وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الدخان - تفسير الآيتان 38 - 39 ماهو الحق؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
 أيُّها الإخوة الكرام ؛ الآية الثامنة والثلاثون من سورة الدُّخان ، وهي قوله تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾

[ سورة الدخان الآية : 38 ]

 فهذا الذي يقول : جِئْتُ مِن أين ؟ ولكنِّي أتَيْتُ ! فرأيتُ قُدَّامي طريقًا فَمَشَيْتُ أينَ كنتُ ؟ لسْتُ أدْري ! فهذا الذي يقول : لا أدري ، يظنُّ أنَّ الله سبحانه وتعالى خلقَ السماوات والأرض لَعِبًا ! لكنَّ الله عز وجل يقول :

﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة الدخان الآية : 39 ]

 الحقيقة أنَّ الله عز وجل في بعض آيات كتابه الكريم يصف القرآن الكريم بأنَّه مثاني ، وقد فسَّر بعض العلماء كلمة مثاني بأنَّ كلّ تنْثني على أُخْتِها فَتُفسِّرُها ، وأعلى مُستوى في تفسير كلام الله عز وجل أنْ تُفسَّرهُ بكلام الله يقول الله عز وجل :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الدخان الآيات : 38-39 ]

 الله جل جلاله أثبَتَ أنَّ السماوات والأرض بالحق ، ونفى أنْ يكون الخلق لَعِبًا ، فما تعريف الحق ؟ فالحق ضِدُّ اللَّعِب ، طيِّب وما تعريف اللَّعِب ؟ هو العَبَث ، يعني عملٌ لا هَدَف له ، فالإنسان الشارد قد يلْعب النَّرْد إلى ساعة متأخِّرة من الليل ، فهل يكون أحد اللاعِبَين طبيبًا ؟ وهل يُصْبحُ تاجِرًا كبيرًا ؟ أو شَخْصِيَّةً مرموقة ؟ هذا لا يفعل شيئًا ، فالعمل الذي لا ينفع والذي لا هدف له ، ولا أثر له في المستقبل ينقضي بانْقِضائِهِ ، أو العمل العابِث ، فاللَّعِب هو العبَث ، وبعضهم قال : إنَّما الحياة الدنيا لهو ولعب ! اللَّهو هو اشْتِغالك بالخسيس عن النَّفيس ، والنَّفيس هو عبادة الله عز وجل ، قال تعالى :

 

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي ﴾

 الآية : 56 ]

 

 

سورة الذاريات ]

 

الشيء الذي خُلِقْتَ من أجله ، والذي جاء بِكَ الله من أجله هو أن تعبُدَ الله تعالى ، فالخسيس أن تلْهو بالدنيا وتهتمَّ بِحُطامها ومالها ، وزُخْرها ، وبيوتها ومركباتها ، ثمَّ يأتي ملك الموت وأنت صفْر اليَدَين ، فهذا هو اللَّهو ؛ تَلْهو بالخسيس عن النَّفيس ، واللَّعب كلَّما دخلتَ لى مرحلة وخرجْتَ منها رأيتها مُحْتقرة في نَظَرِك ، فالطِّفل الذي يبكي مِن أجل دُمْيَة ، لمَّا يكْبُر يسْخر مِن نفسِهِ كيف أنَّه كان يبْكي من أجل دُمْيَة ‍! والشاب الذي يهْتَمّ بأشياء حينما يبْلغُ الأربعين يَحْتَقِرُها ، وكيف أنَّه كان مَعْنِيًّا بها ، فالدُّنيا كلُّها كما وصفها الله عز وجل لهو ولعب تدخل مرحلة الدِّراسة تعيش سنوات طويلة في حُلم أنَّك سَتَكون مُجازًا ومعك دكتوراه ، وبعد أن تأخذ هذه الشهادة بِأسابيع تَبدو لك طبيعيَّة ، وتهتمّ بالزَّواج ، وتظنّ أنَّه قِطعة من الجنَّة ، فتتزوَّج وتأتي الزَّوجة إلى البيت ، وبعد حينٍ يغْدو الزَّواج عادِيًّا جدًّا ، وتَطمَح أن تُسافر ، وتطمَحُ أن تُنْجِب أولادًا ، وأنْ تُزَوِّجهم ، فَكُلَّما نِلْتَ مرحلةً صَغُرَت في نَظَرِكَ ، لذلك لا يُمْكن للدُّنيا أن تمِدَّ إنسانًا بِسعادةٍ مُستَمِرَّة ، فضلاً أن تكون صاعِدة ، إنَّها تُمِدُّه بسعادة متناقصة ، وموطِنُ الشهادة أنَّ الإنسان نفسُهُ، نفْسُهُ ليسَتْ نِهائِيَّة ، إذا تعلَّق في الدُّنيا فالدُّنيا محدودة فالشاب يشْعر بِالسَّعادة لأنَّه يعيش الأحلام، يحْلُم بِبَيتٍ مُعَيَّن وبِمَساحة مُعيَّنة ، وبِتَرتيب مُعَيَّن ، وبِثَقافة معَيَّنة ، وبِمَركز مُعَيَّن ، وبعَمَلٍ ودَخْل ، وبعد حينٍ تبدو هذه الأحلام وقائِع محدودة ، ونفسُهُ لا نِهائِيَّة ، ويبدأ الإنسان بالسَّأم والضَّجَر والضّيق حينما تُحَدَّدُ كلُّ أهدافِهِ ، فهي كانت مفتوحة فأُغْلِقَت ، فلا بيت ولا زوجة ولا دخل ، فمن يغْدو شابًّا طوال حياتِهِ ؟ هو الله جعل الله هدفَهُ ، فالنَّفس لا نهائِيَّة ، والله لا نهائي، فأنت تَجِد المؤمن وهو في التِّسعين شابّ - وأنا أعني ما أقول - لأنَّ طلبهُ كبير جدًّا ، وهدفه مُقَدَّس جدًّا ، ويسعى دائِمًا إلى الرُّقِي ، والتَّقرُّب إلى الله عز وجل ، لذا ورَدَ عن رسول الله أنَّه مَن تعلَّم القرآن متَّعَهُ الله بِعَقلِهِ حتَّى يموت ، لأنَّه يقرأ القرآن ويفهمه ، وينقلهُ للناس ، والله جعل تعليمهُ جِهادًا كبيرًا ، وهذا الجِهاد المُتاح الآن أنْ تتعلَّم القرآن وتُعَلِّمهُ ، ولو طالبْتني بالدَّليل، أقول لك : قال تعالى :

﴿ فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾

[ سورة الفرقان الآية : 52 ]

 الله جَلَّ جلاله يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يجاهد بالقرآن جِهادًا كبيرًا ، فَتَعَلُّم القرآن مُتاحٌ لك ، وتعليمُهُ مُتاحٌ لك والإنسان يغْدو شابّا إذا جعَلَ الله همَّهُ ، قال الشاعر :
 اِعْمَل لِوَجهٍ واحِدٍ يكْفِكَ الوُجوهَ كُلّهــــا
 من جعَلَ الهُموم همًّا واحِدًا كفاهُ الله الهموم كلَّها
 أما إذا جَعَلَ الدنيا هَدَفَهُ ، ومنتهى آمالِهِ ، ومحطَّ رِحالهِ ، حينها تبْدو الدنيا صغيرة في نظرِهِ ، ويبْدأ السَّأم والضَّجَر ، وتَجِد أهل الدنيا بِضيقٍ قال تعالى :

 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

 

[ سورة طه الآية : 124 ]

 الضِّيق النَّفسي ، والضَّجَر والملل ، ولكنَّ الذي آمن بالله وعمِلَ صالحًا فهو في أعلى عِلِيّين ، فاللَّعِب إذًا مرحلة كلَّما دخلتها وخرجتَ منها احْتَقَرْتها وهو أن تلْهو بالخسيس عن النَّفيس ، والنَّفيس طاعة الله ، والخسيس الدُّنيا الفانية ، وقد قال تعالى :

 

﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

 

[ سورة الحديد الآية : 20 ]

 إنَّما هذه أداة حصْر ، وهذا إخبار الله لنا ، أنَّ الدنيا لهو ولعِب ، وتفاخر وتكاثر ، لذلك الله عز وجل هو أكبر وأجلُّ مِن أن يخلق الدنيا لهْوًا ولَعِبًا ، قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الدخان الآيات : 38-39 ]

 السؤال الآن ؛ ما الذي يُقابل اللَّعِب ؟ الهَدَف النَّبيل ، فمثلاً يُنشأ سيرك ! هذا دوره التَّرفيه واللَّعِب ليس إلا ، ولكن إذا أنشأنا جامعة ، فهذه غير السيرك ، إذْ نُخَرِّج بها قادة وعلماء ، وأُدباء، واخْتِصاصِيُّون وأطِبَّاء فَبِناء الجامعة ليس لعبًا ، فَعكس اللَّعِب هو الهَدَف ، فالعمل العابث لعب والعَمَل الهادف حق ، وفي آيةٍ ثانِيَة ، قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ ﴾

[ سورة ص الآية : 27 ]

 فالحق غير الباطل ، والباطل الشيء الزائل ، وكلّ شيءٍ لا يتَّصِل بالله ، ولا بِمَنهَجِهِ ، ولا بالعقيدة الصَّحيحة لا بدَّ مِن أن ينهار ، ولو عاشَ سبعين عامًا ، قال تعالى :

 

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾

 

[ سورة الإسراء الآية : 81 ]

 فكلَّما مرَّت بك كلمة حقّ بالقرآن الكريم اِعْتَقِد اعْتِقادًا جازِمًا مُسْتنْبَطًا مِن كتاب الله كُلِّه أنَّ الحق الشيءُ الهادف ، والشيء الثابت ، فرَبُّنا حينما نفى أن يكون خلقُهُ للسماوات والأرض لَعِبًا وباطِلاً ، فَمُقابل الباطل الشيء الثابت والحق ، ومُقابل اللَّعِب الشيء الهادِف ، والله هو الحق وقد خلق البشر لِيرْحَمَهم ، ويقول الله عز وجل :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾

[ سورة الدخان الآيات : 38-39 ]

 الشيء اللَّطيف أنَّ حياة المؤمن مُتَعَلِّقَة بالحق ، والحق ثابت ، لذا لن يفاجئ المؤمن أنَّ الذي كان يَعْتَقِدُهُ باطِلاً ، وأنَّ الذي كان يعْمَلُهُ كان سُدًا ، وربنَّا عز وجل يقول :

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة المؤمنون الآية : 115 ]

 العلماء يقولون ؛ حينما يقول الله عز وجل خلق السماوات والأرض بالحق أيْ أنَّ الحق لاَبَسَ خلق السماوات والأرض ، وهي خلقَتْ لِهَدَف عظيم وخُلِقَت لِتَبقى لا لِتَزول ، فالزَّوال مِن صفات الباطل .

 

تحميل النص

إخفاء الصور