وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 221 - 226، الإنسان والبيان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، الآيات الأخيرة من سورة الشعراء، وهي قوله تعالى:

﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾

 

(سورة الشعراء)

 الأفاك هو الكذاب، والأثيم الذي يرْتكب الآثام، ودَقِّقوا في العلاقة بين الكذاب والأثيم، فالكذَّاب كَذِبُهُ يَحْمِلُهُ على الإثْم، والأثيم كذَّاب، قال تعالى:

﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)﴾

 

(سورة الشعراء)

 الشِّعْر كما عرَّفَهُ النُّقاد: كلام مَوْزون مُقَطَّع، والشِّعْر تَعْبير فَنِّي وصِياغَة بديعة فلو أنَّ أحدًا قال باللُّغَة العامِيَّة: تضرب هذه الدنيا ! بالفصيح: ضاقَت عليَّ الدنيا، أما الشاعر فقال:

بلاني الدَّهْر بالأرْزاءِ حَتَّـى  فُؤادي في غِشاء من نِبـــــالي
فَكُنتُ إذا أصابَتْني سِهـــامٌ  تَكَسَّرَتِ النِّصال على النِّصال
***

 هذا تعبير فَنِّي وبديع، والله عز وجل قال:

 

﴿الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الْإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾

 

[ سورة الرحمن ]

 مِن تَكْريم الله للإنسان أنَّهُ علَّمَهُ البيان، وعلَّمَهُ أن يُعَبِّرَ عن مشاعِرِهِ وعن أفكارِهِ، أن يُعَبِّر عن أفكارِهِ وبالنَّثْر، عن مشاعرِهِ بالشِّعْر، ثمَّ إنَّ هذا البيَان له جانِب آخر خطير جدًا، والبيان يُكْتَب ويُقْرَأ، وبِفَضْل البيان المَكْتوب والمقروء يُمْكِن أن تنتقل الثَّقافات والعُلوم والمعارف مِن إنسا لآخر، ومن جيل لآخر، ومن عصْر إلى عصْر، فَعُلومُ البشَرِيَّة كُلُّها تتراكَمُ فوق بعضِها البعْض والإنسان يأخذُ النَّتيجة بِفَضْل البيان المَكْتوب والمقروء، لذلك قال الله تعالى:

 

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾

 

[ سورة العلق ]

 الإمام الغزالي كما قلتُ لكم: كان يحْضر درْسه أربع مائة عمامة، فلمَّا انتهى الدرس، لكِنَّ كتابه الإحْياء أبْقاهُ ألف سنة وأكثر، والقرطبي من الأندلس ألَّف تفْسيرهُ المَشْهور ومات لكنَّ هذا التَّفسير يقرؤُهُ المسلمون في شتَّى بِقاع العالم، فاللُّغَة حينما تُكْتَب وتُقرأ معناها ثقافة أمَّة بأكْمَلِها يتوارثُها الأجْيال، وكم مِن كِتابٍ قيِّم في اللُّغة الأجْنبيَّة تُرْجِم إلى اللُّغة العربيَّة.
نحن نقطتنا بالدَّرس أنَّ هذا البيان الذي يحوي القدرة على التعبير عن أفكارك ومشاعرك، والقدرة على التَّعبير الفنِّي، قال أحمد شوقي:

 

آمَنْتُ بالله واسْتَثْنَيْتُ جنَّتَـــــهُ  دمشق روح وجنات ورَيْحان
قال الرِّفاق وقد هبَّتْ خمائِلُها  الأرض دار لها الفيْحاء بُسْتان
جرى وصفَّق يلْقان بها بردى  كما تلقَّاك دون الخلد رِضْوان
***

 هذا في القديم طبْعًا، فبين أن تقول: دمشق جميلة، وبين أن تصِفَها بِبَلاغَةٍ فرق كبير، والحقيقة التَّعبير الفنِّي له أثَر كبير جدًا، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ:

 

 

(( جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ))

 

[ رواه البخاري ]

 فهُناك تعبير عِلْمي وتعبير أدَبي وتعبير ساذج عامِّي، والقرآن الكريم إعْجازُهُ في صِياغَتِهِ ولعلَّ من أكبر تأثيرات كتاب الله تعالى فينا هذا النَّظم الدقيق، ولكنَّ الشِّعْر كما قال الفقهاء: كلامٌ حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح، فنحن لا نتَّهِمُ الشِّعْر بالذات، ولكن موضوع الشِّعْر، فلو جاء شاعر ومَدَحَ النبي عليه الصلاة والسلام لعلَّ هذا المديح يفْعَلُ فينا فِعْل السِّحْر، إلا أنَّني أوَدُّ أن أضَعَ بين أيْديكم هذه الحقيقة ؛ وهي كما قال بعض الأُدباء الشِّعْر مِصْباح يكْشِفُ لك عن بعض كُنوزِك المَخْبوءَة في أعْماقِك ولكِنَّه ليس بالكيس المملوء الذي يُفْرَغُ في خزائِنِك فأحيانًا الورْد إذا هَزَزْتَهُ تفوحُ رائِحَتَهُ، فالذي عنده مع الله تجارب وأشْواق ومحبَّة لله إذا اسْتَمَع إلى الشِّعر في مُناجاة الله تعالى، أو مديحِ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فَكُلُّ هذه الكُنوز تظْهر أمامهُ، فالشِّعْر يجْعلك تفتح ما سرَرْتَهُ، ويكْشف لك عن كنوزِك، فالشِّعر لا يُضيف شيئًا ولكن يكْشف عن الخبايا المخبوءة فيك، فلو نشَّد واحد منَّا وناجى ربَّهُ بِصَوْتٍ عذْب، ونَغَمٍ طيِّب، أو يمْدح رسول الله صلى الله عليه وسلم تجِدُ بعض الحاضِرين يبْكي، وبعضهم الآخر كالصَّخْر لا يتأثَّر أبَدًا فَهُوَ يكْشِفُ لك عن كُنوزِك، إنَّهُ ليس بالكيس المَمْلوء الذي يُلقى في خزائِنِك، فالشِّعْر يُحَرِّك المواجد والمشاعر، ويُحَرِّك الحبّ والشَّوْق أما إن لم يكن هناك حبّ ولا شَوْق فإنَّه لا يَفْعَلُ شيئًا، لذا الفقهاء والعلماء قالوا: كلامٌ حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح ! هناك شِعْر هِجائي فأحدهم وصَفَ مُغَنِّي قال:

 

عِواءُ كلبٍ على أوْتار مِندفةٍ  في قُبْحِ قِرْدٍ وفي اسْتِكْبار هامان
وتَحْسبُ العَيْنُ فكَّيْهِ إذا اخْتَلَفا  عند التَّنَغُم فكَّيْ بَغْل طَحَّـــانِ
***

 فهناك أمور ممنوعة بالإسلام، المديح الكاذِب ممنوع، والنِّفاق والرِّثاء المُبالَغَ به، وهناك كذِب بالشِّعْر، فالحُكْم الشَّرْعي أنَّ الشِّعْر كلامٌ حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح، فهو لا يحوي قيمة ذاتِيَة ولكن قيمة لغيْرِهِ فَمَن أوتِيَ مَقدرةً على نَظْم الشِّعْر، وعلى صِياغة كلامه، فإن وظَّف هذه القُدْرة على نشْر الحق نقول له: أنْعِم وأكْرم، فهذا سيِّدُنا حسَّان ابن ثابت كان مُدافِعًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛

 

 

وأجْمَلَ مِنْكَ لم ترَ قطُّ عَيْن  وأحْسَنَ منك لم تلِدِ النِّساء
خُلِقْتَ مُبَرَّءً من كُلّ عَيْبٍ  كأنَّك قد خُلِقْتَ كما تشاءُ
***

 إذًا هناك بالشِّعْر ما هو جميل، وما يَهُزّ المشاعِر، والإنسان يُغَذِّي قلبَهُ ومشاعِرَهُ، ولكن الشِّعْر مَوْقوف على موضوعِهِ فإن كان في مُناجات الله وفي تَوْضيح الحق فأنْعِمِ به، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

 

((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ))

[ رواه البخاري ]

 فَمَن أوتِيَ قُدْرةً على التَّعبير، ونَظْم الكلام هو مُحاسَبٌ عند الله تعالى حِسابًا خاصًّا إن لم يُوَظِّف هذه القُدْرَة في نَشْرِهِ فَهُوَ آثِم، وهناك شُعَراء يتغزَّلون، وآخرون يَهْجون، وهناك شُعراء منافقون وآخرون يَمْدحون مديحًا كاذِبًا، فلِذلك الحُكم الشَّرعي في الشِّعْر: كلامٌ حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح، وإنَّ الله لَيَغْضَبُ إذا مُدِحَ الفاسِق، والآية الكريمة كما قال تعالى:

 

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)﴾

 

 

(سورة الشعراء)

 أَحطّ شيء بالشُّعَراء أن يرْتَزِقوا بِشِعْرِهم، وقد ذكروا طُرفَةً عن أديب عاتَبَهُ زُمَلاؤُهُ على أنَّهُ باع فنَّهُ لِجِهَةٍ ما، فغَضِبَ أشَدَّ الغضَب وقال: أنا لم أبِعْهُ ولكِنَّني أجَّرْتُهُ ! عُذْرٌ أقْبَحُ مِن ذَنْب !! فالإنسان عليه أن لا يُوَظِّف طاقتِهِ التَّعْبيرِيَّة، وقُدراتِهِ الكلامِيَّة، وبلاغتِهِ وشِعْرهِ في الباطِل فهذا يُحاسَب عند الله تعالى حِسابًا عسيرًا لأنَّه لو وظَّفَهُ في الحق لأفاد ونفَعَ كثيرًا، فهذا الإمام البوصيري في قصيدَته البردَة ؛ هذه القصيدَةُ تُعَبَّر عن حُبٍّ صادِق لرَسول اله صلى الله عليه وسلَّم ؛ نُظِمَت في عُصور الدُّوَل المُتتابِعَة ؛ وعُصور الانْحِطاط ومع ذلك تُعَدُّ مِن أرْقى أنواع الشِّعْر، قال في بعض ما قال:

فلا ترم بالمعاصي كثْرة شَهوتها  إنَّ الطعام يُقَوِّي شَهْوَة النَّــــهِم
***

 ووصف أصحاب رسول الله فقال:

 

كأنَّهم فوق ظَهْر الخَيْر نَبْتُ ربًى  مِن شِدَّة الحزن لا مِن شَدَّة الحُزُم
***

 فما قلنا هناك أشياء لطيفة بالشِّعر، ولكن يجب أن تُوَظَّف في الحق قال تعالى:

 

 

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)﴾

 

 

(سورة الشعراء)

 هناك شاعر بالعَصْر العباسي مدَحَ ثلاثًا وثلاثين أميرًا وهجاهم في الوقت نفْسِهِ، قال تعالى:

﴿وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)﴾

 

(سورة الشعراء)

 قال المُتَنَبِّي:

أنا الذي نظَر الأعْمى إلى أدبي  وأسْمَعَتْ كلِمَاتي مَن به صَمَــــــمُ
أنام ملئ جُفوني عن شوارِدِها  ويسْهَرُ الخَلق جرَّاها وَيَخْتَصِــــمُ
الخَيلُ والليل والبيْدَاءُ تعْرفُني  والسَّيف والرمح والقِرطاس والقَلَمُ
***

 فكان في طريقِهِ من البصْرة إلى حلب فهاجَمَهُ أعْداؤُهُ فَوَلَّى هارِبًا !! فقال له غُلامُهُ ألم تقل:

 

الخَيلُ والليل والبيْدَاءُ تعْرفُني  والسَّيف والرمح والقِرطاس والقَلَمُ
***

 فقال قَتَلْتني قَتَلك الله !!! وعاد فقاتَلَ حتَّى قُتِل، ومات في هذه المعْرَكَة، قال تعالى:

 

 

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) ﴾

 

 

(سورة الشعراء)

 اُنْظر إلى هذا الاسْتِثناء ما أجْمَلَهُ، قال تعالى:

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227)﴾

 

(سورة الشعراء)

 القرآن دائِمًا به اسْتِثْناءَات، قال تعالى:

﴿وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾

[ سورة العصر ]

 قال تعالى:

 

﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) ﴾

 

 

(سورة الشعراء)

 فالإنسان إذا أتْقَنَ عِبارَتهُ وقرَأ الأدَب الرَّفيع، إذا قرأتَ قصيدة وشَعَرْتَ أنَّها حرَّكَتْ مشاعِرَكَ السُّفْلى وتَفْكيرَكَ الهابِط، فأنت مع فنِّ رخيص، وهذا كالوباء، وعلى الإنسان أن يختار ما يقرأ لأنَّه يتأثَّر بِما يقرأ، وهو أن تختار الكتاب الجيِّد والشاعِر الجيِّد، فهذا يفْعَلُ فيك فِعْل السِّحْر، أما إن لم تخَتَر ما تقرأ فهذا قد يكون بِمَثابَة أصْدِقاء السُّوء، والصاحِب ساحِب، وهذا الشِّعْر حُكْمُهُ مَوْقوف على موضوعه.

تحميل النص

إخفاء الصور