وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الشعراء - تفسير الآيات 192 - 200، العلم ثلاثة أنواع علم بخلقه وعلم بأمره وعلم به.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، هناك حقيقة قد تبْدو لِبَعض الناس غريبةً ؛ وهي أنَّ الإنسان قد يَفْهَمُ القرآن فهْمًا مَعْكوسًا، وقد يزيدُهُ القرآن ظلْمًا، إن لم يَكُن مُسْتقيمًا.
 العلم ثلاثة أنواع: عِلْمٌ بِخَلْق الله، وعلْم بِأمْرهِ، وعِلْمٌ به، فالعِلْم بِخَلْقِهِ يَحْتاج إلى مُدارَسَة، وإلى كتبٍ وقِراءة، وذاكِرة وبَحْث وإلى أدِلَّة وتَعليل وإلى وقْت ومراجَعَة، وإلى مُعَلِّم ؛ كُل هذا اسْمُهُ مُدارسَة فالعِلْم بِخَلْق الله يَحتاج إلى مُدارَسَة.
 والعِلْم بِأَمْر الله، يحتاج كذلك إلى مُدارَسَة، فلو دَخَلْتَ إلى كُلِيَّة الشريعة ؛ علم الفقه وأصوله، أحكام البيوع وأحكام الفرائض والأحوال الشَّخْصِيَة، هذه تَحتاج إلى دِراسَة وإلى مُعَلِّم وإلى دوام وإلى كتب وامْتِحان ؛ هذا كُلُّه اسْمُهُ مُدارَسَة ولكن أنْ تَعْرِفَ الله، وأن تَعْرِفَ عظَمَتَهُ وأن تسْتقيم على أمْرِهِ فهذا يَحْتاج إلى مُجاهَدَة وإلى طاعة لله تعالى وضَبْط الدَّخل والإنفاق، وضَبط السُّلوك والجوارِح، والبيت، والدليل هذه الآية:

 

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾

 

[سورة الشعراء]

 كلام و بِلِسانٍ عربيٍّ مُبين ؛ أنَّ أحَدَ أسباب فَهْم كتاب الله إتْقان اللُّغَة العرَبِيَّة لأنَّه نزل بلِسانٍ عربيّ، فلن تستطيع أن تَفْهَمَ كتاب الله إلا إذا أتْقَنْتَ خصائص هذه اللُّغَة وقواعِدَها وفِقْهها ونَحْوَها وصرْفها وبلاغَتَها قال تعالى :

 

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾

 

[سورة الشعراء]

 فالشاهِد أنَّه لو نزل هذا القرآن على إنسان أعْجَمي وهندي أو فارِسي بِلُغَتِهِ فقَرَأَهُ عليهم ما كانوا به مؤمنين ! سافَرْتُ مرَّةً لِبَلَدٍ وسَمِعْتُ خِطابًا ساعَتَين ونصف فما فَهِمْتُ منه ولا كلمة ؛ باللُّغَة الفارِسِيَّة، فلو أنَّ القرآن نزل باللُّغَة الأعْجَمِيَّة فقرأ النبي هذا القرآن باللُّغة الأعْجَمِيَّة على قومِهِ العرب ؛ هل يفْهمون منه شيئًا ؟! قال تعالى:

 

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾

 

[سورة الشعراء]

 فالواحد المُنْحَرف في الدَّخل والمعاصي واللاأخلاقِيَّات، فهذا إذا حضَر التَّعْزِيَة ألا يسْمع القرآن ؟! يسْمَعُهُ، ولكن لا يَعْنيهِ إطلاقًا ! قال تعالى :

 

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾

 

[سورة الشعراء]

 قال تعالى:

 

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)﴾

 

[سورة الإسراء]

 يقرؤونَهُ فَيَزْدادون بِقِراءَتِهِ خسارة، لذا فهْم القرآن يحْتاج إلى طهارة باطِنِيَّة، ولذا قال العلماء: لا يمَسُّهُ إلا المُطَهَّرون، ومِن معاني المُطَهَّرين ؛ طاهِر النَّفْس، وقد يقول أحدهم: هذه نَهْي ! ولكن لو كانت اللام ناهِيَة لكان الفِعْل: لا يَمْسَسْهُ، يُفَكُّ التَّضْعيف كأن تقول: مدَّ لم يمْدُد، وشدَّ، لم يَشْدُدْ، فالفِعل المُضَعَّف الآخر إذا سبقه جازِم يُفَكُّ التَّضْعيف، أما إذا سبَقَهُ حرف نفي، فإنَّهُ يبْقى على حالهِ، شدَّ وما شدَّ، فاللام هنا للنَّفي وليْسَت للنَّهْي، فهذا حُكْم تَكْويني وليس حكما تَكْليفيا، أيْ مِن طبيعَة غير المُطَهَّر أنَّه لا يفْهمُ كلام الله، وهذه حقيقة فأنت بِمُجَرَّد أن تسْتقيم على أمْر الله تجد نفْسَك تفْهم كلام الله، وتراه يسيرًا وواضِحًا، لذا فَهْمُ كلام الله وحْدهُ، أما فهم أي نصٍّ آخر يمكن أن يفهمه أيّ واحد، فالمُلْحِد قد يفْهم جلّ الكلام إلا كلام الله تعالى والدليل الثاني:

 

﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44)﴾

 

[سورة فصلت]

 والدليل الرابع:

 

﴿ وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)﴾

 

[سورة الإسراء]

 والدليل الرابع:

 

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)﴾

 

[سورة الشعراء]

 لذا الواحِد إذا لم يسْتَوْعِب عليه أن يتَّهِم اسْتِقامَتَهُ أحيانًا لأنَّ الإنسان حتْمًا يتحرَّك بأَحَد باعِثَيْن ؛ باعِث العَقْل أو باعِث الشَّهْوَة باعِث الذات أو إرْضاء الله تعالى، باعِث الآخرة أو الدنيا، وباعث المعْصِية أو الطاعة، باعث الخير أو الشر، باعِث الهَوَى أو القِيَم ولا يوجد باعث ثالث، والدليل قوله تعالى:

 

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾

 

[سورة القصص]

 إن لم تَكُن على الحق فأنت حتْمًا على الباطِل، وإن لم تتَّبِعِ العَقْل فأنت حتْمًا تتَّبِعُ الهَوى، وإن لم تسْتجب لأمْر الله فأنت حَتْمًا تسْتجيب للشَّيْطان، لا يوجد باعث ثالث بينهما.
 والنُّقْطة الثانِيَة ؛ أنَّك بين نُقْطَتَيْن ؛ نقطة الحق ونقطة الباطل، فإن اقْتَرَبْتَ من الحق ابْتَعَدْت حُكْمًا عن الباطِل، وإن اقْتَرَبْت من الباطِل ابْتَعَدْتَ حُكْمًا عن الحق، والدليل قوله تعالى:

 

﴿ يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾

 

[سورة ص]

 اِتِّباع الهَوَى ابْتِعادٌ عن الحق، يجب أن تؤمِن بالاثْنَيْنِيَّة ؛ الحق أو الباطِل، المَبْدَأ أو الشَّهْوة، العَقْل أو الغريزة، الدنيا أو الآخرة إرْضاء الذات أو إرْضاء الله عز وجل، لذا على الإنسان أن يعْرِفَ مكانَه فأهمّ شيء مثلاً في البَحْر البوْصلة، لأنَّه بِها يتحرَّك التَّحَرُّك الصحيح، فَكُلّ واحِد مِنَّا يجب أن يعْرِفَ مَوْقِعَهُ، وحجْم إيمانِه، يجب أن تعرف هل أنت معَ القِيَم أو مع الشَّهوات، مع الدنيا أو مع الآخرة مع مَصْلحتِك أم مبْدئِك ؟
 قال تعالى:

 

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)﴾

 

[سورة الشعراء]

 لن تفهَمَ ولا أيّ كلمة، ولا أيّ حرف لو تكَلَّم معك إنسان، قال تعالى:

 

﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)﴾

 

[سورة الشعراء]

 كما لو أنَّك تقرأ عليه قرآنًا بالفارِسِيَّة، أما لمَّا يسْتقيم الإنسان تتفتَّحُ مدارِكُهُ، ويُلْقى في قلْبِهِ النور، والحِكْمَة، وقُدْرة على الفَهْم عجيبة، وهذا ما قالهُ بعض العلماء.
 النُّقْطة الأخيرة ؛ أنَّ الذي يتَّبِعُ الهوَى يُضِلُّهُ عن سبيل الله، ويوقِعُهُ في الظلم، لأنَّ مِن شأن اتِّباع الهَوى العُدْوان، فأنت إن اتَّبَعْتَ الهَوَى وِفْقَ منهَجِ الله فلا غبار عليك، أما إن اتَّبَعْتَ الهوَى مِن غير هُدًى من الله فلابدّ مِن أن تَقَعَ في العُدْوان والظُّلْم، وحينها تسْتَوْجِبُ العِقاب، والآية دقيقة جدًا، والدليل الثاني:

 

﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44)﴾

 

[سورة فصلت]

 والدليل الرابع:

 

﴿وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا(82)﴾

 

(سورة الإسراء)

 والدليل الرابع:

﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)﴾

[سورة الواقعة]

 هذه اللام نافِيَة، فأنا لمَّا أضَع إشارة ممنوع المُرور فالطريق هنا سالِك أما إذا وَضَعْت الإسمنت وقَطَعْتُ الطريق للمارَّة فأنا منَعْتُ المُرور وهذا فرْق كبير، إنَّ الله أمرَ عباده تخْييرًا، ونهاهُم تَحْذيرًا وكلَّفَ يسيرًا، ولم يُكَلِّف عسيرًا، وأعطى على القليل كثيرًا، فأحَدُ أسباب فَهم الكتاب والعلم الدِّيني الاسْتِقامَة على أمْر الله، فأنت مُمْكِن أن تأخذ أعلى شَهادَة بالأرض، ونفْسُكَ أنْجَسُ نفْس ‍‍!! العُلوم الأرْضِيَّة لا تَحْتاج إلى طهارة نفْس، لذا مِن أجل قُدْسِيَّة هذا العِلْم الطَّهارة النَّفْسِيَّة، فقد يكون له أعلى مرتَبَة علْمِيَّة وشهادة دنيوِيَّة، وهو في أحطّ مرتبة أخلاقِيَّة، فقد يقْتُل ! لماذا قتَل ؟! فالله لا يسْمَحُ لك أن تفْهم القرآن إلا إذا كنتَ طاهِرًا، قال تعالى:

 

﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)﴾

 

[سورة الشعراء]

 فإذا لم يفْهم الواحِد كتاب الله معنى ذلك أنَّ به خللاً، والعقْل له وظيفَتيْن ؛ إما أن يكون قائِدًا له، وهي الوظيفة الطَّبيعِيَّة، أما الوظيفة الخطيرة المُدَمِّرَة أن يكون عقْلُهُ جِهاز تَبْرير ؛ كُلَّما غلَط وتحامَقَ وهبَطَ في مُسْتوى شهواتِهِ يسْتَنْجِ بِعَقْلِهِ كي يُفَلْسِفَ له انْحِطاطَهُ فَكُلُّ المذاهِب الوَضْعِيَّة الهدَّامَة هي فلْسَفَة عَقْلِيَّة لانْحِراف خُلُقي، فلمَّا الإنسان يسْتخدِم عقْلَهُ للتَّبْرير يكون على عَكْس ما خلقه الله عز وجل فالذي يقول مثلاً الاخْتِلاط يُهَذِّب النُّفوس ! هذه فِكْرَة خبيثة مِن عَقْل مُبَرِّر والذي يقول لك أنا إن لم أسْرِق لا يُمْكِنُني أن أعيش، أين توحيد الرازِقِيَّة ؟ الله هو الرزاق ذو القوة المتين، فأخْطَر شيء ونعوذ بالله أن نسْتَخْدِم عُقولنا لِتَبْرير أخْطائِنَا، فَكُلّ الأعمال المُنْحطَّة تُبَرَّر والحَسَنُ ما حسَّنَهُ الشرع، والقبيح ما قبَّحُ الشَّرْع.

تحميل النص

إخفاء الصور