وضع داكن
16-04-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الدرس : 31 - الصفح
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

لا يملك صفة الصفح إلا أولو العزم من الرجال فلتكن في موضعها:

 أيها الأخوة الكرام, لا زلنا في مكارم الأخلاق، واليوم موضوع الدرس: الصفح, فالصفح: الإعراض عن الذنب والتجاوز عنه، وهو أبلغ من العفو، العفو ألا تعاقب على الذنب، أما الصفح ألا يبقى في نفسك شيء تجاه المذنب، وأن تعطيه صفاحة وجهك المشرق، وأن تشعره أن هذا الذنب كأنه لم يكن، وهذا من أرقى مكارم الأخلاق.
 الإنسان قد يعفو ولا يصفح، لكن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه الكريم فقال:

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾

[سورة الحجر الآية: 85]

 وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وأنت حينما تصفح, تشعر أنك قريب من الله، وأنك أكبر من أية مشكلة في الأرض.
 يقول بعض الشعراء:

حـر ومذهب كـل حر مذهب  ما كنت بالغاوي ولا المتعصب
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى  حب الأذية من طباع العـقرب
لي أن أرد مساءة بمساءة لـو  أنني أرقـى ببـرق الـخـلّد
حسب المسيء شعوره ومـقاله  فــي سره يا ليتني لـم أذنب

 أيها الأخوة, الإمام القرطبي يقول: الصفح إزالة أثر الذنب من النفس.
 وهذا كلام دقيق، ينبغي أن يزول أثر ذنب من أذنب معك من نفسك، وينبغي أن تزيل أثر المذنب من نفسك، ينبغي أن تشعره أن هذا الذي وقع كأنه لم يقع، وينبغي أن توحد.
 أيها الأخوة, ذكرت قبل حين أن الله عز وجل يقول:

﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾

[سورة لقمان الآية: 17]

 ينبغي أن تصبر.
 لكن في آية أخرى يقول:

﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾

[سورة الشورى الآية: 43]

 الحقيقة: أن قضاء الله وقدره قد يأتي من الله مباشرة، أب وقف ابنه على الشرفة, فوقع فنزل ميتاً، هذا قضاء من الله وقدره، لكنه أتى من الله مباشرة من دون تدخل إنسان، وأحياناً إنسان يركب مركبة يدهس ولداً، الوالد أمامه إنسان, كان السبب في قتل ابنه، وطبيعة البشر الشركية: قبل أن يعرف الله, يصب جام غضبه على هذا الذي كان هذا القدر على يديه، لذلك: ضعيف التوحيد يحقد، ويحقد أشد الحقد، وقد يحمله حقده على ارتكاب جريمة، ولكن المؤمن الموحد لا يحقد، لكنه يقف الموقف الكامل، لأن الله عز وجل يقول:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾

[سورة الشورى الآية: 39]

 من دون حقد، من دون أن تشعر أن هذا الإنسان هو السبب الوحيد فيما جرى، هو السبب المباشر، لكن السبب الوحيد هو أن الله أراد الذي جرى، ف:
 كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء وقع أراده الله، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق.

 فالإمام القرطبي يقول: الصفح إزالة أثر الذنب من النفس.
 من نفس المذنب، ومن نفس من أذنبت معه، يعني أعطاه صفحة الوجه المشرقة ابتسامة، لكن لو أن إيقاع العقوبة لهذا المسرع في مركبته الطائش, الذي لا يبالي بأرواح الآخرين, هذا يحتاج إلى عقوبة، أكمل شيء معه أن تعاقبه لتردعه, أما أحياناً إنسان يكون متقيدًا بقوانين السير، ويقفز طفلاً أمامه، ولا ذنب له، لكن القانون يوقع به أشد العقاب، فإذا أيقنت أنه لا ذنب له إطلاقاً، والخطأ من خطأ ابنك, فطمأنته، وصفحت عنه، وابتسمت له, فهذا من كمال الإنسان، وقد يكون الصفح أحياناً سبب هداية الإنسان.
 أبو حنيفة النعمان له جار أقلقه إقلاقاً شديداً، لا يسمح له أن ينام الليل، لأنه مغنٍّ وشارب الخمر، يسكر ويغني، ومعه عود يقول:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا؟

 مرة استيقظ على صلاة الفجر فلم يسمع صوت المغني، تفقده فإذا هو في السجن، فذهب إلى صاحب الشرطة، وطلب منه إطلاق سراحه، قال: إنه شارب خمر، قال: أطلقه من أجلي، فأطلقه، أركبه على برذونه, ولما وصل للبيت قال له: يا فتى هل أضعتك؟ فبكى الفتى وقال: عهداً لله ألا أعود إلى ذلك، وكانت توبته على يدي أبي حنيفة.
 صفح عنه، يوجد إنسان تصفح عنه, فيحتقرك، ويراك ضعيفاً، وإنسان تصفح عنه, فيعظمك.
 واحد هجا النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبالغ في إيذاء أصحابه، وقد قتل بعضهم، وقع في يد النبي أسيراً، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- رقّ له، استعطفه، عنده بنات، عنده كذا، فعفا عنه، عاد لما كان عليه من إيذاء النبي وهجائه، ومن التنكيل بأصحابه، وقع في الأسر ثانية، فعاد لاستعطاف النبي، فقال:

((لن أعفو عنك لئلا تقول: خدعت محمداً مرتين))

 أحياناً: إيقاع العقاب الصارم هو عين الحكمة.
 هذا أرطون الذي احتل قلعة الكرك، وقطع الطريق على الحجاج المسلمين، وقتل الرجال، وسبى النساء، وقال لهم: نادوا محمداً لينتصر لكم، بلغ هذا صلاح الدين الأيوبي، فبكى بكاء شديداً، وقال: أنا أنوب عن محمد -صلى الله عليه وسلم- في نصرة أمتي، ولم يهدأ له بال، ولم تقر له عين حتى كانت موقعة حطين، وانتصر فيها على ملوك أوروبا وأمرائها، ووقع أرطون أسيراً بيده، وذكره بمقولته، وذكر له ما قال عقب مقولته، وقتله بيده.
 في محلات العفو سذاجة وضعف، لكن المؤمن حكيم، قال تعالى:

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[سورة البقرة الآية: 269]

 في إنسان تعفو عنه فتملك قلبه، وإنسان تعفو عنه فيعيد الكرة كما كانت، ويستضعفك.
 لذلك: حينما مشى بعض الصحابة متبختراً أمام الجيش، قال له عليه الصلاة والسلام:

((إن الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموقف))

 فالتكبر على المتكبر صدقة.
 والإنسان حينما لا يتكلم إلا بالحق يعلو شأنه بين الناس، أما إذا تكلم حقاً وباطلاً يسقط من عين الناس:

((إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق))

 لأنه إذا مدح الفاسق اضطربت القيم.
 قال المنصور لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا, قال: ولمَ أتغشاكم وليس عندكم شيء أخاف عليه, وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني –المنصور-, وإن أبعدتني أزريت بي.
 قيل للحسن البصري: بم نلت هذا المقام؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس, وحاجتهم إلى علمي.
 الآن عكست، من يعمل في الحقل الديني مستغن عن علمه، لكنه بحاجة إلى ما عند الناس، يجب أن تتعفف عما عند الناس، وأن يحتاج الناس إلى علمك.

توجيه قرآني يحض فيه المؤمنين على أن يلتزموا بخلق الصفح:

 الله عز وجل قال:

﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا

 -ألا يوقعوا العقاب-:

وَلْيَصْفَحُوا﴾

[سورة النور الآية: 22]

 أن يزيلوا أثر الذنب من نفس المذنب، وأن يزول أثر الذنب من نفس من أذنب معه المذنب:

﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾

[سورة التغابن الآية: 14]

﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾

[سورة البقرة الآية: 109]

﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

[سورة المائدة الآية: 13]

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾

[سورة الحجر الآية: 85]

﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾

[سورة الزخرف الآية: 89]

 يوجد آيات كثيرة.

فضل الصفح:

 عَنْ عَائِشَةَ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ:

((لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا, وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ, وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ, وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ))

 أحياناً إنسان لا ينادى بلقبه العلمي, يقيم الدنيا ولا يقعدها.
 النبي في الطائف -عليه الصلاة والسلام- بالغ أهل الطائف في الأذية به؛ فمن شتم, إلى استهزاء، إلى تكذيب, إلى أذى، ولما جاءه جبريل، وهو طوع إرادته، قال: لا يا أخي, اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا, مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ))

 إن لم تنطق، ولم تعمل ما جاءك من خواطر في النفس, فأنت لا تحاسب عليها، ولكن هذه الخواطر إن لم تردها, ربما انقلبت إلى أعمال، لكن الحقيقة: أن الإنسان لا يحاسب لا على خواطره، ولا عن ما في نفسه، بل عن كلامه وأفعاله.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:

((إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا, يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ, وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا, يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))

 رجل كان يداني الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، قال: فلقيا الله فتجاوز عنه.
 أيها الأخوة, يقول النبيُّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:

((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود))

 إنسان له مكانة ذلت قدمه, تقتضي المروءة والشرف أن تعفو عنه، وألا تشيع هذا الذي صدر منه، هؤلاء الذين لهم مكانة في مجتمعهم:
 لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل حسام نبوة.
 فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

((أقيلوا عثرات المحسنين))

 هذا من توجيه النبي عليه الصلاة والسلام.
 عَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللَّهم عَنْهَا- قَالَتْ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ))

[أخرجه أبو داود في سننه]

 بالمناسبة: المسلم غير مكلف أن يرفع إلى الإمام معصية تستوجب حداً, ما لم يكلف من قبل الإمام، أما تطوعاً فغير مكلف، والذي وقع في معصية تستوجب الحد, أيضاً غير مكلف أن يفضح نفسه، لا مرتكب المعصية مكلف أن يفضح نفسه، ولا من رآها مكلف أن ينقل لولي أمر المسلمين هذا الخبر، لكن ولي أمر المسلمين إذا عين إنسان لتقصي هذه المخالفات, ووقعت تحت علم المكلف بتقصي هذه المخالفات, فلم يرفعه إلى الأمير وعفا عنه مباشرة, يقول عليه الصلاة والسلام:

((لا عفا الله عنه))

 يوجد نظام, هذا مكلف أن يتبع تلك المخالفات, أما غير إنسان غير مكلف.
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا, أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))

[أخرجه ابن حبان في صحيحه]

ومضات من سير الصالحين:

 لي صديق توفي -رحمه الله-, يقيم في لبنان، مرة كان في الشام، ومركبته ارتكبت حادثًا مع مركبة ثانية، وصاحب المركبة الثانية سائق على خط دمشق بيروت، والمركبة تضررت، وأنا كنت معه، نزل السائق، عجيب على خلاف المتوقع، ما زاد أن قال: اذهب سامحك الله، وهذا الذي ارتكب الحادث ميسور، ليس فقيراً، رأيت دمعة انحدرت على خده، لم أفهم ماذا جرى؟ إنسان ليس فقيراً لكي يقول: نجوت من ألفي ليرة، وهذا الذي تضررت مركبته ما الذي فعله؟ لم يفعل شيئاً، ولم يطلب درهماً، ولم يقل كلمة, قال: سامحك الله، وهذا الصديق رأيت على خده دمعة, سألته: فلم بكيت؟ قال: والله قبل سنتين كنت في بيروت, وسيارة من دمشق فيها نساء محجبات, ضربت مركبتي, أردت ألا أفسد عليهم نزهتهم، فقلت للسائق: سامحك الله انطلق، فتذكر أن هذا العمل الذي فعله في بيروت لم ينس عند الله عز وجل, لذلك: ورد في بعض الأحاديث:
 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:

((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ, إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 حدثني أخ, أنه أنقذ قطة كادت تدهس، فإذا بابنه بعد الانصراف من المدرسة اندفع نحو الطرف الآخر من الشارع، وكاد يدهس، فإذا بإنسان ينطلق من محل تجاري، ويمسك به ، وينقذه مما جرى، يوجد عدل بالكون، إذا كنت محسناً, توقع أن الله لن يسلمك لعدو.
 تروي كتب العلم: أن يوسف -عليه السلام- قال لأخوته لما حضرته الوفاة: يا أخوتي، إنني لم أنتصف من مظلمة ظلمتها في الدنيا, -صار عزيز مصر، وكان بإمكانه أن ينتقم أشد الانتقام، وترون كيف ينتقمون الآن؟ كيف ينتقم الإنسان الجاهل أشد الانتقام؟-, وإني كنت أظهر الحسنة، وأدفن السيئة، -وهناك أناس يظهرون السيئة ويدفنون الحسنة-، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه، -إن أحسنت لن يقبل، وإن أسأت لن يغفر-، فذلك زادي من الدنيا يا أخوتي، إني شاركت آبائي في صالح أعمالهم، فأشركوني في قبورهم.
 أي اجعلوني في قبر الصالحين.
 سيدنا معاوية جاءه كتاب من مواطن يقول له: أما بعد فيا معاوية, -لا يا أمير المؤمنين ولا شيء من هذا القبيل-, إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك, وإلا كان لي ولك شأن والسلام!.
 معاوية أمير المؤمنين يحكم ثلث الأرض، إلى جانبه ابنه يزيد قال: يا يزيد ما ترى أن نفعل ؟ فلما قرأ الكتاب اضطرب! وغلا الدم في عروقه، قال: يا أبت أرى أن ترسل له جيش أوله عنده، وآخره عندك يأتوك برأسه، -مواطن عادي يتجرأ على مقام الخلافة بهذا الكلام القاسي؟-, فقال معاوية: لا يا ولدي, غير ذلك أفضل, فطلب كاتبه، وقال: اكتب: من أمير المؤمنين إلى ولد حواري رسول الله عبد الله بن الزبير، لقد ساءني ما ساءك، والدنيا كلها هينة جنب رضاك، لقد نزلت لك عن الأرض وما فيها، يأتي الجواب: أما بعد فيا أمير المؤمنين, أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، فاستدعى ابنه يزيد، وقال له: اقرأ, قال: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
 دائماً الصفوح كبير، والمنتقم صغير حقير، لا تنتقم.
 يوجد أشخاص نكلوا بأصحاب رسول الله، هذا ثمامة وقع أسيراً فقال: ما وراءك يا ثمامة؟ قال: إن تقتل تقتلْ ذا دم، وإن تعفُ تعف عن شاكر، وإن تريد المال أعطيتك منه ما تريد، هو سيد بني حنيفة، زعيم قبيلة كبيرة، تركه النبي, أرسل له طعاماً من بيته، سأله ثانية فأجاب كما أجاب، سأله ثالثة فأجاب كما أجاب، قال: أطلقوا سراحه، فذهب، وتوضأ، واغتسل، وعاد إلى النبي، وأعلن إسلامه، وقال: يا رسول الله, ما كان على وجه الأرض رجل أبغض إلي منك، والآن ما على وجه الأرض إنسان أحب إلي منك، وما على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك، والآن: ما على وجه الأرض دين أحب إلي من دينك، هذا العفو والصفح, لكن قالوا:
 العفو عند المقدرة.
 إنسان سحقك تقول: أنا عفوت عنه، أنت لست بقادر عليه, هذا كلام خطأ.
 العفو عند المقدرة.
 صدقوا أيها الأخوة: قريش نكلت برسول الله وبأصحابه عشرين عاماً، ثم فتحت مكة، ومع النبي عشرة آلاف سيف متوهجة، والله لو قال: أبيدوهم لأبادوهم، قال:

((ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: فاذهبوا فأنتم الطلقاء))

 النبوة قمة الخلق، ولا يوجد مؤمن إلا على خلق، الإيمان خلق، عفو، وصفح، وتواضع ، وسخاء، وإنصاف، ورحمة، لا شيء يظهر حقيقة المؤمن كمكارم الأخلاق التي يعيش بها ، لذلك في الإيمان مرتبة عليمة، ومرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية، المؤمن أخلاقي، أما معنى:

﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾

[سورة الحجر الآية: 85]

 قال: الرضا بغير عتاب.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور