وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة يوسف - تفسير الآيتان 4-5 ، حب الظهور يقصم الظهور ‍
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 أيها الأخوة الكرام، مع الآية الخامسة من سورة يوسف عليه السلام قال تعالى:

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾

[سورة يوسف]

 أوَّلاً: كَثْرَةُ الظُّهور تَقْصِمُ الظُّهور، فأحْيانًا ينْشأ لدى الإنسان رَغْبة لإظْهار ما عنده ؛ بيْتَهُ وأثاثهُ وثُرَيَّات، وسُجَّاد، ومَرْكَبَته، ورِحْلاتِه وعَقْد قِران ابنِه، هذه الرَّغْبة غير مَشْروعَة لأنّ الله تعالى وصَفَ قارون، ماذا فَعَل ؟‍‍! خرَجَ على قَوْمِهِ بِزِينتِه، قال تعالى:

 

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)﴾

 

[سورة القصص]

 وهناك آية أدَقُّ من ذلك، وهي قوله تعالى:

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾

[سورة القصص]

 فالآخرة أحَدُ أثْمانِها أنَّ الذي يَطْلُبُها لا يُريدُ عُلُوًّا في الأرض، وكلّ إنسان يبْتغي العُلُوّ في الأرض إما عن طريق التَّباهي بِمَتاعِهِ، يقول الإمام علي كرَّمَ الله وَجْهه: في آخر الزَّمان؛ قيمة المرء متاعهُ فقيمتُكَ الاجْتِماعِيَّة تَسْتَمِدُّها من مساحة بيْتِك، ومِن ثمن بيتِك، ومن مَوْقِعِ بيتِك، ومِن مركبة سيارتِك، ومِن حجْم دَخْلِك، ومن أناقة بيتك أما القِيَم فهي مُنْعَدِمة، لذا كلّ إنسان حَجْمُهُ الاجْتِماعي عند الناس بِحَجْمِهِ المالي.
 متى يبْحث الإنسان عن العُلُوّ في الأرض ؟ إذا أفرط بالبُعد عن الله تعالى، ومتى يبْحث عن السَّجداء المديح والسَّجداء الثَّناء ؟ ومتى يشْعر بِنَشْوةٍ إذا دُهِشَ الناس بِما عنده ؛ ماله وأناقة بيْتِه، وطعامِه ؟! هذه الأعراس التي تُقام بالفنادِق وتُكَلِّف عشرات الملايين، لماذا هي ؟ قال تعالى:

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾

[سورة القصص]

 كلّ إنسان أكْرمهُ الله بالاتِّصال به وذاقَ طَعْم القُرْب، يسْتَغْني عن مديح الناس، وحُبِّ الظُّهور.
 قال تعالى:

 

﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾

 

[سورة يوسف]

 لم يَقُل: رَأيْتُها، هذا لو كان الشَّمْس والقمر، فَكُلّ جمْع غير عاقل يُجْمَع جَمْع مُؤَنَّث، إنَّما قال رأيْتُهم، فالمَقْصود بالشَّمْس أبوه، وبالقَمَر أمُّه، وبالكواكب أخوته شيءٌ دقيق جدًا؛ جِبِلَّةُ النَّفْس الإنسانِيَّة فُطِرَت على صِفَةٍ هي الغَيْرَة، والغيرَة في الأساس تُوَظَّف في الحق والباطل فلو رأى إنسانٌ رجلاً مُؤْمِنًا مُتَفَوِّق في إيمانِه واسْتِقامَتِه، وعمَلِهِ ودَعْوَتِهِ إلى الله عز وجل فهناك مَن وظيفتهم الغيْرة، فالغيْرة إذا اتَّجَهَتْ إلى أعْمال الآخرة فَهِيَ مَحْمودة، تُصْبِحُ حينها غِبْطة، أما إن اتَّجَهَت إلى الدنيا تُصْبِحُ حَسَدًا فَأهْل الدِّين يغارون مِن بعْضِهم بعْضًا، ويتمنَّى الذي لا يَحْفَظ القرآن أن يحْفظَهُ، والذي لا يقوم الليل أن يقومَهُ والذي يُنْفِقُ مئَةً أن يُنْفِقَ ألْفًا، فالغَيْرة في حَقْل الدِّين مَطْلوبَة، والله عز وجل قال:

﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾

[سورة المطففين]

 وقال تعالى:

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾

[سورة الصافات]

 إلا أنّ هذه الغيرة هي المَحْمودة، والنبي عليه الصلاة والسلام سمَّاها بالمَجاز الحَسَد، قال عليه الصلاة والسلام: عن قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْد َاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا ))

 

[ رواه البخاري ]

 فهذه الجِبِلَّة هي في النَّفْس البَشَرِيَّة، وهي أنَّ الإنسان يتمنَّى أن يكون كأخيه، شيء طيِّب، لكن هذه الجِبِلَّة قد تُصْرف في الحق، وقد تُصْرَف في الباطل، ففي الحق مُنافَسَة، وفي الباطل حسَد، والحسَد يُوَلِّد المكائد والمؤامرات.
 يبْدأ بِتَمَنِّي زوال النِّعْمة عن أخيه، وأن تتحوَّل إليك، هذا أوَّل مُسْتوى والمُسْتوى الأعلى يتمنَّى أن تزول عن أخيك دون أن تَصِلَ إليك والثالثة أخْطر: يتحرَّك، ويُقَدِّم شَكْوى كي يُضْبط بِمُخالفَة، فهذا يُتْبِعُ التَّمَنِّي بِعَمَل، والتَّخْطيط له وبِسُلوك وشَكْوى وتَقْرير ووِشايَة.
 فهؤلاء المستويات أحلاهم مُرّ، وهؤلاء إذا رأَوْا إخوانهم في الضِّيق فَرِحوا، والثالثة هي مِن أشَدِّ أنواع الحسَد، أما إذا الإنسان غبط أخوه من أجل الآخرة ؛ حفظ القرآن، وإيمانٍ قوِي، إنسان طليق، إنشاء مَسْجد، فهذا كلُّه اسمُهُ غِبْطة وهو مَقْبول وفضيلة، وهو الذي يُحِرِّكُ الإنسان إلى مَرْضاة الله عز وجل، والغيرة في الحق فضيلة
 فالآية:

﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)﴾

[سورة القصص]

 التَّعْليل العِلمي، لمَّا الإنسان يَقْسو قلبُه من الاتِّصال بالله عز وجل وليس حولَهُ إلا ثناء الناس عليه، يَسْعى حينها إلى الظُّهور، يبْني حياته كلَّها على المظاهر ؛ إن في البيت أو في العمل أو في الإنفاق أو الولائم، فالأصل في هذا ثناء الناس عليه في ذَوْقِه وأخْلاقِه وإنفاقِه فهذا مرض خطير، والله عز وجل حينما يعْلم من العبْد هذا الاتِّجاه يُخَيِّبُ ظنَّهُ كثيرًا، يأتي الحسد فيقول لك: به عَيْنٌ
 لله درُّ الحسَدِ ما أعْدَلَه بدأ بِصاحِبِهِ فَقَتَلَهُ
 فلمَّا الإنسان يُحاوِل الظُّهور، وإبداء ما عنده فما عليه إلا أنْ يتحمَّل حسَدَ الحُسَّاد، فالآية فيها إشارة لطيفة:

 

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾

 

[سورة يوسف]

 هناك أشْخاص يتكلَّم في المجالس عن زَوْجَتِه ! مُمْتازة خياطة وطبَّاخة وإن كان قليل المروءة قد يتكلَّم عن جمالها ! وهذا عن دَخْلِهِ وإنْفاقِه ونُزُهاتِهِ، وعن ولائِمِه، قال تعالى:

 

﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)﴾

 

[سورة يوسف]

 فالاسْتِنْباط الأوَّل من هذه الآية هو: أنْ لا تُحاوِل أن تَعْلُوَ في الأرض عن طريق إظْهار ما عندَكَ، أما إذا كان هناك اتِّصال بالله عز وجل وتَجَلِّي على قلْب الإنسان، يشْعر الإنسان بِغِنى عن مديح الناس له وعن ثنائِهِم، وهذا سِرُّ الإخْلاص، فهو لا يحتاج إلى ظُهور ولا إلى عُلُوّ ولا إلى مديح، لأنَّه جاءَهُ من الله تعالى من الطمأنينة والسَّكينة ما أغْناه عن هذه المشاعِر المَرَضِيَّة.
 فيا أيها الأخوة الكرام، هذه القِصَّة منا قلْتُ في دَرْسٍ سابِق فيها اسْتِنْباطان كثيرة، وفيها حوارات، ومواقف، وتَحليل، وعُقَد وحركات، وسَرْد، وكلّ شيء في القِصَّة يعْني قاعِدَة ينبغي أن نتَّخِذَها في حياتنا.
 مُلَخَّص هذا الدرس ؛ كَثْرة الظُّهور تَقْصِمُ الظُّهور، قال تعالى:

﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(7)﴾

[سورة القصص]

 والإنسان إذا رأى شيئًا جميلاً، وسيارة جميلة، ومَكْتب فَخْم، ماذا يفْعَل ؟‌ يقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((اللهم لا عَيْش إلا عيش الآخرة ))

 وهذه هي السنَّة، كما أنَّه يدْعو بالبَرَكة، وفي دَرْس آخر نُتابع هذا الموضوع.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور