وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 24 - سورة يوسف - تفسير الآية 111 الله هو الفعَّال وبِيَدِهِ كلّ شيء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، فالآية الأخيرة من سورة يوسف عليه السلام يقول الله عز وجل:

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾

[سورة يوسف]

 أكَّدَتْ هذه الآية أنَّ أُسلوب القِصَّة مِن أنْجع الأساليب التَّرْبَوِيَّة لإحْداث قناعة وتأثيرٍ معًا في وقتٍ، فالأب أو المعلِّم أو الداعِيَةُ إذا أراد أن يُحْدِث تأثيرًا بليغًا في نُفوس السامِعين، أو أن يحملهم على مَوْقف أو أن يحْجزهم عن سُلوكٍ ما، فَعَلَيْهِ أن يستخْدِم أسْلوب القِصَّة ؛ لماذا ؟ لأنّ الإنسان بِطَبيعتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِتَتَبُّع قِصص بني الإنسان ؛ مِن جِنْسٍ واحِدٍ وطبيعَةٍ واحِدَة، فالإنسان أحْيانًا إذا قرأ قِصَّةً يرى ذاتَهُ، أو يرى نقيضهُ أو مَثَلَهُ الأعلى،فَهُناك تَعَلُّق فِطْري للإنسان بأحداث أيِّ قِصَّة تتعلَّق بِبَني الإنسان، شَرْط أن تكون القِصَّة واقِعِيَّة، أما إن كانت خيالِيَّة فهذه يُعْنى بِها الصِّغار، أما الراشِدون لا تَعْنيهم إلا القصص الواقِعِيَّة أو التي يُمْكِن أن تَقَع.
 القِصَّة مِن شَخصِيات مُصَوَّرةٌ و مُحَلَّلَةٌ، ونَفْهم تصوُّراتِها ودوافِعَها، وأهدافها، والصِّراعات في نُفوسِها ؛ عمليَّة تحليل نفْسي دقيق، فالإنسان أحْيانًا تُحَلُّ مُشْكلاته أو يرى ذاته أو مثلَهُ الأعلى أو نقيضَهُ لذلك قال بعض كُتَّاب القِصَّة: لا بدّ للإنسان مِن شَخْصِيَةٍ يكونُها أو شَخْصِيَّةٍ يتمنَّى أن يكونها أو شَخْصِيَّةٍ يَكْرهُ أن يكونها، فمَثَلاً الشَّباب مَن هو مَثَلُهم الأعلى ؟ هذا النبي الكريم يوسف عليه السلام لِعِفَّتِهِ وطَهارَتِهِ وخَوْفِهِ من الله، فأصْبَحَتْ المبادئ ليسَتْ مُجَرَّدة ولكِنَّها مُجَسَّدَة في واقِعٍ من خلال القِصَّة، وفي شَخْصِيات والحقيقة أيها الإخوة، القُدْوَة هيَ أفْعَلُ شيءٍ في التَّوْجيه ؛ أي ألف مُحاضرة في الصِّدْق لا تُغني عن شَخْصٍ واحِدٍ صادِق، وألف مُحاضرة في الأمانة لا تُغني عن واحِدٍ أمينٍ يعيش بين أظْهُرِنا.
 ألْقَيْتُ مرَّةً في جامع العُثمان حول الأمانة، وبيَّنْتُ دقائق هذا الخُلُق الثَّمين، فالإنسان أحْيانًا يكون عليه سَنَد أو ذِمَّة أو دَيْن ويتبَجَّح أنَّهُ أدَّى الأمانة وأدَّيْتُ الدَّيْن، والحقيقة ليْسَت هذه هي الأمانة لأنَّك مُوَقِّع بيَدِك وأنت مُدان، وهذا السَّند تُقام عليه دَعْوى، أو يوضَعُ في التَّنْفيذ وقد يُحْجز على أَمْلاكك وقد يُسيء إليك صاحِبُ الدَّيْن، وقد يُشَهِّر بك بين الناس، فأنت حِفاظًا على سُمْعَتِك ومكانتِك بادَرْتَ إلى دَفْع هذه القيمة وهذا سُلوك مَدَني وذَكيّ، ولكنَّ الأمانة بِتَعْريفِها الدَّقيق أنْ يُعْطيك إنسانٌ مائة ألف ويَموتُ فَوْرًا دون أن يُعْلِمَ أحدًا كائِنًا مَن كان بِهذا المَبْلَغ، وتَذْهب أنت إلى وَرَثَتِهِ وتُعْطي هذا المَبْلَغ، إذًا هو أن تُؤدِّي ما عليك دون أن تكون مُدانًا أمام الخَلْق، بعد سِتَّة أشْهَر جاءَتني ورقة صغيرة، وأنا أثق أنَّ صاحبها صادِق يقول لي: والله الذي لا إله إلا هو أدَّيْتُ لِوَرَثَةٍ عشرين مليون ليرة دون أن أكون مُدانًا أمام أحد ولكن خَوْفًا من الله عز وجل، لذا أمانة الرجل خير مِن ألف مُحاضرة في الأمانة، وكذا العفيف والصادِق، لذا التَّعْليم النَّظري لا قيمة له فلمَّا أصْبَحَ الإسلام بالكُتب انتَهى، ولكن لمَّا يكون الإسلام في أشْخاص تراهم أمامك يتحرَّكون، ويعيش الظروف نفسها، وكذا المُغرَيات والضُّغوطات نفسها، وعوامل البيئة نفسَها، ومع كل هذه المضائق والاخْتِناقات يبْقى أمينًا صادِقًا عفيفًا، فهذا الإنسان هو الذي يُحْيي ويؤثِّر في الناس، نحن الآن لَسْنا بِحاجَة إلى معلومات، والمكتبة الإسلامِيَّة الآن مُمْتلئة، وأينما ذَهَبْتَ تجد آلاف التفاسير، وآلاف كتب الحديث وآلاف كتب السيرة، وآلاف البحوث والموضوعات التي تردّ على خُصوم الإسلام، وأشرِطَة، ولكن نحن الآن إلى أمَسِّ الحاجة إلى إنسانٍ مُسلِم، ترى في بيتِهِ وعمله ودُكانِهِ الإسلام، وترى في نُزهته وأفراحِهِ الإسلام، ولا يُحْيي هذا الدِّين إلا المَثَل الأعلى، لذلك قد تَسْتغْرِبون ؛ ما مُهِمَّة النبي ؟ الله عز وجل أرْسَلهُ رسولاً، قد يقول أحدكم التَّبْليغ فأقول لك: لا، فالتَّبْليغ مُهِمَّة ثانَوِيَّة وأيُّ إنسانٍ يُمْكن أن يُبلِّغَك، النبي عليه الصلاة والسلام أكبر مُهِمَّتِهِ القُدْوَة ! وأنت كأب وكصاحِبِ محَل، وكَمُعَلِّم ومُربِّي، أنتَ بِإمْكانِكَ أن تكون أكبر داعِيَةٍ وأنت صامِت ؛ إتْقانُ عَمَلِكِ وصِدْقكَ وعَمَلَك، سمَّان جاءهُ زَبون فقال له: هل البيض طازج ؟ فقال السَّمان: لا، ولكن جاري الآن جاء بِبَيْضٍ طازِج ؛ هذا هو المَوقف الصادق، الدنيا كُلُّها لا تستأهل أن تكذب من أجلها لأنَّها فانِيَة، ويأتي ملَكُ الموت ويأخذ مِنَّا كُلَّ شيءٍ في ثانِيَة ويبْقى الإنسان رهينَ عملِهِ، قال تعالى:

 

﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)﴾

 

[سورة المدثر]

 لذا أيها الإخوة، قِصَّة واحِدَة إذا أطْلَعْتَ أولادَكَ عليها، وكانت النتائِج باهِظَة جدًا، يكون لها أثَر فعَّال، إنسانٌ عاشَ معك فارْتَكَبَ الحرام فدَمَّرهُ الله، أخٌ كريم حدَّثني كان ذاهِبًا إلى المطار مع صديقٍ له انْحَرَفَت السيارة على اليمين فجْأةً، فابتسَمَ السائق ابْتِسامةً استهزائِيَّة والذي حصَل أنَّ كلْبًا كان بالطريق حاجِزًا مكانًا قدرُهُ أربعين سنتمتر، كان نائِمًا تحت واقِيَة مِن شِدَّة البرْد، فهذا السائِق مرَّ على الكلب لِيَقْطَعَ رجليهِ دون أن يقتل الكلب !! يُقْسِمُ هذا الرَّجل وهو حيّ يُرزَق أنَّهُ في الأسبوع الثاني الذي فَعَلَ هذا الفِعْل بالمكان نفسِهِ، تعطَّلَت سيارة ذاك المجرِم فأخَذ الكريك لِيُبَدِّل عجلة السيارة، فإذا بالدولاب يقع فوق رُسْغَيْه، فحين وصل إلى المستشفى اسْوَدَّت يديْه، فقال الطبيب لا حلّ إلا بِقَطْه يَدَيْك !! فَهُو فعل فعلته بالسبت مع الكلب وفي السبت القادِم قُطِعَت يداهُ.
 قال تعالى:

 

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)﴾

 

[سورة يوسف]

 ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أرادوا وَضعهُ في الجبّ وأراد الله تعالى أن يكون عزيز مصر، قال تعالى:

 

﴿مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾

 

[سورة فاطر]

 فيا أيها الإخوة مرَّةً ثانِيَة أقول لكم: يُمْكن أن تعرف الله تعالى مِن الكَون، وهذا باب واسِع ؛ الشَّمس والقمر والنُّجوم والبِحار والطيور والجبال والصَّحارى والخضار والفواكه والأغْوار، كُلّ هذا خَلْق الله، ويُمْكِن أن تعرفهُ بالقدر نفسِهِ مِن أفعالهِ تعالى ؛ زلازل، فيضانات، حروب أهْلِيَّة فسق فُجور ودمار وحريق، ويُمكن لن تعرفَهُ من كلامه تعالى، فأنت لك ثلاثة مصادِر، فَكَلامُهُ يدلّ عليه وهو القرآن وأفعالهُ تدلّ عليه، وخَلْقُهُ يدلّ عليه، والدليل قوله تعالى:

 

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)﴾

 

[سورة آل عمران]

 هذا خلقُه، وقوله تعالى:

 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)﴾

 

[سورة النمل]

 هذه أفعالهُ، وقوله تعالى:

 

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾

 

[سورة محمد]

 وهذا كلامُه.
 أيها الإخوة، هذه أطْوَل قِصَّة في القرآن على الإطلاق، ومُلَخَّصُها أنَّ الله هو الفعَّال وبِيَدِهِ كلّ شيء، فأنت إذا وحَّدْتَ اسْتَقَمْت، وأيْقَنْتَ أنَّ الأمر كلَّه بيَدِه، فلو كان لك شُغل مع المدير فهل تترجَّى الآذِن ؟! تكون حينها أحْمَقًا، فكذلك إن أيْقَنْتَ أنَّ الأمر بيد الله تعالى لا تبْذل ماء وجْهك لأحَدٍ، شرف المؤمن قيامُهُ بالليل وعِزُّهُ اسْتِغْناؤُهُ عن الناس ولا ينبغي للمؤمن أن يُذِلَّ نفْسهُ، واطْلُبوا الحوائِج بِعِزَّة الأنفس فإنَّ الحوائِج تَجري بالمقادير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور