وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 07 - سورة النمل - تفسير الآية 59 النعم ظاهرة وباطنة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآية الثامنة والخمْسون وهي قوله تعالى:

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾

[ سورة النمل ]

 ذَكَرنا أنَّ نِعْمة الله نِعْمتان ؛ نِعَمٌ ظاهِرَةٌ ونِعَمٌ باطِنَة، وإيمان الإنسان هو السَّبب في أن يشْكُرَهُ على النِّعم الباطِنَة، أما فطْرة الإنسان فهِيَ تَدْعوه على شُكْر النِّعَم الظاهرة، أما شُكْر الله عز وجل على النِّعم الباطِنَة هو إحْدى ثَمَراتِ إيمانِهِ، ومادام مؤمنًا فَهُوَ يرْضى عن الله تعالى في سرَّاء والضَّراء.
 قال تعالى:

 

﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾

 

[ سورة النمل ]

 الذي عرفَ الله وسارَ على منْهَجِهِ وأحَبَّهُ وتقرَّب إليه ؛ هذا سلامٌ عليه وقال علماء الأصول المُطْلق في القرآن على إطْلاقِهِ، فهو تعالى ما قيَّدَ السلام بالدنيا أو الآخرة ! سلامٌ على عباده الذين اصْطفى، فأنت في الدنيا في سلامٍ مع الله، وفي الآخرة في سلام، ونِعَمُ الآخرة تتَّصِل بِنِعَمِ الدنيا فأنت في سلامٍ مع نفْسِك، فالإنسان أحْيانًا تكون له مَكَانَة كبيرة بين الناس إمَّا لِقُوَّتِهِ، وإما لِذَكائِه وأعمالهِ، ولكنْ قد يرْتَكِب أعْمالا خسيسَة فيما بينهُ وبين نفْسِهِ، فهو في نَظَر نفْسِهِ صغير، وعند الناس كبير، فلو أساء الإنسان ولم يوجَد مَن اكْتَشَفَ إساءَتَهُ؛ عندَهُ انْهِيارٌ داخِلِّي، واحْتِرام الإنسان لِنَفْسِهِ داخِلِيًّا ؛ شيءٌ لا يُقَدَّر بِثَمَن فالإنسان لمَّا يكْذِب ؛ كفى بها خِيانَةً أن تُحَدِّث أخاكَ بِحَديثٍ هو لك بِهِ مُصَدِّق وأنت له مُكَذِّب ! ومُعْظَم الكذِب يأتي مِن أجل المصالِح، فقد تَظُنُّ أنَّ الكذِب يأتي بالمال الكثير طبيب يطلب من المريض أن يقوم بِعَمَلِيَّة قدْرها أربعمائة ألف ليرة وعلى الفَوْر، والمريض ليس بِحاجَة لِعَمَلِيَّة، فالإنسان لما يكْذب مِن أجْل كَسْب المال، فهناك يتَوَهَّم أصْحابُها أنّ الكذب يدرّ دخْلاً كبيرًا ؛ هذا هو عَيْنُ الجَهْل، وهذا هو عَيْنُ الحُمْق، وكُلّ إنسانٍ بِحاجَة إلى أن يعْرِفَ الله كحاجَتِهِ إلى الطَّعام والشَّراب، لأنّه إن لم يعْرِفِ الله سوف يَقعُ في أوْهام وهذه الأوْهام لها مُضاعفاتٍ خطيرة فالسَّلام يأتي من عدم الكذب، وعدم الخِيانة والغِشّ، تسير على مَنْهَج الله، وتَحْتَرِمُ نفْسَكَ، وأنت حينما تحْتَرِمُ نفْسَكَ، وحينما تسير على مَنْهَجِ الله فالله تعالى كريم، فلو أنَّ أحدًا دخل عندهُ ألف زبون وما غشَّ أحَدًا، وما كذِب، هل يُعْقَل أن يُسَلِّط الله عليه مَن لا يرْحَمُه ؟ أنتَ ما دُمْتَ مُخْلِصا في تعامُلِكَ مع عِباد الله لنْ تَغُشَّهم وتبْتزَّ أموالهم فالله عز وجل يُلقي عليه هَيْبَةً وتَوْفيقًا ونصْرًا وتأييدًا، فهذا الذي يَغُشّ الناس، ويظن نفْسه ذَكِيّا قد يقف أمام مُوَظَّف صغير ترْتَعِد فرائسُهُ خَوْفًا، وهذا الخَوْف بِسَبب أنَّهُ غشَّهم، وكذَب عليهم فالسَّلام يأتي من طاعة الله عز وجل، فأنت مع نفْسِكَ في سَلام والمُستقيم مع نفْسِهِ كبير، لو أنَّك لا تمْلِكُ مثقالاً من المال وكنت مُسْتقيمًا فإنَّك تَشْعُرُ بقيمةٍ بِذاتِك، وهذه هي قيمة الطاعة، اللَّهم أخْرِجْنا مِن وُحول الشَّهوات إلى جنَّات القُرُبات، مِن ذُلّ المعْصِيَة إلى عِزَّة الطاعة، وقد مشَى سيِّدُنا الحسَن مَشْيَة الخُيَلاء فقالوا: ما هذه المِشْيَة يا سِبْط رسول الله ؟ فقال: عِزَّةُ الطاعَة، فالمُطيع يشْعُر بالعِزَّة لأنّه يُرْضي خالق الكَون، وهو يُرْضي ربَّ العالمين، وشريف ومُسْتقيم، وأمين وصادِق والسَّلام مع الخَلْق، ليس لك مُشْكِلَة مع الناس، فإن تَدَيَّنْتَ وضَعْتَ إيصالاً، وكذا في عَقْد الشَّراكَة، أنت تُحَصِّن شريكَك، فقد يغتَرُّ شريكك بالمال، ويأخُذ مالك ! وتكون أنت الذي أعَنْتَهُ على المال، وأنت السَّبب في أنَّهُ أكَلَ مالَك، أما إن مشيتَ على مَبْدَأ كُلُّ شيءٍ مُوَثَّق ومُسَجَّل وكُلّ شيء واضِح، فهذا نبِيُّنا عليه الصلاة والسلام كان خارِجًا مع زوْجَتِهِ صَفِيَّة فعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِي اللَّه عَنْهمَا:

 

(( أَنَّ صَفِيَّةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ فَقَالَ تَعَالَ هِيَ صَفِيَّةُ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ هَذِهِ صَفِيَّةُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ قُلْتُ لِسُفْيَانَ أَتَتْهُ لَيْلًا قَالَ وَهَلْ هُوَ إِلَّا لَيْلٌ ))

 

[ رواه البخاري ]

 فأوَّل بند من بنود السَّلام أنَّك إن طبَّقْتَ منهجَ الله تعالى تحْتَرِمُ نفْسَكَ وإن طبَّقْتَهُ في العلاقات العامَّة، فالكُلّ يَحْتَرِمُك، فبالطاعة يكون رِضى النفس والناس عنك، بِهذا يرْضى خالق الكون عليك، فَكَلِمَة سَلامٌ لها ثلاثة أنواع ؛ سلامٌ مع النَّفس، وسلامٌ مع المُجتمع، وسلامٌ مع خالق الكون، وأنا أعْتَقِد أنَّه من الصَّعْب أن يدْخل الإنسان إلى قصْر العَدْل ؛ فأُمورُهُ كُلُّها واضِحَة، ولمَّا يسْمَح للخطيب أن يجْلس مع ابْنَتِهِ أشْهُرًا دون عَقْد قِران ثُمَّ يختفي الخطيب، والبنت حامِل ! عندها ينقلب البيْت رأسًا عن عَقِب، أما إن طبَّقْنا شرْع الله تعالى، فله أن يراها مرَّة ومرَّتين وثلاثة وانتهى الأمْر، وإما أن يكون عَقْد قِران أو لا، فإذا عَقَد عليها أصْبَحَت زوْجَتُه وأنت بِسَلام، فالسَّلام يأتي بِطَاعَة الله.
 والسَّلام ؛ هذه الكلمة معها طمأنينة وسلامَة، فأنت لك سلامَة مادِيَّة وسلامَة نفْسِيَّة، فقد يكون الإنسان سليمًا مادِيًّا ولكِنَّه مُنْهارٌ نَفْسِيًّا فأنت بِحاجَة إلى السلام المادِّي والمَعْنَوي، والصِّحة النَّفْسِيَّة والجسَدِّيَّة، ولو أنَّ الإنسان طبَّق منهجَ الله في طعامِه وشرابِهِ، وفي زواجِهِ،و في كُلّ شؤون حياته لكان سليمًا، لو طبَّقْت منهج الله تعالى في علاقاتِك الاجْتِماعِيَّة لما كانت هناك خِيانَة زَوْجِيَّة، نزهات وسهرات مُختلطَة ينشأ طلاق، ونشوز، وخِيانَة زَوْجِيَّة.
 فأنت إن طبقت منهج الله تعالى مع نفْسِكَ فأنت في سلامة مع نفْسِك إنْ طبَّقْتَ منهَج الله مع الناس فأنت في سلامة، وإن طبَّقْتَ منهَجَ الله وعبَدْت الله وأطَعْتَهُ و امتلأ قلبُكَ بالله فأنت في سلام مع الله، فقوله تعالى:

 

﴿وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾

 

[ سورة النمل ]

 هذا سلامٌ ثَمَنُهُ طاعتُهُ تعالى، ولذلك قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾

 

[ سورة الأحزاب ]

 فالله لمَّا قال فَوْزاٌ عظيما، الله هو الذي يقول هذا ! فما معنى هذا ؟! إذا الواحِد وجَدَ طِفْلاً وقال له: أنا معي مبلغ كبير، فما هو تقْديرُكَ لِهذا المبلغ ؟ خمس و عشرون ليرة فقط ؛ أما لو قال لك شخْص كبير: أنا معي مبلغ كبير، فقد يقصد مائة مليون، فكلمة عظيم وكبير تتناسَب مع القائِل، فهذا خالِقُ الكون، وإلهنا العظيم يقول:

 

﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾

 

[ سورة الأحزاب ]

 لذا الذَّكاء كلّ الذكاء، والعَقل كل العَقل، والنَّجاح كل النَّجاح، والفَوْزُ كُلُّ الفَوْز في طاعة الله تعالى.
 الشيء الآخر، أن الله تعالى لمَّا يرى من بعضِ عبادِهِ اسْتِقامةً وإخْلاصًا وورَعًا وصِلَةً يصْطفيهم لأَرْقى المُهِمَّات، أحيانًا نجد شَخصًا يُتْقِن اللُّغَة الفِرَنْسيَّة والإنجليزِيَّة والألمانِيَّة، ومعه حُقوق، وآداب نستفيد نحن منه ونضعُهُ سفيرا، فالله عز وجل لمَّا يرى الاسْتِقامة والطاعة يصْطفيه لِمُهِمَّات كبيرة، وهذا مِن فضْل الله على الإنسان ولا يوجد إنسان يتفوَّق إلا ويصْطفيه، وهذا لِكُلّ الناس، وهذا ليس خاصا وهذا بِحَسب طلبِكَ، فالله ينتظر أن يرى منك أن تطلب منه عملاً صالحًا لأنَّهُ خلَقَكَ في الدنيا للعمل الصالح، والأب لمَّا يكون طُموحه تعلّم ابْنِهِ يبقى ينتظر من ابنه أن يقول له أريد أن أتعلَّم.
 لذا أيها الإخوة، الله تعالى خَلَقَنا لِيَرْحَمَنا، ورحْمتهُ لنا بِسَبب العمل الصالِح، والإنسان لمَّا يُغادِر الدُّنيا لا ينْدَمُ إلا على عملٍ صالحٍ فاتَهُ والدليل قوله تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾

[ سورة المؤمنون ]

 عند الموت لا شيء له قيمة، وكل شيء من حُطام الدنيا، الإسلام فيه أوامر عِدَّة في وُضوئِك وصلاتك ويقظتك ونومِك، وعلاقتِك مع زوْجتِك، في تربيَة أولادك، وإنفاق مالِك، وكسْب مالك، فأنت أمام منْهَج كامِل، ومن السَّذاجَة والحُمْق أنْ تظُنّ أنَّ الإسلام خمْس عبادات الإسلام منْهج كامِل لِكُل حركة وسَكَنَة، وهناك الحرام والواجب والمندوب والمكروه والمستحب، وكلّ شيء يدور مع هذه الأحكام، لذا طلب الفقه حَتْمٌ على كُلّ مُسلِم، ومعرفة أحكام الفقه جزء كبير من الدِّين، فأنت بالكون تعْرِفُهُ، وبالشَّرْع تعْبُدُه.
 ثمَّ يقول الله عز وجل:

 

﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾

 

[ سورة النمل ]

 أحيانًا يُوازن الإنسان بين بيت مائة متر شمالي، ومائة وعشرة قبلي يبقى تُفَكِّر ولكن لو خيِّر الإنسان بين سيارة ودراجة هل يُفَكِّر ؟‍ لو سكت ثانِيَة فهو أحْمق ‍‍‍!!! وهذا إله عظيم يقول الذي أعَدَّ لك جنات عرضها السماوات والأرض وفيها ما لا عينٌ رأَتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولا خطر على قلْب بشر، فهل يُعْقَل أن تكون مَحْسوبًا على إنسان ؟ كُن مَحْسوبًا على الله،:

 

﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)﴾

 

[ سورة النمل ]

 فلا يوجد تناسُب بين أن تكون عَبْدًا لله، وبين أن تكون عبْدًا لِعَبْدٍ من بني البشَر، فالفرق كبير جدًا، وهؤلاء الذين اصْطفاهم الله لم يعبدوا شريكًا من دونه، والآية دقيقة:

 

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) ﴾

 

[ سورة النمل ]

 فالحادِث غير الفاني، والمخلوق غير الخالق، والقوي غير الضعيف، والغني غير الجاهل، فلا تحقّ الموازنة هناك ! فأنت لا تستطيع أن تُوازٍن بين الكرة الأرْضِيَّة وبين ذَرَّة من التراب !! هذين الشيئَين غير خاضِعَين للموازَنة إطلاقًا.

 

تحميل النص

إخفاء الصور