمطعم يحب أن يدفع عنه ، حيث يتأخر بالدفع قليلاً حتى يدفع عنه ، إن ركبوا سيارة و ذلك أخرج بطاقة ليضعها يبقى ساكتاً ، فمادام الإنسان بهذه الصحبة يبتغي أن يستفيد من صاحبه فهذا أسوأ الأصحاب ، أما خيرهم عند الله من بادر بإكرام صاحبه حيث :

(( خَيْرُ الأصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ))

[الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو]

التوحيد يسعد النفوس :

 و قال عليه السلام :

(( خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))

[ الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ]

أي خير قول يقوله الإنسان : لا إله إلا الله هذه كلمة التوحيد ، و ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، و بالتوحيد تصفو القلوب ، الآن كل مشاكل الناس من الشرك ، بالشرك يوجد خوف و يأس ، مع الشرك يوجد قنوت ، لكن مع التوحيد يوجد بشرى و أمل و طمأنينة و راحة و سعادة و استغناء ، إذا رأيت أن أمورك بيد فلان و فلان لئيم فهذا أكبر الشقاء أي أن ترى أمورك بيد فلان ، و فلان لا يعرف الله عز وجل ، لكنك إذا رأيت الأمر كله بيد الله وأنك عبد لله وأنك إذا أطعته أراحك من عناء الدنيا ، و حماك من شرار خلقه ، هذا هو التوحيد ، و بالتوحيد تسعد النفوس :

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا  فإن منحنا بالرضا من أحـبنا
لذ بحمانا و احتم بــجنابنا  لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
***

 طبعاً الحياة مخيفة ، الأخطار من كل جانب ، يكفي إنسان يركب سيارته و يكون نظامياً و إذا برجل نائم يدخل به و يقول لك : ابنه توفي و خمسة كسور متحركة ، أي احتمال الشر قائم في الحياة ، أما إن كنت مع الله عز وجل فيحفظك من مثل هذه المصائب .

((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))

[ الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ]

التوكل على الله و الاستسلام له يدخل السعادة على قلب الإنسان :

 خير الدعاء الاستغفار ، الاستغفار هذه الوجهة إلى الله عز وجل التي تطهر النفس من ذنوبها ، و الذنوب الأعمال أو الشهوات التي علقت بها ، فإذا جاء النور الإلهي طهرها من هذه الذنوب و نقاها من هذه الأدران .

(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي ))

[أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ]

 أي لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ، أحياناً الإنسان تسمعون ببعض القراءات في المساجد أن الناس في نهاية الآية يصرخون بأعلى أصواتهم : الله ، لو خشع قلبهم لخشعت أصواتهم ، لو خشعوا لبكوا ، أما هذا الصياح على طرب فهذا صياح الطرب لا صياح الخشوع ، خير الذكر الخفي و خير الرزق ما يكفي ، أي : اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً، النبي الكريم تمنى لأحبابه أن تكون أرزاقهم كافية لهم من دون إسراف و لا مخيلة و لا تبذير و لا بذخ و لا كبر و لا فخر و لا خيلاء و لا استعلاء .
 خير الزاد التقوى و خير ما ألقي في القلب اليقين ، طبعاً إذا الإنسان هيأ بيتاً و هيأ له فرشاً جيداً و مرافق جيدة و وضع ببيت المؤونة - إن صحّ التعبير - كل ما لذّ و طاب و جاءه الموت ، هذا الزاد لا قيمة له ، لكن أعماله الصالحة إن كانت كثيرة فهي خير زاد له، إذا جاء ملك الموت فالنبي الكريم قال :

(( خير الزاد التقوى ))

[ الطبري عن عكرمة ]

 و قال :

(( خير ما ألقي في القلب اليقين ))

[ شعب الإيمان عن ابن مسعود]

 أي يقين هذا ؟ اليقين بلقاء الله ، اليقين بعدالة الله ، اليقين برحمة الله ، اليقين بأن ما في كتاب الله حق و سوف يقع ، اليقين بأن العاقبة للمتقين ، اليقين بأن أهل الباطل لابد خاسرون ، هذه الكلمات العظيمة من يومين قرأت في القرآن الكريم قوله تعالى :

﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ﴾

[ سورة الزخرف : 79]

 أي إذا أهل الدنيا أبرموا أمراً فالله عز وجل موجود ، أمره هو النافذ ، و الله سبحانه و تعالى يبرم أمراً ، أي الأمرين نافذ ؟ أمر الله عز وجل لو أبرم ، و لو أن هؤلاء الأجانب ائتمروا على هذه البلاد المستضعفة مثلاً ، أبرموا أمراً ، أما فإنا مبرمون ، و قال تعالى :

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾

[سورة يونس : 24]

 أمرنا لا أمرهم ، أجمل شعور للمؤمن يرى أن الله عز وجل ربه و إلهه رحيم سميع بصير غني ، فالتوكل عليه ، و التفضيل له ، و الاستسلام له ، شيء يدخل السعادة على قلب الإنسان .

 

أويس القرني :

 في موضوع هذه الأحاديث التي تبدأ بكلمة خير مرّ معي هذا الحديث :

(( نَادَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يَوْمَ صِفِّينَ : أَفِيكُمْ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مِنْ خَيْرِ التَّابِعِينَ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ ))

[أحمد عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى]

 من سنتين أو أكثر فيما أذكر حدثتكم عن قصته ، و قد رجاني بعضهم أن أعيد القصة لما فيها من دقة ، و من موعظة ، و قد استجبت لهذا الطلب ، و سأتلوه على مسامعكم و قد جاءت مناسبة لهذا الحديث خير التابعين أويس .
أذن مؤذن الحج فهرع الناس رجالاً :

﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾

[سورة الحج : 27]

 ينشدون البيت العتيق و الحرم الآمن المقدس الذي رفع قواعده إبراهيم و إسماعيل، و طافت به الملائكة ، و طهره النبي صلى الله عليه وسلم ، و فاضت رحاب مكة بالوافدين ، و تعطرت شعابها بأنفاس العابدين الركع الساجدين ، و دنت الأرض من السماء- تعبير لطيف - و التقى الصفاء بالصفاء ، و حان اليوم العظيم ، و تهيأت عرفات ، و خشعت القلوب ، و عنت الوجوه للحي القيوم ، فلا تسمع إلا هاتفاً بالدعاء ، و مسبحاً بالنجوى ، و متعطراً بالطاعة ، إنه يوم الإسلام الأكبر فلا رفث و لا فسوق و لا جدال ، و إنما إيمان و طهارة ، و ترفع عن الدنايا ، و تطلع إلى السماء ، و لكن ما بال عمر أمير المؤمنين وما خطب فارس قريش و عالمها علي بن أبي طالب ما بالهما ؟ و ما خطبهما ؟ إنهما يطوفان و يدوران بوفود العرب في تلطف و تطلع ، و يخصان حجيج اليمن برعاية واضحة ، و استقصاء شامل ، و عجب الناس لعمر و هو يقتحم قوافل اليمن سائلاً عن رجالهم ، متفرساً في وجوههم ، متسائلاً عن أسمائهم و أنسابهم ، و عجبوا أكبر العجب لعلي كرم الله وجهه في سمته و وقاره ، و هو يفحص ملامح اليمنيين ، و يستروح أنباءهم ، و يمازح فتيانهم كأنه ينشد ثأراً أو نسباً ، و نظر علي إلى عمر ، و ابتسما فكلاهما يعلم سر صاحبه و ما ينشدان ، و لقد ترقبوا مواسم الحجيج عشر سنوات فما عثروا على ضالتهما، و ما بلغا آمالهما ، لقد أسرّ النبي عليه الصلاة و السلام إليهما أمراً هاماً ، هما أحرص الناس عليه ، و لكن السنين مضت ، و العمر يتقدم ، و الأمنية الكبرى لم تتحقق ، إن كليهما ليذكر وجه محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الحبيب الأمين و هو يهتف بهما : يا عمر و يا علي إذا لقيتما أويساً القرني فاطلبا إليه أن يستغفر لكما فإنه مجاب الدعاء ، عشر سنوات في مواسم الحج يسألون ، يتفرسون ، يتأملون ، يتفحصون وقد أعيتهم الحيلة ، و إن صورة أويس لواضحة في قلبيهما ، لقد وصفه النبي عليه الصلاة و السلام فقال : " إنه أشهل ، ذو سهوبة ، بعيد ما بين المنكبين، معتدل القامة ، آدم ، يضرب بذقنه إلى بطنه ، واضع يمينه على شماله يتلو القرآن ، ذو طمرين من صوف ، مجهول في الأرض ، معروف في السماء ، يقال للعباد يوم القيامة : ادخلوا الجنة ، و يقال له : قف فيشفع بإذن ربه في عدد ربيعة و مضر " ، هكذا وصف النبي الكريم أويساً القرني .
 عشر سنوات و عمر و علي ينشدان في الحرم الأمين أويساً ، فقد أنبأهما النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بأنهما سيشاهدانه في مواسم الحج ، و من أصدق من النبي قيلة؟

 

الحوار الذي دار بين عمر و علي و بين أويس القرني :

 و جاء رجل إلى عمر لينبئه بأن قافلة جديدة صغيرة هبطت من اليمن فوثب عمر راكضاً يدفئ صدره الأمل ، و في غمار القافلة شاهد علياً قد سبقه ، قافلة جديدة من اليمن ، يتحدث إلى رجل ناصع الثوب و الوجه ، تبدو عليه سمات السيادة ، و سمع علياً يهتف به : ألم يبقَ أبداً في قافلتك - تفحصهم واحداً واحداً - غير من حدثتني بأمرهم ؟ فقال سيد هذه القبيلة : أجل يا بن عم رسول الله ، و لكن صبراً لقد أُنسيته ، إن في رحالنا فتى خامل الذكر، ممزق الثوب ، يرعى لنا و نؤجره دراهم معدودات ، و ما أظنك تنشد مثله ، فصرخ عمر إنه أشهل ذو سهوبة ، بعيد ما بين المنكبين ، معتدل القامة ، آدم ، يضرب بذقنه إلى صدره ، و عجب الأعرابي و نظر إلى عمر و هو لا يعرفه قائلاً : لقد وصفته أكمل ما يوصف به فهل رأيته ؟ و أضاء النور قلبي عمر و علي فقد عرفا أنهما على الأثر الصادق ، و استنطقا الأعرابي فأرشدهما إلى مكان أويس ، فانطلقا إليه يتسابقان ، و في صحراء مكة بالقرب من أبي قبيس شاهدا رجلاً يرعى إبلاً فسلما عليه ، ثم قالا له : من الرجل ؟ قال : راعي إبل و أجير قوم ، قالا : لسنا نسألك عن ذلك ، ما اسمك : قال : عبد الله ، الذي يريدانه أويس ، قالا: قد علمنا أن أهل السماء و الأرض كلهم عبيد لله و لكن ما اسمك الذي سمتك به أمك ؟ قال : يا هذان ما تريدان مني ؟ من أنتما ؟ قالا : قد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أويساً القرني و قد عرفنا الشهولة و السهوبة ، عندئذٍ أحسنا السلام و التحية ، و طلبا منه الدعاء و الاستغفار ، طبعاً هو أطرق و سكت و كأنه هو ، قال : ما أخص بالاستغفار أحداً و لكن للمؤمنين و المؤمنات ، ثم من أنتما ؟ قال علي هذا عمر أمير المؤمنين و أما أنا فعلي ، الإنسان ليس له حق أن يفخم نفسه ، فاستوى أويس القرني قائماً قائلاً : السلام عليك يا أمير المؤمنين و يا بن أبي طالب جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً ، قال عمر : عظني يا أويس؟ عمر عملاق الإسلام قال له : عظني يا أويس ؟ لأنه صدق كلام النبي الكريم ، قال أويس : ابتغِ رحمة الله عند طاعته ، و احذر نقمته عند معصيته ، و لا تقطع رجاءك عنه خلال ذلك، هذه الكلمة تكفي وحدها ، ابتغِ رحمة الله عند طاعته ، و احذر نقمته عند معصيته ، و لا 

تقطع رجاءك عنه فيما بين ذلك

فمن رجا رحمته و هو يعصيه فهو الأحمق ، و من خافه و هو يطيعه فهو اليائس ، و هتف به علي : لقد حدثنا النبي عنك صلوات الله عليه و هم لم يرك و لكنه كان يحبك و يصفك ، و يقول : إنك أفضل التابعين فكيف تتصور النبي يا أويس ؟ لم يره ، فقال : يا علي لقد كان لكما فضل التمتع و الشرف برؤيته ، و أما أنا فقد حرمت هذا الشرف و الفضل ، و لكنني أتصوره صلوات الله عليه في بصيرتي على غير ما رأيتم بأعينكم و شاهدتم ، أتصوره نوراً ساطعاً يملأ الفضاء ، و يسري في الوجود ، أتصوره و رأسه الشريف قاب قوسين أو أدنى من العرش ، و قدمه مستقرة في الأرض السابعة ، و بكى عمر و علي شوقاً للنبي عليه الصلاة و السلام ، ثم قال عمر : كيف الزمان عليك يا أويس؟ قال : كيف هو على رجل إن أصبح ظن أنه لا يمسي و إن أمسى ظن أنه لا يصبح ؟ هذه حال عالية جداً ، انحلت كل مشاكله لم يعد هناك هموم مادام الموت قريباً ، قال : كيف بلغت هذه المكانة العليا ؟ قال : إني أعيش في مقام الخوف و هو مقام لا يبلغه الإنسان حتى يصبح من خوف ربه و كأنه قتل الناس جميعاً ، الحقيقة إن لم يوجد خوف فالمشكلة كبيرة ، يجب أن تخاف على مقامك عند الله ، يجب أن تقلق على مصيرك في الدنيا ، يجب أن تخاف ألا تكون كما يحب الله ، هذا الخوف أكبر دافع للعمل الصالح و الالتزام و الاستقامة ، و تناجيا طويلاً ثم عرض عليه عمر كسوة و نفقة فقال : ما أصنع بهما ؟ أما ترى ردائي و إزاري من صوف متى تراني أخرقهما ؟ و أخذت من عملي أربعة دراهم متى تراني آكلها ؟ معي دراهم و ألبس رداء ، إن بين يدي و يديك عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول ، فأعرض عن الدنيا يا عمر ، و اخشّ يوماً لا ينفع فيه مال و لا بنون ، فضرب عمر بدرته الأرض ثم نادى بأعلى صوته : ألا ليت أم عمر لم تلد عمراً ، و همّ أويس بالانصراف فتعلق به علي و قال : إنما جئناك لنأنس بك ، قال : عجباً يا علي ، ما كنت أحسب أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره ثم ولى مدبراً ، طبعاً النبي صلى الله عليه و سلم ورد عنه الحديث عن أويس ، لم يره و لكن الله أنبأه به ، و طلب من عمر إذا لقي أويساً أن يستغفر له ، أن يسأله الاستغفار ، سيدنا عمر حريص حرصاً بالغاً على اللقاء مع سيدنا أويس ، و التقى معه هو و علي كرم الله وجهه و كان ما كان .

 

الحقائق المستنبطة من هذه القصة :

 من هذه القصة كلها يجب أن يبقى في أذهاننا إن نسينا التفصيلات فلا ينبغي أن ننسى قول أويس ، ارجُ رحمته عند طاعته ، و احذر نقمته عند معصيته ، و ارجه فيما بين ذلك ، أي إذا الإنسان رجا رحمة الله و هو يعصيه فهذا هو الجهل و الغباء و الحمق ، و إذا قنط من رحمته و هو يطيعه فهذا هو الجهل أيضاً ، يجب أن ترجو رحمته عند طاعته ، و أن تحذر نقمته عند معصيته ، و فيما بين ذلك الخوف و الرجاء ، و الدنيا أساس كل خطيئة، أيضاً انصراف أويس القرني عن الدنيا أحد أسباب فوزه بهذا المقام ، و الشيء الثالث : أنه إذا أصبح قد لا يمسي ، و إذا أمسى قد لا يصبح ، و هناك شيء رابع : الخوف من الله عز وجل ، خوفه من الله و كأنما قتل الناس جميعاً ، و يقينه بالموت ، و زهده في الدنيا ، و رجاء الله عند طاعته ، و خوف نقمته عند معصيته ، أربع حقائق تستنبط من هذه القصة ، من هذه التفصيلات الطويلة ، قال له : ابتغِ رحمة الله عند طاعته ، و احذر نقمته عند معصيته ، و لا تقطع رجاءك عنه خلال ذلك ، أصبحت من خوف الله و كأنني قتلت الناس جميعاً ، الشيء الثالث : كيف برجل إن أصبح ظن أنه لا يمسي و إن أمسى ظن أنه لا يصبح .
 آخر شيء : عندما عرض عليه كسوة و نفقة قال : هذا إزاري و ردائي من صوف متى تراني أخرقهما ؟ و أخذت من عملي أربعة دراهم متى تراني آكلها ؟ أي أنا في بحبوحة ، فكل واحد منا عنده أكل يكفيه عام في البيت ، عنده سبع أو ثماني بدلات بالخزانة و يقول لك : السنة لا يوجد عندي شيء ، انظر سيدنا أويس ، عندما الإنسان تخف حاجاته في الدنيا تصفو نفسه ، عندما يقطع أسباب الدنيا تتفتح أسباب السماء ، أما إذا كان كل همه الدنيا:

(( من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له ، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ))

[ الترمذي عن أنس]

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور