وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة النور - تفسير الآية 21 اللهَ سبحانه وتعالى كلَّفنا بحمل الأمانةِ وأعطانا مُقوِّماتِها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام، فالآية الواحدةُ و العشرون من سورة النور وهي قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)﴾

[سورة النور]

 أيها الأخوة من خلالِ هذه الآيةِ تتَّضِح حقائقُ كثيرةٌ، و هي أن اللهَ سبحانه و تعالى كلَّفنا حملَ الأمانةِ و أعطانا مُقوِّماتِها، أعطانا كونًا ينطِق بوجود اللهِ و وحدانيتِه و كمالِه، و أعطانا عقلا نستطيع أن نصلَ به إلى الله، من خلالِ مبادِئَ متوافقةٍ مع نظام الكونِ، أعطانا فطرةً لا ترتاحُ إلا إلى الصوابِ و الخير فإذا انحرف الإنسانُ ضاقتْ نفسُه قال تعالى:

 

﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا﴾

 

[سورة الشمس]

 أعطانا شهوةً نرقى بها مرَّتين ؛ مرَّةً إذا سلكنا فيها القنواتِ الشرعيةَ التي سمحَ اللهُ لنا بها، ومرَّةً إذا ضبطْنا أنفسَنا عن قناةٍ غير شرعيةٍ، نرقى إلى الله بإطلاق البصر في من يحلُّ لنا من زوجاتنا و بغضِّ البصرِ عن كلِّ امرأةٍ أجنبيةٍ لا تحلُّ لنا، نرقى بأخذِ المالِ الحلالِ و إنفاقه في الوجوهِ الصحيحةِ و نرقى بالكفِّ عن المال الحرامِ مهما كان كثيرًا، فهذه الشَّهواتُ التي يظُنُّ الناسُ أنها سببُ شقائنا هي في الحقيقةِ لا بدَّ لها من أن تكونَ سببَ سعادتِنا، بالشهوات نرقى إلى الله، حبُّ النساء و حبُّ المال و حبُّ العُلوِّ في الأرضِ، أعطانا كونًا و عقلا و فطرةً و أعطانا شهوةً، و أعطانا حرِّيةَ الاختيار، و أخَّرَ الثوابَ و العقابَ، ولو جاء الثوابُ بعد الإحسان و العقابُ بعد الإساءةِ لانتهى الاختيارُ وحلَّ محلَّه الاضطرار، فإذا دفع الإنسانُ ثمنَ المعصيةِ غاليًا و سريعًا لا يعصي اللهَ لا حبًّا في اللهِ و لا طمعًا في الجنَّةِ و لا ابتغاءَ وجهه، لا يعصي اللهَ خوفًا من الضربةِ القاصمةِ، و إذا أحسنَ الإنسانُ و أنفقَ ألفَ ليرةٍ و جاءه بعد ساعةٍ ألفُ ليرةٍ، ينطلِق الناسُ إلى إنفاق المالِ لا حبًّا في اللهِ و لا حبًّا في الآخرةِ و لا ابتغاءَ وجهه و لكنْ ابتغاءَ الربحِ الجزيلِ، إذاً أعطانا حرِّيةَ الاختيارِ و أخّرَ الثوابَ و العقابَ ليظهرَ الإنسانُ على حقيقتِه و ليأخذَ أبعادَه، ومع ذلك و لئلَّا يطغى العقلُ و تنطلقَ الفطرةُ أعطانا شرعًا، فالحَسَنُ ما حسَّنه الشرعُ و القبيحُ ما قبَّحه الشرعُ، ولو أن الله تعالى اكتفى بهذا ما زكى منَّا من أحدٍ، فضلًا عن الكون و العقل و الفطرة و الشهوة و الاختيارِ و القوَّة و الشرعِ إذا أخطأنا يعاقِبُنا و إذا أحسنَّا يُكافئُنا، هذه هي التربيةُ، فلولا أن الله يربِّينا و يأخذ بأيدينا لِّبنا بين الخوف و الرجاءِ و الرَّخاء و الشِّدَّةِ و الصِّحة و المرض و العلوِّ الانخفاضِ و العزَّة و الذلِّ و الفقر و الغنى ؛ لولا أن الله يقلِّبنا دائمًا ما زكى منَّا من أحد أبدًا، ففضلُ اللهِ علينا بأن خلقَنا و أمدَّنا و هدانا و ربَّانا نعمة الإيجادِ وأمدَّنا بالهواء و الشراب و الزوجةِ و الأولادِ و كلِّ مقوِّماتِ الحياةِ، خلقَنا خالقٌ و أمدَّنا مرَبِّي ثم هدانا إليه فهو الهادي و بعد أن هدانا ربَّانا تربيةً نفسيةً، تربيةُ الإمداد تربية جسميةٌ و تربية التأديبِ و الثوابِ و العقابِ تربيةٌ نفسيةٌ، ومع كلِّ هذا قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾

 

[سورة النور]

 يبدو أن الإنسَ و الجنَّ أعطاهم الله عقلا و الدليلُ أن الشيطانَ ذكيٌّ لا يأتي إلى المؤمنِ و يقول له: إِزْنِ، يقول له: هذه المرأةُ نصف المجتمع و هذه المرأة لها حق الحياة و لها أن تعمل و إذا كانت معك هُذَِبتْ أخلاقُك و إذا نظرتَ إليها هديتَها إلى الله، يدخل عليك من اليمين، لأن الشيطانَ أقسم كما قال تعالى:

 

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

 

[سورة الأعراف]

 قاعد لك على الطريق، أمَّا الملاهي فالذي يسلكُها هو الشيطانُ ذاتُه، فلا داعي للشيطانِ أن يقفَ على أبواب الملاهي، فالشيطانُ يقعد للمؤمن الصراط المستقيمَ، قال تعالى:

 

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

 

[سورة الأعراف]

 الرجلُ قد يربحُ الملايينَ ثم يقول السوق ميِّتٌ و لا نربحُ، فلماذا تنكر فضل الله عليك، أما عن شمائلهم يأمرهم بالمعاصي و أما من بين أيديهم يدعوهم إلى الحداثة و التقدُّمِ والعلم والرُّقَيِّ و الحضارةِ و أن القديم لا يصلح، و أما من خلفهم ؛ آباءنا و أجدادنا هكذا تربيْنا و نشأنا، فإذا كانت في العادات والتقاليد أشياءُ مخالفةٌ للدينِ الشيطانُ يتمسَّك بها ويقول لك: تراث الآباءِ و الأجداد و التقاليد و الفلكلور، كلُّها مخالفةٌ للدين، و إذا أراد الشيطانُ من الحداثةِ التَّفلُّتَ و الاختلاطَ و الخمورَ و الملاهيَ يقول لك: هو علم و حضارة و تقدُّم، أجهزةُ الاتصال أنت تعيش مع العالم كلِّه بهذه، لماذا تحرم نفسك منها ؟! من بين أيديهم ؛ الأشياءُ الجديدةُ ‍، و من خلفهم الأشياءُ القديمةُ، و عن أيمانهم من طريق الدين إمَّا أن يوسْوِسَ لك في العباداتِ أو في المعاملاتِ، و على كلٍّ فله أربعةُ مداخلَ، أمَّا من فوق فليس له مدخلٌ، العلوُّ لله عز وجل، فمن أقبل على الله هذا الطريق ليس فيه شيطانٌ، وتحت الأرض الانكسار إلى الله عز وجل، فهناك طريقان ليس فيهما شيطان ؛ الطرقُ إلى الله و طريقُ الانكسار إلى الله، من تحت ليس فيه شيطانٌ، قال تعالى:

 

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)﴾

 

[سورة الأعراف]

 فالشيطانُ ذكيٌّ يأتيك في الصلاة ؛ أنقصْتَ شدَّةً في الفاتحةِ بطُلت الصلاةُ معقول هذا !! فالأشياءُ الصغيرة يكبِّرها الشيطانُ إلى حدِّ الكبيرةِ، فأهل الضلال الأشياءُ الصغيرة يجعلونها أكبر الكبائر و الكبيرة يتغاضَوْن عنها هكذا يفعل بعضُ الناسِ.

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

 

[سورة النور]

 فأوَّلُ خطوةٍ معقولةٌ، قاسم أمين قال: هذه المرأةُ مخنوقةٌ بهذا الحجابِ تغطِّي وجهَها فقط، فتوسَّعت الفتحةُ حتَّى مشتْ في الطريق كما خلقها اللهُ، فدائمًا الشيطان يمشي خطوةً خطوةً، و المعاصي التي لها قوَّةُ جذبٍ، اللهُ نهانا عن الاقتراب منها، تيارٌ من ستَّةِ آلاف فولْت إذا تقرَّب منه الإنسانُ ثمانيةَ أمتار يصير فحما، وزير الكهرباء يضع لوحةً "ممنوع الاقتراب " و ليس "ممنوع المسُّ " لأنه يصير فحماً قبل الاقتراب، و كذلك كلُّ شهوةٍ فيها قوَّةُ جذبٍ لا بدَّ أن تتركَ بينك و بينها هامشًا كبيرًا للأمانِ، نهر عميق سيَّالٌ و له على الحافةِ حشيش زَلِقٌ ثم بعده منطقةٌ جافَّةٌ التي هي الأمانُ و المنطقة الزَّلِقةُ هي الشبهاتِ و النهرُ هو الهلاكُ فالإنسانُ يدَعُ بينه و بين المعصيةِ هامش أمانٍ، هذا معنى قوله تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾

 

[سورة النور]

 و كذلك قوله تعالى:

 

﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾

 

[سورة البقرة]

 وقوله تعالى:

 

﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا﴾

 

[سورة البقرة]

 لا تقربوها لأن من الشهواتِ ما لها قوَّةُ جذبٍ ؛ منها النساءُ، و السليم هو الذي يهرب من أسبابِ المعصيةِ، و الإنسانُ إذا أُثِيرَ يفرِزُ الدماغُ مادَّةً تعطِّلُ المحاكمةَ، و الإنسانُ في أعلى درجاتِ الفهم و الثقافةِ كيف تُغوِيه فتاةٌ ساقطةٌ ‍!! فالقاعدةُ أن الإنسانَ إذا أثيرَ تتعطَّلُ محاكمتُه، لذلك
 عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم خَطَبَ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَامِي فِيكُمْ فَقَالَ:

 

(( اسْتَوْصُوا بِأَصْحَابِي خَيْرًا ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْتَدِئُ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ لَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ))

 

[رواه الترمذي]

 هذه قاعدةٌ، ممنوعٌ الخلوةُ و ممنوع النظرُ و ممنوع الاختلاط و ما حرُمَ فعلُه حرم استماعُه و حرم النظرُ إليه، فصار النظرُ محرَّمًا و الاستماع محرَّمٌ و مخالطةُ الأشرارِ محرَّمٌ، وكلُّكم يعلم أنَّ ممَّا يجرح عدالةَ الإنسانِ أن يصحبَ الأشرارَ كما أن الأكلَ في الطريقِ يجرح العدالةَ و المشيُ حافيا يجرح العدالةَ و البولُ في الطريقِ يجرح العدالةَ و الصِّياحُ في البيتِ و التطفيفُ بتمرةٍ و أكلُ لقمةٍ من حرامٍ و الحديثُ عن النساء و التنزُّهُ في الطرقاتِ و من أطلقَ لفرسِه العِنانَ بالسيَّارةِ يجرح العدالةَ، ومنها صحبةُ الأراذلِ، قال تعالى:

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾

 

[سورة النور]

 فالله خلقَنا على حرِّيتِنا و تصيبُنا أحيانًا المصائبُ و الأمراضُ و الضيقُ الماديُّ و الخوفُ و القهر، و القهر مفيدٌ، قال تعالى:

 

﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾

 

[سورة الأنعام]

 و لولا المرضُ و الفقرُ و القهرُ والشِّدَّة و الخوفُ و الحزْنُ و الهمُّ لمَا صلُحَ الإنسانُ قال تعالى:

 

﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾

 

[سورة النور]

 تصوَّرْ طالبًا ذكيًّا لكنَّه متفلِّتٌ و له أبٌ حازمٌ ضبَطَه و ضيَّقَ عليه حتَّى حمله على الدراسة، و توفِيَ الأبُ فصار الابن طبيبًا ذا مكانةٍ اجتماعيةٍ فكلَّما رأى بحبوحتَه و مكانتَه ترحَّمَ على أبيه الذي ضربه و الذي حبسَه و ضيَّقَ عليه حتَّى جعله إنسانًا متمّيِّزًا، لذلك الإنسانُ يوم القيامةِ ـ و اللهِ الذي لا إله إلا هو ـ حينما يُكشَف لك الغطاءُ أنَّ كلَّ شيءٍ ساقه اللهُ إليك ممَّا تكرهه هو محضُ رحمةٍ و محضُ خيرٍ يجب أن تذوب كما تذوب الشمعةُ، ولو كشفَ اللهُ لك الحكمةَ البالغةَ ممَّا ساقه اللهُ إليك من مكروهِ القضاءِ ؛ كشف لك الحكمةَ و النتيجة وَ التي حصَّلْتَ عليها يجب أن تذوبَ كما تذوبُ الشمعةُ إذا أُشعِل فتيلُها، لأن الكفَّارَ و كلَّ الخلقِ أجمعون يقول يوم القيامةِ كما حكى الله عنهم:

 

﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)﴾

 

[سورة الزمر]

 قال الإمامُ الغزاليُّ رحمه الله مُعَبِّرًا عن هذه الحقيقةِ: " ليس في الإمكانِ أبدعُ ممَّا كان"، هذا الذي أنتَ فيه هو أبدعُ شيءٍ بحسَبِ حالك، فالإنسانُ إذا رأى فعلَ اللهِ فعلًا حكيمًا و عادلاً رحيمًا يرضى عن اللهِ و قد لا يرضى عن نفسه، لذلك الإمامُ الشافعي يطوف حولَ الكعبةِ سمع طائِفًا يقول: يا ربِّي أنتَ راضٍ عنِّي، فقال له الشافعي: هل أنت راضٍ عن الله ؟ فالتفتَ إليه وقال له: من أنتَ يرحمك اللهُ ؟ فقال الشافعي: إذا كان سرورُك بالنقمةِ كسرورِك بالنعمةِ فقد رضيتَ عنه "
 فحينما ترضى عن اللهِ لمشكلة ساقها اللهُ لك أو لمرضٍ ألمَّ بك أو لفقرٍ أحوَجَكَ حينما ترضى عن اللهِ بمكروه القضاءِ فأنتَ في أعلى درجات اليقينِ، أمَّا أنت ترضى عن اللهِ في محبوبِ القضاءِ فقط، فهل يمكنُ أن تمتحِنَ السيَّارةَ في النزولِ لتُجرَّبَ المحرِّكَ، جرِّبها في الصعودِ، فالرضا بمكروه القضاءِ كما قال سيدُنا عليٌّ أرفعُ درجات اليقين.

 

تحميل النص

إخفاء الصور