وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 08 - سورة محمد - تفسير الآية 34 المؤمن في بحبوحة الطاعة والاستغفار.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الرابعة والثلاثون من سورة محمَّد صلى الله عليه وسلَّم، وهي قوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)﴾

[سورة محمد]

 يُقابلُ هؤلاء آمنوا ودَعوا إلى الله تعالى، يُسْتنبطُ من هذا حقيقة، وهو أنَّ شيءٍ يسْتَقِرُّ في القلب فلا بدَّ أن يُعَبِّر عن ذاته، فالضال يُضِلُّ، والفاسِد يُفْسِد والمنحرِف يدعو إلى الانْحِراف، والبخيل يدعو للبُخل، وكلّ إنسان إذا اتَّصَفَ بِصِفَةٍ مِن دون أن يدْري يَدعو الناس إليها، قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾

 

[سورة محمد]

 معنى ذلك أنَّك إذا رأيْتَ إنسانًا كافرًا أو عاصِيًّا أو فاسِقًا، أو فاجِرًا هل تستطيع أن تَحْكُم على نِهايَتِهِ ؟ باب التوبة مفتوح، ولعلَّهُ يسْبقُك ؛ هذا يدْعوك إلى أن تحْتوي الناس جميعًا، وإلى أن يتَّسِعَ قلبُكَ إلى كلّ الناس، وهذا يَدعوك إلى أن تتبرَّم بالناس، قال تعالى:

 

﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾

 

[سورة آل عمران]

 أحيانًا يُنْعِمُ الله على الإنسان بِنِعمة الإيمان، ونِعمة الهُدَى والطاعة، فإذا رأى عاصِيًا يشْمئزُّ منه، ويبتعِدُ عنه ويحْتقِرُهُ، فالأكْمَل أن تراهُ أخاك في الإنسانِيَّة، وأن تَحْتَوِيَهُ، وأن تَدُلَّهُ على الله، والدليل قوله تعالى:

 

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ(6)﴾

 

[سورة التوبة]

 شارِبُ خمْرٍ أسْمِعْهُ كلام الله، أحدُ الجُهَّال قال لِوَاحدٍ من الناس: سأَعِظُكَ بِغِلْظة، فقال الموعوظ: ولِم الغِلظة يا أخي، لقد أرسَلَ الله مَن هو خير منك، إلى مَن هو شرٌ مِنِّي ! أرْسَلَ موسى إلى فرعون، ومع ذلك قال تعالى:

 

﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾

 

[سورة طه]

 الإنسان إذا دعا إلى اله عز وجل يَحتاج إلى حِكمة بالغة، لِيَشُدَّ الناس إليه، لأنَّه مائة تصرُّف ذَكِيّ ودقيق ومخْلصٍ وحكيم يشُدُّ إنسانًا طريق، وتصرُّف أحمق واحِد يبْعِدُهُ عن طريق الإيمان، فَمَن أمَر بِمَعروف فلْيَكن أمْرُهُ بِمَعروف.
قال تعالى:

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161)﴾

 

[سورة البقرة]

 فالإنسان ما دام لم يمُت فلعلَّهُ يتوب، والإنسان مُهيَّأ أن يتوب، ووالله أيُّها الإخوة، في تَجربتي المتواضِعة للدَّعوة إلى الله، نحو عشرة أشخاص في السَّنوات الماضِيِّة وقالوا جميعًا بِصيغة أو بأُخرى: لا يوجد معْصِيَة في الأرض إلا واقْتَرَفناها، ثمَّ اصْطَلحوا مع الله وتابوا إليه.
إذا رجَعَ العبد إلى الله، نادى مُنادٍ في السماوات والأرض أنْ هنئوا فلانًا فقد اصْطَلَحَ مع الله، عبدي لو بلغَت ذنوبك عنان السَّماء غفرتها ولا أبالي وللَّه أفرحُ بِتَوبة عبدِهِ من الضال الواجِد والعقيم الوالد، والظمآن الوارد فالعِبرة أن تسْتَدْرِك وأنت حيّ، وتُقْلِع وفي الحياة بقيَّة، وأن تنْدم وفي العُمُر مُتَّسَع من الوقت، أما عند النِّزاع والغرغرة فلا قيمة للتَّوبة، قال تعالى:

 

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي(99)﴾

 

[سورة المؤمنون]

 لأنَّه عند الموت، يكْشف الله عن كلّ إنسانٍ غِطاءهُ، قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا

﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)﴾

[سورة ق]

 الرؤية التي رآها أعلى المؤمنين يراها أكْفرُ الكافرين عند الموت، أما الرؤية الثانية فهي رؤية الكافر، وهي تزيدُهُ ندمًا ؛ لأنَّه ينْدم أشدُّ النَّدَم، قال تعالى:

 

﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ(2)﴾

 

 

[سورة الحجر]

 ربما لا تُفيد التَّقليل، ولكن تُفيد التَّكثير قال تعالى:

 

 

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)﴾

 

[سورة محمد]

 هؤلاء مُخلَّدون في النار إلى أبد الآبدين، لذا نحن في بَحبوحَتَين ؛ نحن في بَحبوحة طاعة رسول الله، وفي بَحبوحة الاسْتِغفار، فلو أنَّ الإنسان وِفق منْهج رسول الله، قال تعالى:

 

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33)﴾

 

[سورة الأنفال]

 بيوتٌ إسلامِيَّة، واحْتِفالات إسلامِيَّة، وأعيادٌ إسلامِيَّة، وزواجٌ إسلامي وبيعٌ وشراء إسلامي، فالحركات والسَّكنات كلُّها إسلامِيَّة، فما دامتْ سُنّة النبي عليه الصلاة والسلام مُطبَّقة في بيوتنا فلن يُعذِّبنا الله تعالى، أما حينما تُقامُ عُقود القران في الفنادق الكبرى، وتأتي الراقصات، فهؤلاء يُعذِّبهم الله عز وجل.
قال تعالى:

 

﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾

 

[سورة الحجرات]

 قد يُصاب الإنسان بِمَصائب كثيرة، ولكنَّ أكْبر مصيبة أن يقَعَ في الهَون وأن تَضْعُفَ نفسُهُ، والرَّجُل المؤمن يتلقَّى كلَّ المصائب بِصَبْر شديد، لأنَّه يعْلم هذه الدنيا دار الْتِواء لا دار اسْتِواء، ومنزل ترَحٍ لا منزل فرحٍ، فمَن عرفها لم يفرح لِرخاء، ولم يحْزن لِشَقاء، قد جَعَلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى.
أحدُ التابعين الأجِلاَّء كان لا بدّ مِن قَطع رِجْله، فقال: إن أخذَ الله واحِدَة أبْقى لي ثلاثًا، ففي اليوم نفسِهِ مات ابنُهُ وأنجبهم، فقال: إن أخذ لي واحِدًا أبْقى لي خمسًا ‍‍!! لذا الدُّعاء النبوي الشريف: اللَّهمّ هب لنا من خشيتنا ما تحول بيننا وبين معْصِيَتِك، ومن طاعتك ما تُبلِّغُنا بها جنَّتَك، ومن اليقين ما تُهوِّن به علينا مصائب الدنيا، فالمصائب عندنا المؤمن تقَع وكأنَّها لم تقَع.
قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾

 

[سورة آل عمران]

 فهل تقبل دولة عُظمى الإهانة من دولة لا قيمة لها ؟ فأنت إذا كنتَ مع الله عز وجل فاسْمَع قوله تعالى:

 

﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)﴾

 

[سورة الصافات]

الخيل والليل والبيْداء تعرفني  والسَّيف والرُّمْح والقرْطاس والقلم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدَبي  وأسْمَعَتْ كلماتي مَن به صَمَمُ
أنامُ ملء جُفوني عن شواربها  ويسْهر الخلق جرَّاها ويخْتَصِمُ

 في طريقِهِ إلى حلب فاجأهُ لُصوص، فولّى هاربًا، فقال له غلامُهُ: ألم تقل الخيل والليل والبيداء تعرفني ؟ فنظر إليه وقال: قَتَلْتني قتلَك الله ! فعاد فقَتَل حتَّى قُتِل !! فالكلام سَهل، فأشَدُّ الناس بُخلاً يتبجَّحون بإنفاقهم، وأشَدُّ الناس جهلاً يتبجّحون باطِّلاعاتهم، فقَضِيَّة الكلام سَهلة، أما مع القرآن فالكلام لا ينفَع، فالكتب المؤلَّف في كلّ العالم في جانب، وكلام الله في جانب آخر ! دخل مغنِّي شَهير جدًّا إلى مكْتبة فلفَتَ نظرهُ إلى كتاب، قال: أعْطِني هذا الكتاب، ثمَّ سأل من مؤلِّفُهُ ؟ فقال صاحب المكتبة مُشيرًا إلى السماء أنَّه الله تعالى ! فأخذَهُ وأراد أن يدْحضَ هذه الفِرْيَة، فعكَفَ على دراسَتِهِ لِيُظْهر كذب هذا القول ؛ فإذا بِهِ يُسْلِم، وكلّ أمواله أنفقها لِشِراء أُسْطُواناته لإتْلافِها ! اسمُهُ يوسف إسلام، فالله يقول لك:

 

﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)﴾

 

[سورة غافر]

 كلام خالق الكون، وهذا في الدنيا، فأنت إن كنتَ مؤمنًا حَقًّا فالله وعَدَك بالنَّصْر في الدنيا، وهذا في كلّ المعارك، وفي أيِّ صِدام، فالله معك.
قال تعالى:

 

﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ(35)﴾

 

(سورة الحجرات)

تحميل النص

إخفاء الصور