وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الأحقاف - تفسير الآية 9 حلاوة الإيمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الكريمة، وهي التاسعة من سورة الأحقاف وهي قوله تعالى:

﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)﴾

[سورة الأحقاف]

 ترْوي كُتب السيرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم بلغه أنّ أحدَ أصْحابه وافتْهُ المنِيَّة، وهو أبو السائب، فَدَخَل عليه، وهذه مِن عادة النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقد كان يتفقَّدُ أصْحابه فإذا بلغَهُ أنَّ أحدهم قد تُوُفِّي زار أهل الميِّت في بيتِهِ قبل أن يُدْفن فبعد أن زارهُ النبي عليه الصلاة والسلام سَمِع امرأةً تقول: هنيئًا لك أبا السائب، لقد أكْرَمَكَ الله ! صحابيٌّ جليل عاشَ مع رسول الله صى الله عليه وسلَّم، وخاض معه أكثر الغزوات وقدَّم كلّ ما يمْلِك في سبيل الله فماذا فعلتْ هذه المرأة؟ قالت: هنيئًا لك أبا السائب لقد أكْرمك الله !
النبي صلى الله عليه وسلّم مُشرِّع فكلامُهُ تَشريع، وصَمْتُهُ تَشْريع، وفِعلُه تَشريع، ونحن عندنا سنَّة قَوْليَّة، وسنَّة عَمَلِيَّة، وسنَّة إقْرارِيَّة، فلو أنَّ أحدًا فعل معهُ شَيئًا، وسكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الشيء صحيح أما أيُّ إنسان آخر، ولو جماعة من المسلمين لو سكتوا لما عنيَ ذلك أنَّ سكوتهم أنَّه ليس بِمُنْكر ؛ إلا النبي لأنَّه مُرْسَل ومُبلَّغ ومُكَلَّف، فهو لو رأى منكرًا وسكت، لكان هذا معروفًا، ماذا قالتْ هذه المرأة هنيئًا لك أبا السائب لقد أكْرمك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: وما أدْراك أنَّ الله أكْرمه ؟! هذا سمَّاهُ العلماء تألِّي على الله، وهذا المرض شائِع في العالم الإسلامي، فَكُلّ واحِد تجِدُهُ يُقيِّم جماعةً من المسلمين، يُدْخِل جماعةً إلى جهنَّم، وأخرى إلى الجنَّة، وأناس يجعلهم عارفين بالله، وآخرين زنادقة وكأنّه مِحوَر العالم، وهو الذي وَسِع الإسلام، فَكُلّ مَن يتحدَّث عن المُسْتقبل فيما يتعلَّق بالأشْخاص هو يتألَّى على الله، فالنبي قال لها: وما أدراكي أنَّ الله أكْرمه، قولوا: أرْجو الله أن يُكْرِمهُ ! فرْق كبير بين لقد أكرمك الله؛ أيْ أنَّها تعلم الغيب، وتعلم ماذا سيفْعل الله به، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: وأنا نبيٌّ مرسَل لا أدْري ما يُفعل بي ولا بكم ! ليس معنى هذا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يتوقَّعُ مِن ربِّه أن يُخْزيَه ! لا قال تعالى:

 

﴿ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)﴾

 

[سورة التحريم]

 ولكن معنى ذلك أنَّ ليس مِن شأن الإنسان أن يتحدَّث عن الغَيْب، وليس مِن شأن الإنسان أن يُصْدِر قرارًا قَطْعِيًّا، فهذا مِن شأن الخالق، فالنبي عليه الصلاة والسلام وقفَ موْقِفَ الأدب مع الله عز وجل، قال: وما أدْراكي أنَّ الله أكْرمَهُ، قولي أرْجو الله أن يُكْرِمَهُ !
الإنسان أحْيانًا يحْتَقِرُ شَخْصًا، طبعًا مُتَلَبِّس بالمعاصي والآثام، مَن أدْراك أنَّ هذا الشَّخص إذا تابَ إلى الله توبةً نصوحة وجدَّ في السَّعيِ إلى الله تعالى يسْبِقُكَ ؟! ونحن لا نُبالِغ كما يفْعل بعض الناس، حيث تجدُهُ مُتَلَبِّس في شُرب الخمْر والزِّنا، ثمَّ نقول: قد يكون هذا ولِيّ !!! هذا تشْويش في الدِّين، فالخمر خمر، والزِّنا زنا، فالعاصي عاصي، ولكن هل تدْري كيفَ يُخْتمُ له عملُهُ ؟ لعلَّهُ يتوب، ويسْبِقُكَ، وهذا مِن دواعي التَّأدُّب مع الله عز وجل.
إذًا مِن شان الله أنَّه بِيَدِهِ مصيرُ خلْقِهِ، ومِن شأن الله أنَّه كفى به خبيرًا بصيرًا بِذُنوب عِبادِهِ، ومن شأن الله أنَّهُ أعلَمُ بِمَن اتَّقى مِن خلْقِهِ، قال تعالى:

 

﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى(32)﴾

 

[سورة النجم]

 فلا تمدحْ نفسَك ولا تذُمّها ولا تُزكِّي على الله أحدًا، فإن كنتَ فاعِلاً فقل: والله أعلم، والدليل أنَّ سيّدنا عملا لمَّا اسْتخلفهُ سيِّدنا الصِّديق، تأثَّر الصَّحابة، فقالوا له: ألا تخاف الله عز وجل، اسْتَخْلفْتَ علينا عمر ؟ فقال سيِّدنا الصِّديق: والله لو سألني ربِّي لِمَ اسْتَخْلفْتُه لقلت: لقد اسْتخلفْتُهُ عليه لأنِّي وجدْتُهُ أرْحَمُهُم !! فإنْ بدَّل وغيَّر فلا عِلم لي بالغيب !! هذا هو الأدَب، ولذا التَّأدُّب مع الله أنَّك لا تمْدح إنسانًا إلا مع التَّحَفُّظ ؛ أحسبه كذا ولا أُزكِّي على الله أحدًا، أما المديح القطعي فهو ليس مِن شأنِكَ أنت، بل هو مِن شأن الله، فلا أحدَ يعلمُ مصائِر العباد إلا الله، هناك رجل في الهند بلغَ من علوم الدِّين مبلغًا لا يوصَف، ونهايتُهُ أنَّهُ ادَّعى الألوهِيَّة !! لماذا قال الله عز وجل:

 

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾

 

[سورة الإسراء]

 لِمَ لمْ يقُلْ ربِّ اجْعَلني صادِقًا ؟ لأنَّه قد تَدخُل صادِقًا ولا تخْرُجُ صادِقًا، فقد يُفْتَنُ الإنسان ضِمْن العمل الصالح، وقد تزِلُّ قدَمُه، فلذلك لا أحَدَ يعْلمُ مصائِر الخلق إلا الله، فالمعْصِيَة معْصِيَة، والطاعة طاعة، ولكِنَّ هذا الطائر لعلَّهُ تزِلُّ قدَمُه، ولعلَّهُ يُفتَن وهذا العاصي لعلَّهُ يتوب، وفي التاريخ الإسلام كِبار كبار العلماء كانوا عُصاة، وقُطَّاعُ طُرُق، وكانوا مُجْرمين وقتَلَة، والصُّلحة بِلمْحة، وإذا رجَعَ العبد العاصي إلى الله نادى مُنادٍ في السماوات والأرض أنْ هنئوا فلانًا فقد اصْطَلَحَ مع الله ! فالنبي يرْجُو مِن ربِّه كُلّ خير، ولكنَّهُ أديبٌ مع الله، يقول: أرْجو الله أن يرْحَمَني، وأرْجو الله أن يُدخِلني الجنَّة.
 سبحان الله ؛ سَمِعتُ شريطًا لأحد المدرِّسين، يقول لِتلامِذَتِهِ: أنتم غدًا تحتاجون إليّ في الجنَّة !! وكأنَّهُ ضَمِنَ دُخول الجنَّة !! فهذا سيِّدنا عمر يسأل حذيفة رضي الله عنهما ؛ بِرَبِّكَ هل اسمي مع المنافقين ؟ فسيِّدُنا عمر مُبشَّر بالجنَّة، فَمِن شِدَّة خوفِهِ مِن الله سأل حُذيفة هل أُدْرِجَ اسمُهُ مع المنافقين ! لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أمْلى على حُذَيفة ابن اليمان أسماء المنافقين، والمؤمن يتقلَّب في اليوم الواحد بِأربعين حالة من شِدَّة خوفه من الله، وأما المنافق فيبقى على حالٍ واحِدٍ أربعين عامًا.
فهذا ابن أبي مليْكة التقى بأربعين صحابي كلُّهم يَخشى على نفْسِهِ النِّفاق لذا إن قلنا رضي الله عن إنسان فهذه ليس تَقريرِيَّة ولكن دُعائِيَّة، أي نرْجو الله أن يرْضى عنه.
قال تعالى:

 

﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)﴾

 

[سورة الأحقاف]

 قلتُ لكم سابقًا إنَّ أعداء الإسلام يطفون على النبي طابع العبْقرِيَّة والذَّكاء فهو كذلك ولكنَّه نبِيٌّ يوحَى إليه، وهو ناقل أمين على وحي السَّماء، والله جلَّ جلاله خاطبَهُ وقال:

 

﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(272)﴾

 

[سورة البقرة]

وقال تعالى:

﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(107)﴾

[سورة الأنعام]

 فالتَّأَلي على الله أن تُوَزِّع ألقاب الإيمان والكفر والشِّرْك بِبَساطة وسُهولة وأنت واثِقٌ مِن نفْسِك، وهذا مُخالفة شَرْعِيَّة كبيرة سمَّاها العلماء التَّأَلي وهي أن تُحِلَّ نفْسَكَ محلَّ الوَصِيّ، ومحلّ الذي يعلم الغيب ومحلَّ الذي يعلم مصائر الخلق، وتقول: هذا كذا، وهذا كذا.
قال تعالى:

 

﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)﴾

 

[سورة الأحقاف]

 الكافر يدَّعي أنَّهُ ذكِيّ بِدَليل أنَّهُ يتوهَّم أنَّه على حق، والآخرون على باطل فلو كان الدِّين خيرًا ما سبقونا إليه، والجواري كما قاله أحد الأنبياء الكرام قال تعالى:

 

﴿ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28)﴾

 

[سورة هود]

 إذا الإنسان ما ذاقَ العَسَل في حياته، وأقْسَمَ يمينًا مُعظَّما أنَّ أطْيبَ شيءٍ أكلَهُ في حياته هو الدِّبس ! هو صادِق لأنَّه ما ذاق العسَل فالكافر حاله هكذا فهو ما ذاق طعْم الإيمان، وطَعْم القُرْب، ومشاعر الإيمان، فالإيمان يذوقُهُ الإنسان، والإيمان له حلاوة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: من غضَّ بصرهُ عن محارم الله أورثه الله حلاوةً يجدها في قلبه.
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية مِحْورُها ؛ إيَّاك أن تقول آيةً تتجاوَزُ بها قدْرَكَ، ورَحِم اله عبْدًا عرفَ قدْره، فوَقَف عنده، والله هو وحْده الخبير بِذُنوب عبادِهِ، قال تعالى:

 

﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(17)﴾

 

[سورة الأسراء]

 وقال تعالى:

 

﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى(32)﴾

 

[سورة النجم]

تحميل النص

إخفاء الصور