وضع داكن
24-04-2024
Logo
الدرس : 14 - سورة يوسف - تفسير الآيات 51 - 53 النُّفوس ثلاثة نَفْسٌ أمَّارةٌ بالسُّوء ونَفْسٌ لوَّامَة ونَفْسٌ مُطْمَئِنَّة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، لازِلْنا في قِصَّة يوسُف عليه السلام، قال تعالى:

﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾

[ سورة يوسف ]

 هذه الآيات انتَهَيْنا منها في الدرس الماضي، قال تعالى:

 

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 أيها الأخوة الكرام، النُّفوس ثلاثة ؛ نَفْسٌ أمَّارةٌ بالسُّوء، ونَفْسٌ لوَّامَة ونَفْسٌ مُطْمَئِنَّة، قال تعالى:

﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)﴾

(سورة القيامة)

 وقال تعالى:

﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)﴾

[ سورة يوسف ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 النَّفْس هي أنت، هي ذاتُك، هي المُخاطَبَة، والمُؤْمِنَة، والمُقَصِّرَة والمُحْسِنَة، والمسيئة، وهذه النَّفْس لا تَموت، ولكن تَذوق المَوْت فما دام الله قد خَلَقَها فقد خَلَقَها لِتَبْقى إلى أبد الآبِدين ؛ إمَّا في جنَّة يدومُ نعيمُها أو في نارٍ لا يَنْفذ عذابها.
 أيها الأخوة الكرام، تَصَوَّر تمامًا النَّفْس الأمَّارَة بالسُّوء مَرْكَبة تسير بِلا مِقْوَد، وبلا مصابيح، يقولون فلانٌ فَعَل وأكل حرامًا وزَنى، شيءٌ طبيعِيّ جدًا، وهذا هو الشيء الطبيعِيّ لِإنسانٍ مَقْطوعٍ عن الله تعالى ولإنسانٍ انطفأت أنوارُهُ، ولا يَمْلِكُ المَنْهَج الصحيح، فَكُلّ إنسانٍ لا يَعْرِف المَنْهَج وانْطَفأتْ أنْوارُه فالحادِث صحيحٌ وحَتْمِيّ، وطبيعيّ ومَعْقول، هذا معنى قول الله عز وجل:

 

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 النَّفْسُ أودِع فيها الشَّهوات وحُبَّ النِّساء والمال والعُلُوَ والسَّيْطَرة، أوْدَع فيها هذه الشَّهوات كي تَرْقى إلى الله تعالى، الشَّهوات كما أقول لكم دائِمًا: سُلَّم نرْقى بها إلى الله تعالى، ودَرَكاتٍ نَهْوي بها إلى النار وهي حِيَادِيَّة، فما مِن شَهْوَةٍ أودِعَتْ فينا إلا ويُمكن أن تُوَظَّف في الخير أو في الشرّ، وما مِن قُدْرَةٍ أوْدَعَها الله تعالى فيك، وما مِن مَلَكَةٍ أو غريزَةٍ إلا ويُمْكِنُ أن تُوَظَّفَ في الحق، كما يُمكنُ أن تُوَظَّف في الباطل، لذلك النَّفْس قبل أن تَعْرِفَ الله فهِيَ أمَّارَةٌ بالسُّوء، وهو شيء طبيعيّ جدًا، فَهِيَ أوِدَع فيها حُبَّ المال، والمال أمامها وينبغي أن تأخُذَهُ حقًّا كان أو باطِلاً، لكِنَّ النَّفْس التي تَعَرَّفَتْ إلى الله تعالى واتَّصَلَتْ به رَحِمَها اله عز وجل، ورَحِمَها بِهذا النُّور الذي أُلْقِيَ في قلْبِها، قال تعالى:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)﴾

[ سورة الأنفال ]

 وقال تعالى:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(28)﴾

[ سورة الحديد ]

 فالإنسان يُرضيه القرار الأحْمَق ! لماذا ؟ لأنَّهُ رأى أنَّ هذا لِصالِحِه، وهذه رؤيةٌ خاطِئَة، إذًا سببُ شَقَاء الإنسان رُؤْيَتُهُ الخاطِئَة، لماذا قال يوسف عليه السلام: معاذ الله إنَّه ربي أحْسن مثواي ؟! لأنَّهُ رأى عواقب الزِّنا ولماذا ينْغَمِس في هذه المَعْصِيَة الآن العَفِنَة القذِرَة ملايين الأشْخاص كُلّ يوم ؟! لأنَّهم رأَوْها مَغْنَمًا، إذًا الذي يُفَرِّق بين الإثْم والطاعة صِحَّةُ الرؤيَة فأنت إما أن ترى بِنُورٍ أوْدَعَهُ الله تعالى فيك، وإما أن ترى بِبَيانٍ بيَّنَهُ الله لك.
 أوَّلاً تُصْغي السَّمْع للحق، وتقْرأ القرآن، فإذا فَعَلْتَ هذا قذفَ الله في قلبِكَ النور، فلو أنَّ طالِبًا اخْتِصاص كيمْياء مُبْتَدِأ يعْرِفُ المواد في البِداية باللُّصاقات ؛ هذه صوديوم وهذا بوتاسيوم... لكن بعد الممارسة الطويلة يعْرِفُ المادَّة ليس مِن اسْمِها ولا مِن لُصاقَتِها بل مِن مُعايَنَتِها فأنْتَ تَصْعَد إذا اتَّخَذْتَ قرارًا صحيحًا، وهذا القَرار أساسُهُ إمَّا القناعَة التي أساسُها البيَان، وإمَّا رؤيَة أساسُها الاتِّصال بالله، وإما أن يجْتَمِع هذان معًا ‍، لذلك النَّفْس الأمَّارَة بالسوء مِن الطَّبيعيّ والمَعْقول أن تأمُرَ بالسُّوء أو تتَّجِهَ إليه، كما لو قيل لك: سيارة تمْشي بِطَريق مملوء بالمُنْعَطَفات وليس معها مصباح ‍! فلا بدّ مِن أن تصْطَدِم، وأخرى تمْشي بلا مِقْوَد ! فلا بدّ أن تصْطَدِم، فالحادِث حَتْمي، وطبيعيّ والشيء الغريب أن لا تصْطَدِم، وأن لا تقع بحَواجِز، فَكُلّ إنسانٍ مَقْطوعٌ عن الله تعالى مِن البديهي و الطبيعي أن يواكب الحرام ويعْصِيَ الله تعالى ويزْني لأنَّهُ أعْمى، ومعه شَهَوات تُحَرِّكُهُ، ولا نورَ معه ولا بيان ؛ فالقرآن والسنَّة بيان، والاتِّصال بهما مَعْدوم، وهذا هو معنى الآية: إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء.
 أما إذا تعَرَّفَ الإنسان بالله واتَّصَل به، ويذوق طَعْم القُرْب فإذا انْقَطَع من الله تعالى فجْأةً، فهذا دخل بِصِنْفٍ ثاني، هو في قوله تعالى:

﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)﴾

[ سورة القيامة ]

 دائِمًا يلوم نفْسَهُ، لماذا إقبالي على الله ضَعيف ؟ ما الذي فَعَلْتَ ؟ لعلِّي اقْتَرَفْت ! أو تكلَّمْت كلمَةً غير مناسبة، فالنَّفْس اللَّوامَة أقْسَم بها الله تعالى، والإنسان الراقي جدًا مَن أسرَّتْهُ حسَنَتُه وساءَتْهُ سيِّئتُهُ، فالذي يَقْتَرِف السيِّئات ثمّ ينام ويسخر هذا إنسانٌ ميِّت لا يعْبأ الله به أبدًا، وهذا معنى قول النبي الكريم:

 

((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ))

 

[ رواه مسلم ]

 ليس معنى لو لم تذنِبوا أي ترْتَكِبوا الذُّنوب ! لا، ولكن المعنى إذا لم يَكُن لكم حساسِيَّة.
 أحْيانًا يضعُ أحدنا يده على قلب المريض فيقول: له نبْض ضعيف ! فإذا لم يكن هناك نَبْض فهذا ميِّت، تضَعُ مرآةً أمامَهُ فلا تَجِدُ البُخار هذا يعني: عظَّم الله أجركم ! فالطبيب إذا وَجَد النَّبض ضعيفًا أو مُقارب للصِّفْر يأتي بِخيْط ويضعُه أمام عين المريض فإذا تحرَّكَت الحدقة كان هذا دليل الحياة، ويأتي بِمرآةٍ ويضعُها أمام أنفِه فإذا وُجِد بُخار ماء كان هذا يعني أنَّه على قيْد الحياة، فإذا ما تغيَّت الحدقة وما ظهر البخار كان هذا يعني أنَّه لا يوجد نَبْض، وهكذا الإنسان إذا ارْتَكَب معْصِيَة ولم يتأثَّر ونام مرتاحًا وأكل الحرام، فهذا إنسان قد انتهى.
 وعلى هذا فالنَّفْس اللَّوامة تعْرف الله ؛ يجوز أو لا يجوز، يرْضى أم لا يرْضى، شَرعي أو غير شرْعي، ظلَمْت أم لا، فهذا شُعور دليل الحياة، إلا أنّ الأرْقى منه النَّفس المطمئِنَّة، قال تعالى:

﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)﴾

[ سورة يوسف ]

 النَّفْس اللَّوامَة نفْسٌ تعرَّفَتْ إلى الله تعالى مَعْرِفَةً غير كافِيَة، فهي بين أخْذٍ وردّ، وبين طاعة ومعْصِيَة لكِنَّ النفس المطمئنة كما قال تعالى:

﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)﴾

[ سورة يوسف ]

 علامة الحياة اللَّوْم، لكنَّ النبي الكريم وصَفَهُ الله تعالى بأنَّهُ مَحْمود عنده وعند الناس، وعند نفْسِهِ، فأحْيانًا تجد أحدهم ذَكِيًّا أمام الناس ويَنْتَزِع إعْجاب الآخرين ولكِنَّه يحْتَقِرُ نفْسِهِ؛ يكون عنده شيء من النِّفاق، وشيء من الازْدِواجِيَّة والدَّجَل، يُظْهِر شيئًا ويُبطِن شيئًا آخر، فالإنسان لا يرْتاح إلا إذا تعرَّفَ إلى الله تعالى، قال تعالى:

 

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)﴾

 

[ سورة يوسف ]

 نرْجو الله سبحانه وتعالى أن نكون مِن أصْحاب النُّفوس المطْمَئِنَّة، اِطْمأنَّتْ حينما عرفَت ربَّها وأطاعَتْهُ وتقَرَّبَتْ إليه.

 

فلو شاهَدَت عَيْناكَ مِن حسـن  ما رأوْهُ لما ولَّيْتَ عنَّا لِغَيْرِنَا
ولو سَمِعَت أُذناك حُسْن خِطابنا  خَلَعْتَ عنك ثِياب العُجْب وجئْتَنا
ولو ذُقْتَ مِن طَعْم المحبَّة ذرَّةً  عَذَرْتَ الذي أضْحى قتيلاً بِقُرْبِنا
ولو نسمَتْ من قربنا لك نسمة  لَمُتَّ غريبًا واشْتِياقًا لِقُرْبِـــنا
فما حبُّنا سَهلٌ وكل من ادَّعى  سُهولتهُ كُنَّا له قد جَهِلْتَــــنا
***

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور