وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الجاثية - تفسير الآية 15 قيد الدين ضمان لسلامتك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الخامسة عشْرة من سورة الجاثِيَة، وهي قوله تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾

[ سورة الجاثية ]

النُّقطة الدقيقة في هذه الآية كلمة اللام، وكلمة على.
 اللام تُفيدُ التَّمَلُّك ؛ يبْدو أنَّ العمل السيئ كالصَّخرة الجاثمة على صَدر الإنسان تسْحَقُهُ في الدنيا حِجابًا، وفي الآخرة ندمًا، وقد ورَدَ في الحديث الشريف: إنّ العار ليَلْزمُ المرء يوم القيامة حتَّى يقول....وإنَّه ليعلم ما فيها مِن شِدَّة العذاب " وربُّنا عز وجل يعْجبُ ويقول:

﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175)﴾

[ سورة البقرة ]

 وقال تعالى:

 

﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)﴾

 

[ سورة النساء ]

وقال تعالى:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾

[ سورة الجاثية ]

تقول: هذه الجَوْهرة لي، أما هذا الدَّيْنُ عليَّ، والدَّينُ همٌّ بالليل، وذلٌّ في النَّهار، والدَّين يُتْعِبُ صاحِبَهُ فالعَمَل الصالِح يُمَلَّك، أما العمل السيئ سيْحَق.
 الشيء الآخر، أنَّ مِن معاني الحُروف، أنَّ هذا الدِّين كُلُّه قُيود، وهو في الحقيقة ليس قُيودًا، ولكن حُدود، وليس حُدودًا، ولكن ضَمانات للسَّلامة، وفرقٌ كبير بين أن تفْهَمَ هذه اللَّوْحة على نحْوٍ أو على نَحْوٍ آخر فلو كنتَ تتجوَّل في أرضٍ واسِعَة، ورأيْتَ لوحَةً كُتِبَ عليها: أنت بحَقل الأنغام، لا تتجاوَز، فهل تشْعر أنَّ هؤلاء الذين وضَعوا هذه اللَّوحة قيَّدوا حُرِيَّتَك ؟ وكذا إن فَهِمْتَ أنَّ الدِّين تَقييد لِضمانات الإنسان فالفَهمُ خاطئ، أما إن فَهِمْتَهُ أنَّهُ ضمان لِسَلامَتِهِ فالفَهم صحيح، وكذا إن رأيْتَ أوامر الدِّين ونواهِيَهُ تَقييدًا لِحُرِيَّتِكَ، وحركتِكَ في الحياة فهذا فَهم الشَّيطان للدِّين ! فكلُّ أوامر الدِّين ضمانٌ لِسلامَتِك، وكلُّ التّفلُّت والانْطِلاق هو مخاطِر، لذلك هناك قاعدة، هي القُيود تُؤدِّي إلى الحريَّة على المستوى الدُّنْيَوي فالمواطِن المُنضبط بِقَوانين الدَّولة تَجدُه حُرّ، يُسافر، ويُغادر، ويشتغل أما إن ارْتَكَب مُخالفةً قانونِيَّة تسْتَوجِب حجْز الحُريَّة، فالتَّفَلُّت يُؤدِّي إلى التَّقَيُّد، والتَّقَيُّد يؤدِّي إلى الانْطِلاق، فالانْطِلاق أساسه التَّقَيُّد، وهناك آية قرآنِيَّة واحدة لو تأمَّلتُم فيها لَدُهِشْتُم يقول الله عز وجل:

﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا(144)﴾

[سورة النساء]

 لمَّا يأكل الإنسان المال الحرام، ويعتدي على أعراض الناس، ويُطلق بصرهُ وسَمعَهُ، ويدَهُ، ويتفلَّت، ويفْعل ما يشاء، ويلتقي مع مَن يشاء ويُصافِح مَن يشاء، إذا تفلَّت صار لله عليه سُلطان هو التَّأديب، آتيكم بِمَثَل ؛ لو أنَّ محلاًّ تِجاريًّا كلَّ بِضاعَتهِ وَطَنيَّة، وكلَّها تحوي فواتير، ومرَّ ضابِط الجُمرك ؛ هل تتضايَق أو تخاف ؟! لا، أما إذا كان بِضاعتُكَ تَهريب، ومرَّ الجمرك، تجدهُ يرْجُف ! فأنت بِمُخالفَتِكَ النِّظام جَعَلتَ لهذا الإنسان عليك سُلطان، فكيف بالواحِد الدَّيان ؟! فأنت إذا اْستَقَمتَ وغضَضْتَ بصَرَك، وما كذَبتَ، وحرَّرْتَ دَخْلكَ، فالله عز وجل يقول:

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

 

[سورة النساء]

 أما إذا كانت هناك أخطاء كبيرة جدًّا، فلا بدَّ مِن التَّدَخُّلات، لذا كما قال تعالى:

 

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46)﴾

 

[سورة فصلت]

 النُّقطة الثانيَة ؛ وهذه النُّقطة بِشارة، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾

 

[سورة التوبة]

 هناك فرْق بين كتَبَ الله علينا، وكتَبَ لنا ! كتَبَ لنا يْ الخَير والتَّوفيق، والطُّمأنينة والسَّكينة، والبحبوحَة، السَّعادة، فَحُروف الجرّ وحدها مِن آيات الله الدالة على عَظَمَتِهِ، فمثلاً النبي عليه الصلاة والسلام يقول: بُعِثْتُ بِمُدارات الناس..." لو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: بُعِثْتُ لِمُدارات الناس ! فرْقٌ كبير جدًّا، فلو قلنا باللام لصارَتْ المُدارات جُزْءً مِن الدِّين، أما النبي قال بالباء، والباء للاسْتِعانة، أيْ أسْتَعين على هِدايَتِهِم بِمُداراتِهِم، والعلماء فرَّقوا بين المُدارات والمُداهَنَة، قال تعالى:

 

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9)﴾

 

[سورة القلم]

 المُداهَنَة أن تبْذِل الدِّين من أجل الدُّنيا، تُضَحِّي بِعِباداتكَ من أجل إرْضاء زَيْد أو عُبَيْد وتُضَحِّي باسْتِقامَتِكَ ونزاهَتِك، فأنت حينما تُضَحِّك بِدينِكَ مِن أجل دُنياكَ فأنت تُداهِنُ ! أما حينما تُضَحِّي بِدُنياك مِن أجل دينِكَ فأنت تُداري، ورأسُ العَقْل بعد الإيمان مُدارات الناس، وهو مَوقف حكيم جدًّا، فالحِكمة أرْوَعُ مثلٍ سَمِعْتُهُ حول الحِكمة ؛ الدَّواء المرّ الذي نُعْطيهِ الصّغير ؛ ماذا نفْعلُ به ؟ نخْلِطُهُ بالسُّكَّر حتَّى يحْلو، فالداعِيَة الحكيم يُقَدِّم مَضْمون دعوتهِ مع طَعمٍ عَذْبٍ، وحُلْوِ المذاق، فالحقيقة ذَكَرها ولكن معها مُرَغِّبات، أما الداعِيَة غير المُوَفَّق تَجِدُهُ سَلبي، يُرهِّب ولا يُرَغِّب، ويُحَذِّر ولا يُبشِّر، ويُنَفِّر ولا يُقرِّب، إذًا كما قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46﴾

 

[سورة فصلت]

 الآن معنا معنى آخر، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(24)﴾

 

[سورة سبأ]

 على تُفيد العُلُوّ، فالعُلَا يرْفَعُكَ، قال تعالى:

 

﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3)وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(6)فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(8)﴾

 

[ سورة الشرح ]

 الهُدَى يرْفَه، والضَّلال يُسْقِط، فالضَّال المُنْحرف آخرتُهُ بالسِّجن، أو آخرتُهُ فضيحَة أخلاقِيّة أو مالِيَّة، فالضَّلال والتَّفَلُّت ينتهي بِكَ إلى الفضيحة والفضيحة تنتهي إلى القَيد، قال تعالى:

 

﴿ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(22)﴾

 

[ سورة الزمر ]

 أما المؤمن المُهتدي قال تعالى:

 

﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(5)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 الهُدى يرْفع والضَّلال يخْفض، لذا لو وقَفْنا على حُروف الجرّ وحْدَها لَوَجَدنا العَجَب العُجاب، قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾

 

 

[ سورة الجاثية ]

 ثمَّ يقول تعالى

 

﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾

 

[ سورة الجاثية ]

 هناك إقْرار، وهناك إلْزام فأنت تُقِرّ أنَّ هذا الذّنْب فَعَلْتَهُ، ولكن هذا الذَّنب له عُقوبة، كما مرَّ بِنَا من قبل قول النبي عليه الصلاة والسلام:

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ * ))

 

[ رواه مسلم ]

 فسَّرْتُ هذا الحديث أنْ كُتِب على ابن آدَمَ أن ينالَ نصيبَهُ من عقوبة الزِّنا مُدْرِكٌ ذلك لا مَحَالة، وهذه فيها رَدعٌ، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾

 

[ سورة الغاشية ]

 أيُّها الإخوة، ثلاثة كلمات إن آمنْتُم بها، اسْتَقَمْتُم بها قَطْعًا ؛ إن علِمْتم أنَّ الله موجود، ويعلم، وسيُحاسِب، فلا يُمْكِنُ أن تعْصِيَهُ، فهل يستطيع الموظَّف العادي أن يسْرق من الخزنة أمام سيِّدِه ؟! هذا الحادِث لا يقع أبدًا وهل يستطيع صاحب السيارة أن يُخالف الإشارة والشُّرطي موجود أمامه ؟! مستحيل، وكذا إن أيْقَنْتَ أنَّ الله يعْم وموجود وسيُحاسِب لا يمكن أن تعْصِيَ الله تعالى، لأنَّك إن عصَيتَ فأنت لا توقِنُ به حقيقةً، وتكون حينها غبِيًّا، إذًا كما قال تعالى:

 

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)﴾

 

[ سورة الجاثية ]

تحميل النص

إخفاء الصور