وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0286 - العلم4- علاقة العلم بالعبادة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

علاقة العلم بالعبادة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع العلم ، لقد تطرّقنا في الخطب السابقة إلى فضل العلم ، وإلى علاقة العلم بالإيمان ، وإلى علاقة العلم بالعمل ، وها نحن أولاء اليوم نصل موضوع العلم وعلاقته بالعبادة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من دينٍ كدين الإسلام يفضّل الاشتغال بالعلم ، وطلبهُ ، والتبحّر فيه ، عن التطوّع بالشعائر التعبديّة المعروفة ؛ من صيامٍ وحجّ ونحوهما ، مع أنّ الله سبحانه وتعالى يعلنُ في صراحة وجلاء أنّه لم يخلق الثَّقَلين إلا ليعبدوه ، قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِي ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 مع أنّ الله سبحانه وتعالى يعلنُ في صراحةٍ وجلاء أنَّه ما خلق الثَّقلين إلا ليعبدوه، لكنّ هذا الدِّين الحنيف يفضّل الاشتغال بالعلم ، ويفضّل طلبهُ ، ويفضّل التبحّر فيه على التطوّع بالشعائر التعبديّة المعروفة من صلاةٍ ، وصيام ، العبارة دقيقة ، على التطوّع ، أما العبادات المفروضة فلا شيء يفضلها .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لماذا هذا التفضيل ؟ لأنّ العبادة إذا بُنِيَت على غير علمٍ كانت كبُنيانٍ من غير أساس ، فالعلم وحدهُ هو الذي يوضّح أركان العبادة ، ويوضّح شروط العبادة ، ويوضّح آدابها الظاهرة ، وأسرارها الباطنة ، كما يبيّن ما يصحّحها ، وما يبطلها ، وما يكمّلها ، وما ينقصها ، بالعلم وحده نعرف كلّ ذلك ، إذًا إذا عبد الإنسان ربّه من دون علمٍ كانت عبادته جوفاء ، كانت عبادته صورية ، كانت عبادته كبيتٍ لا أساس له ، العلم ضروريّ كي تصحّ العبادة ، كيف تعرف أسرار الصلاة ؟ الصلاة كما تبدو لمعظم المسلمين غير المتعلّمين أقوال وأفعال مفتتَحَةٌ بالتكبير ومختتَمَة بالتسليم ، مع أنّ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

[ سورة طه:14]

 وقال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾

[سورة النساء : 43]

 الصلاة وعي ، وقُربٌ ، ومناجاة ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

[سورة العنكبوت : 45]

 فإذا صلى الإنسان من دون علمٍ ظنّ أنّ هذه الصلاة الجوفاء هي الصلاة ، لذلك العبادة التي افترضها الله علينا ، والعبادة التي خلقنا من أجلها لا تصحّ إلا بالعلم ، لذلك عرِّفت العبادة بأنها طاعة طوعيّة تسبقها معرفة يقينيّة ، والمعرفة اليقينية هي العلم .

 

العبادة لا تصح إلا بالعلم :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مرَّةً ثانية : بالعلم نعرف أركان العبادة ، وشروطها ، وآدابها الظاهرة ، وأسرارها الباطنة ، وما يصحّحها ، وما يبطلها ، وما يكمّلها ، وما ينقصها ، وبالعلم يعرف الإنسان منازل الأشياء ، ومراتب الأعمال ، بالعلم وحدهُ يميّز بين النفل والفريضة، بين المهمّ وغير المهمّ ، بين الأُصول والفروع ، فلا يقدّم نافلةً على فريضة ، ولا يؤثر شيئًا غير مهمّ على شيءٍ مهمّ ، ولا يضيّع أصلاً من أجل فرع ، كلّ هذا بالعلم ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال بعض العلماء : إنّ الله لا يقبلُ النافلة - هذا القول لبعض العلماء من التابعين - حتى تؤدّى الفريضة ، فمن ابتعد عن العلم اشتغل بالنوافل على حساب الفرائض ، اشتغل بالفروع على حساب الأصول ، اشتغل بالتوافه على حساب الجوهر ، فما دامت الحياة محدودة ، وما دام الوقت أثمن شيءٍ في حياة الإنسان ، وما دامت المهمّة صعبة ، وما دام الموت متوقَّعًا ، وما دامت الحياة مزرعة للآخرة فلا بد من طلب العلم كي تصحّ العبادة ، في الخطب السابقة العلم طريق إلى الإيمان ، العلم طريق إلى العمل ، دليل إلى العمل ، واليوم العلم طريق لِتَصحيح العبادة ، قال بعضهم : من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور ، وشتان بين المعذور وبين المغرور ، من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور .

 

العبادات قاصرة النفع لا تتجاوَز صاحبها أما العلم فنفعه متعدّ لغيره :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ من فضل العلم على العبادة أنّ معظم العبادات قاصرة النفع لا تتجاوَز صاحبها ، فالصائم نفلاً ، والمصلي نفلاً ، والحاجّ بعد فريضة الحجّ ، والمعتمر، والذاكر ، والمسبّح ؛ هذه النوافل تزيدُ في حسناتهم ، وترفع في درجاتهم ، ولكنّ المجتمع لا ينالهُ شيءٌ من كلّ هذا ، ولا يتحقّق له نفعٌ من كلّ هذه النوافل ، لا تُدفعُ عنه مضرّة، ولا تجلبُ له منفعة ، أما العلم فنفْعُه متعدٍّ إلى غيره ، لا يقتصر على صاحبه بل يتجاوزُه إلى كلّ من يسمعهُ من الناس ، فبالعلم تهتدي الأمم ، بالعلم يسعدُ الناس ، بالعلم يعرفُ الناس لماذا خلقوا ، بالعلم تحملُ الناس على طاعة ربّهم ، بالعلم تدفعهم إلى فعل الخيرات ، بالعلم تدفعهم إلى معرفة الله عز وجل ، بالعلم تشيع الاستقامة بين الناس ، تشيعُ الفضيلة ، بالعلم يسعدُ مجتمعٌ بأكمله ، أما نوافل العبادات فلا تنفع إلا صاحبها .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ عن أبي أمامة الباهلي قال : ذكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

((فضل العالم على العابــد كفضلي على أدناكم ، ثم قـال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه وملائكته وأهل السمـوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير))

[الترمذي عن أبي أمامة ]

 كم هي المسافة كبيرة بين النبي عليه الصلاة والسلام الذي هو قِمّة البشريّة وبين أدنى مؤمن على وجه الأرض ؟ هذه المسافة الشاسعة هي نفسها بين العالم وبين العابد .
 وفي حديث آخر :

((فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))

[أحمد عن أبي الدرداء]

 وكلكم يعلم القصّتين الشهيرتين حيث رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يصلّي النوافل في النهــار فسأله عليه الصلاة والسلام قال : يا فتى ، من يطعمك ؟ فقال : أخي ، فقال عليه الصلاة والسلام : أخوك أعبدُ منك ، الذي يعمل ويطعمك ، وحينما جاء شريك يشكو شريكه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وشريكهُ يطلب العلم ، وربّما كان في أداء واجباته تجاه شريكه بعض الخلل ، قال عليه الصلاة والسلام لهذا الشريك الذي يشكو شريكهُ : لعلّك ترزق به! العلماء حينما فسّروا هاتين القصّتين ، وحلّلوهما ، وجدوا أنّ الذي يطلب العلم إنّما يطلبه لِيَنفع به الناس ، فهذا العمل عملٌ عند الله عظيم ، لذلك لعلّ هذا الشريك الذي يتحمَّل شريكهُ يرزقه الله من حيث لا يحتسب ، وقد أجمــع العلماء علــى أنّه لا تجوزُ الزكاة لِشابّ قويّ يستطيعُ أن يكسبَ المال ، انصرف إلى العبادة ، الزكاة لا تجوز له ، بينما تجوز الزكاة لِشابّ قويّ يطلب العلم ، لأنّ طلب العلم سيعود على المجتمع كلّه بالخير .

 

فضلُ العلم خيرٌ من فضل العبادة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ فضلُ العلم خيرٌ من فضل العبادة ، من صلى نفلاً ، وصام ، وزكّى ، وحجّ ، واعتمــر ، وسبّح ، وهلّل ، وكبَّر ، هذه الأعمال - كما قلتُ قبل قليل -لها مثوبتها الجزيلة عند الله تعالى ، ولكنّ هذه الأعمال تنتهي بانتهاء أدائها ، والفراغ منها ، وتنتهي بِمَوت صاحبها ، أما العلم فأثرهُ باقٍ ممْتدّ ، ما دام في الناس من ينتفعُ به ، مهما تطاولَت السّنون ، وتعاقبت القرون . وكلّكم يعلم الحديث الشهير فيما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :

((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة ؛ إلا من صدق جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 هذه صدقة جارية ، وهذا العلم الذي علَّمتهُ للناس يتوارثهُ الأجيال كابرًا عن كابر، جيلاً عن جيل ، هذا الكتاب الذي صنَّفتهُ ، والذي فيه توضيحٌ للحقّ قد ينتفعُ منه أُناسٌ بعد مئات السّنين ، بل بعد آلاف السّنين ، هذا الذي تحدَّث عنه النبي عليه الصلاة والسلام .
 العلماء أضافوا إلى هذه الأشياء قياسًا عليها ، قالوا : وإنّ ممَّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمٌ علّمه ، ونشرهُ ، وولدٌ صالحٌ تركهُ ، ومصحفٌ ورَّثه ، ومسجدٌ بناه ، وبيتٌ لابن السبيل جهّزه ، ونهرٌ أجراه، وصدقةٌ أخرجها من ماله في صِحّته ، وحياته ، تلحقهُ بعد موته ، فأيّ مرفقٍ حيويّ ، وأيّ مسجدٍ ، وأيّ دار أيتامٍ ، وأيّ مؤسّسة فيها نفعٌ للناس ، وأيّ كتابٍ أُلّف، وأيّ مرفقٍ تمّ إنجازهُ بنِيّة خِدمة المسلمين ، ونفعهم ، هذا الأجر ممْتدّ إلى أبد الآبدين .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لذلك يعيشُ العالم عمرًا طويلاً طَويلاً مديدًا بعد عمره الحقيقيّ ؛ لأنّ آثار علمه تمْتدّ إلى الأجيال اللاحقة :

دقّات قلب المرء قائلةٌ لـــــــــــــه  إنّ الحياة دقائق وثـــــــوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها  فالذِّكْر للإنسان عمرٌ ثـان
***

العلماء باقون ما بقي الدّهر :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يحيى بن أكثم كان مع الرشيد يومًا ، الخليفة العباسي ، الذي بلغَتْ الدولة العباسيّة في عصره أعلى درجات ازدهارها ، يحيى بن أكثم كان جالسًا مع الرشيد فقال الرشيد له : ما أنبلُ المراتب ؟ فقال يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين ، ما أنت فيه، قال : أفتعرف من هو خيرٌ منّي ؟ قال : لا ، فقال الرشيد : لكنّني أعرفهُ ، إنّه رجلٌ يقول : حدّثنا فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ويعني بهذا العالم ، قلتُ : يا أمير المؤمنين أهذا خيرٌ منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ووليّ عهد المؤمنين ؟ قال : نعم ، هو خيرٌ منِّي ، ويلك ! هذا خيرٌ منّي لأنّ اسمهُ مقترنٌ باسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ولا يموتُ أبدًا ، ونحن نموتُ ونفنى والعلماء باقون ما بقي الدّهر ، وطلب العلم مبذول لكلّ مؤمن .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ من أروع ما في هذا الموضوع قول الإمام عليّ كرّم الله وجهه : " العلم خير من المال ، لأنّ العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، يا كُمَيل مات خزّان المال وهم أحياء - وهم في أوْج حياتهم ، وهم في أوج غناهم ، إذا كانوا من الذين ما عرفوا الله عز وجل - والعلماء باقون ما بقي الدّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة " .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الاشتغال بالعلم خيرُ ما يُتطوّع به ، أي إذا أردت أن تشغل أوقات فراغك ، إذا أردت أن تحقّق ذاتك ، إذا أردت أن تعرف سرّ وُجودك ، إذا أردت أن تكون إنسانًا عند الله عظيمًا ، إذا أردت أن تكون من الفائزين ، من المفلحين ، من المتفوّقين ، ومن الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة فعليك بالعلم .

 

أقوال نفر من عليّة أصحاب رسول الله عن العلم :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ إليكم أقوال نفر من عليّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فابن مسعود رضي الله عنه يقول : " المدارسة صلاة " ، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه : " مذاكرة العلم ساعة خيرٌ من قيام ليلة " ، وابن عباس رضي الله عنه يقول : " مذاكرة العلم بعض ليلة أحبّ إليّ مِن إحيائها" ، وأبو هريرة رضي الله عنه يقول : " لأَن أجلسَ ساعةً فأتفقّه في ديني أحبّ إليّ من إحياء ليلةٍ إلى الصباح" ، وقتادة رضي الله عنه يقول : " بابٌ من العلم يحفظه الرّجل لعِلاج نفسه ، وصلاح من بعدهُ أفضل من عبادة سنة" ، والإمام الثوري يقول: " ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ، وما أعلمُ اليوم شيئًا أفضل من طلب العلم ، فقيل : ليس لهؤلاء نيّة ، فقال : طلبهم له نيّة" . ابن وهب يقـول : " كنت عند مالك رحمه الله قاعدًا عندهُ أسأله ، فجمعْتُ كتبي لأقوم ، فقال الإمام مالك : أين تريد ؟ فقلتُ : أبادر إلى الصلاة - أي النفل - فقال : ليس هذا الذي أنت فيه دون ما تذهب إليه ، إذا صحّت فيه النيّة" إذا تعلّم الإنسان العلم لِيُباهي به العلماء ، أو يماري به السّفهاء فلْيتجهّز إلى النار ، إذا تعلّمت العلم إلى الدنيا فهذا حظّك منه .
 والإمام الزهري يقول : " ما عُبد الله بمِثْل الفقه " ، ومعنى الفقه في الحِقَب الأولى من الإسلام معرفة لبّ الدّين ، وجوهر الدّين ، معرفة سرّ الوُجود ، معرفة حقيقة التوحيد ، وليس كما يتبادر إلى الناس اليوم الفقه في المصطلح المعاصر أن تعرف الأحكام الشرعيّة ، ولكنّ القضيّة أعمق من ذلك ؛ أن تعرف سرّ الدّين .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول بعضهم أيضًا : " حظّ من علمٍ أحبّ إليّ من حظ من عبادة " الإمام الشافعي ، ذلك العلم الكبير الذي ترك آثارًا لا تُمحى قال : " طلبُ العلم أفضلُ من صلاة النافلة " لو كان الإمام الشافعي عابدًا ما عرفه أحد ، ولا انتفع بعِلمه أحد ، ولا تأثّر به أحد ، ولكنّه طلب العلم وتعلّم وعلَّمَ فكان ذكره على كلّ لسان ، وكانت آراؤُه واستنباطاته وأحكامه التي عرفها من خلال النصوص مدار نفعٍ عامّ لكلّ من جاء بعده . أبو حنيفة النعمان رأس المذهب الحنفي ، الإمام مالك ، هؤلاء الفقهاء الكبار الذين يتّبعون في العالم الإسلامي ؛ هذا موقفهم من العلم .

المفاضلة بين نافلة العلم ونافلة العبادة :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ملاحظةٌ مهمّة جدًّا ، قد يتبادر إلى الذّهن في أثناء سماع هذه الخطبة المفاضلة بين العلم والعبادة ، إنّ المفاضلة بين العلم والعبادة دقّقوا فيما أقول ؛ لا تعني المفاضلة بين العلم المفروض والعبادة المفروضة ، العبادة المفروضة لابدّ من أن تؤدّى قبل كلّ شيء ، وما يجبُ أن يُعلمَ بالضرورة يجبُ أن يُعلمَ بالضرورة ، قبل كلّ شيء ليْسَت هذه الخطبة حول المفاضلة بين العلم المفروض وبين العبادة المفروضة ، لا ، ولا بين العبادة المفروضة ونافلة العلم ، ولا بين نافلة العبادة ونافلة العلم ، الموضوع الذي يُطرح الآن هو المفاضلة بين نافلة العلم ونافلة العبادة ، العبادات لابدّ من أن تؤدّى وإلا من ترك الصلاة إنكارًا لِحَقّها فقد كفر ، من ترك الصلاة تهاونًا فقد فسق ، الحديث عن نافلة العبادة ، وعن نافلة العلم، بماذا نشتغل ؟ نشتغل بطلب العلم ، لأنّ طلب العلم فيه درجات رفيعة عند الله عز وجل ، والدرجات الرفيعة بحسب النفع العميم الذي يثمره العلم .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ لا يجوز أن يُشغَل المرء بشيء عن العبادة المفروضة؛ كالصلوات المفروضة ، والسنن الراتبة ، والمحافظة عليها ، وأدائها في وقتها ، ولو كان الشُّغل في طلب العلم .
 الحديث عن النوافل ، معك وقت فراغ ماذا تفعل ؟ اُطلب به العلم ، لأنّ العلم يحرسك ، لأنّ العلم ينفعك ، لأنّ العلم يبصّرك ، لأنّ العلم يُنير لك الطريق ، تعرف الحلال من الحرام ، تعرف الشّبهات ، تعرف أركان العبــادات ، شروط العبادات ، وما تصحّ بها العبادات ، سرّ العبادات ، ظاهر العبادات ، هذا هو العلم .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ مرّة ثانية وثالثة ، كلُّ علم ممتع ، وهناك علم ممتع ونافع ، يدرّ عليك أموالاً طائلة ، وهناك ممتع ونافع ومُسعد ، هو العلم بالله عز وجل ، يُسعدك في دنياك وأُخراك .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

التفكر بآيات الله عز وجل :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ألا يكفينا قول الله عز وجل :

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾

[سورة فاطر : 28]

 ولا تنسوا أنّ إنَّما في هذه الآية تفيد القصر ، أي العلماء وحدهم ، وليس أحدٌ سواهم ، ومن لم تكن له خشية فما قيمة صلاته وصيامه ؟ ما قيمة عباداته ؟ إذا أردت أن تعرف الله ففَكِّر في ملكوت السموات والأرض ، كلّما ازددت تفكيرًا بآيات الله عز وجل ازْددْت معرفة بالله عز وجل ، وكلما ازددت معرفة به تعالى ازددت خشوعًا له ، وكلّما ازددت خشوعًا له ازددت انضباطًا ، وازددت طاعةً ، ازددن التزامًا ، ووُقوفًا عند الحلال والحرام ، ولأنّ حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح ، والعمل الصالح لا يصح إلا بنيّة حسنة ، والنيّة الحسنة لا تصح إلا بالعلم الصحيح .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور