وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة الزخرف - تفسير الآية 79 أحكموا أمرا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام، الآية التاسعة والسبعون من سورة الزخرف، وهي قوله تعالى:

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

[سورة الزخرف]

 

 أبْرَمَ الأمر أي عقَدَهُ وأقَرَّهُ وأنْفَذَهُ، والآية دقيقة جدًّا، فالإنسان أحيانًا يتَّخذُ قرارًا فيغْتَصِبُ مالاً ويتّخذُ قرارًا فيَنْتَهِكُ عِرْضًا، يتَّخِذُ قرارًا فَيُطَلِّقُ زوْجةً، يتَّخِذُ قرارًا فيَغُشُّ في بيْعِهِ وشِرائِهِ، هذا الإنسان حينما يتَّخِذُ هذا القرار ليْتَ أنَّهُ يعْلمُ أنَّهُ في قبْضَةِ الله، وأنَّ الله تعالى قد يُعاقِبُهُ عِقابا سريعًا، فيَجْعَلُهُ يدْفعُ الثَّمَن باهِظًا.
 حدَّثني رجلٌ أنَّهُ عَمِلَ مكان أبيه في تِجارة الصوف، توهَّم أنَّ الذَّكاء أنْ تأخذ ما ليس لك، فذَهَبَ لِيَشْتَرِيَ الصوف مِن البادِيَة وقال لي بالحرف الواحِد: بدأتُ أوهِمُ صاحب الصوف أنَّ الوزْن دقيق جدًّا، فيقول له مثلاً: ثلاثة وعشرون وسبع مائة غرام، فصاحِبُ الصوف ما سَمِعَ بِحياتِهِ وزنٌ بالغرامات، فَطَرِبَ أشَدّ الطَّرَب وأثنى على هذا التاجِر الصادِق الدقيق والورِع، ولكنَّهُ كان يُنَقِّص عشرة كيلو غرامات ويُضيف له ثلاث مائة غرام، فلمَّا جمَعَ هذه البِضاعة في الشاحِنَة ؛ نظَرَ هذا البدَوي إلى هذه الكَمِيَّة، ووازَنَ بين الوَزن الذي أعطاهُ إيَّاه، فشعَرَ بالحاسَّة السادسة أنَّ هذا الوَزن الذي أعطاه إيَّاه لا يتناسَب مع هذا الحجْم فقال له: إن شاء الله بِرَقَبتِك !! يقول لي صاحب العمل: بعد أن خَرَجتُ من عند هذا البدَوي، واتَّجَهْتُ نحو الشام، ومعي سيارة شاحِنَة فيها صوف وسَمن بلدي، دَخَلتُ في صِراع ؛ هل أعود إليه فأدْفَعُ له الفرْق، أم أُتابِعُ السَّير إلى دمشق، قال لي: دَخَلتُ في صِراعٍ مديد مِن مكان بيع الصوف إلى قرب مدينة كذا وكذا، وبهذا المكان بالذَّات قلتُ: لن أعود ! فهذا أقْسَمَ بالله العظيم ما إن أتمَّ قرارهُ هذا النفسي فإذا به يصْطَدِم بِشاحنة أخرى، ووجدَ نفسهُ في وسَط من الدِّماء، وتدفَّق السَّمن وعَلِمتُ أنَّ الله تعالى قد أبْرَمَ قرارًا بعد أن أبْرَمتُ قرارًا ! قال تعالى:

 

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

 

[سورة الزخرف]

 

 هذه الآية دقيقة جدًّا، فقبْلَ أن تتَّخِذ قرارًا بأخْذ ما ليس لك، وقبل أن تتّخِذ قرارًا باغْتِصاب بيْتٍ أم دُكَّانٍ أو أرْضٍ وقبل أن تتَّخِذ قرارًا بأن تتلاعب في التَّرِكَة، فإذا كنتَ أخًا أكبر، وأخذتَ حقّ إخوتِكَ الصِّغار، ويخافون منك، ونِلْتَ الحِصَّة الأوْفى، وسكتوا خوفًا منك، يجب أن تعلم أنَّك إن اتَّخَذْتَ قرارًا باغْتِصاب بيتٍ فالله تعالى يتَّخِذُ قرارًا، وأنت في قبْضَتِهِ.
 حدَّثني رجل يعْمَل في تصليح السيارات، وجاءهُ شَخص معه سيارة حديثة جدًّا، وهو يجهل طبيعة الخلل الذي أصابها، فقال له المصلِّح هذه تحتاج إلى عشرة آلاف ! وهي تحتاج إلى عشرة آلاف ليرة، وتصليحها يدوم ثلاثة أيَّام ! فهذا المصَلِّح أخذَ أهله أوَّل اليوم إلى الزَّبداني، وثاني يوم إلى المطار، وثالث يوم إلى الوادي، وصلَّحها بِرُبْع ساعة، وبعدها جاء صاحبُ السيارة فأعطاهُ سيَّارتهُ، وأخذ عشرة آلاف ليرة، جارُه أحدُ إخواننا بالمسْجد قال له: هذا لا يجوز، فقال له الغاشّ: هكذا الأصول ! في التالي دفَّعَهُ الله خمسة وعشرون ألف ليرة لِمُصيبةٍ أصابت ابنَهُ كلَّفته هذا المبلغ ! قال تعالى:

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

 

[سورة الزخرف]

 

 لذا قبل أن تُبْرِمَ أمرا تذكَّر أنَّ الله يُبْرِم، وقبل أن تعتَدي تذكّر أنَّ الله تعالى أقْدرُ عليك مِمّن اعْتَدَيتَ عليه، حديث: اعلم أبا ذرّ أنَّ الله أقْدر عليك مِنك عليه..." وقفَ رجلٌ مُتَّهَمٌ أمام الحجَّاج وأراد أن يقتُلَهُ، فقال: أسألكَ بالذي أنت بين يدَيه أذَلُّ مِنّي بين يدَيك، وهو على عِقابِكَ أقدرُ منك على عِقابي ! فالإنسان إذا تكبَّر أو تجبَّر أو تبخْتر أو إذا تَعَجْرف وتغَطْرس، وقال: أنا أفعلُ ما أشاء، وأنا سأتّخذُ هذا القرار لِيَذْكُر أنَّ الله سبحانه وتعالى له بالمِرصاد، وأنَّ الله قد يُحاسِبُه ُحِسابًا عسيرًا، وإنَّ بطش ربِّك لشديد، الله جلَّ جلاله إذا أخذ العبد الظالم أخَذَهُ أخْذَ عزيز مُقْتَدِر، وجَعَلَهُ عِبرةً لِمَن يعْتَبِر.
 وقِصصٌ كثيرة لا تُحصى أمام هذه الآية، فكُلَّما كنتَ عاقلاً، وكنتَ مُوَفَّقا، ومؤمنًا خاف الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: رأس الحكمة مخافة الله..." أنت إذا خِفْتَ من الله عز وجل كنتَ أعْقَل الناس، وأذْكر أنَّني قلتُ مرَّةً لِرجُلٍ وبإمكانِهِ أن يؤْذي الناس جميعًا ولا يُحاسَب فقلتُ له: اعْلَم أنَّ الله تعالى عندهُ تَشَمُّع كَبِد، و خثْرة بالدِّماغ، وسرطَان، وعنده أمراضٌ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وكلُّ مرضٍ إذا ساقَه الله للإنسان يجْعَلُ حياتَهُ جحيمًا، فهُنَاك مَن يدُهُ طولى في الأذى، فجأةً كفَّ عن الأذى، فلمَّا سُئِلَ ؛ قال: أربعة أولادٍ بُلْهٍ جاءوني !
 وهناك مَن يُحِبُّ أن يُثْبِتَ وُجوده بالإيقاع أمام الآخرين، هؤلاء الناس الذين يعيشون على أنقاض الآخرين، ويبْنون سَعادتهم على شَقاء الآخرين، ويبْنون اموالهم على إفْقار الآخرين، وهؤلاء الذين يحْتالون في البيع والشِّراء، هناك أساليب للغِشّ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، وأساليب للاحْتِيال لا تُعَدُّ ولا تُعْصى، فهؤلاء الذين تَغُشُّهم وتُؤذيهم تُخيفُهم، لهم ربّ وأنت بِيَدِهِ، وصِحَّتُكَ بيَدِه، وقلبُكَ بيَدِهِ، ودسَّاماتُ قلبِكَ بيَدِهِ، وشرايينُكَ بيَدِهِ، وكلّ أجْهِزَتِك، فقد تنْمو الخلايا نموًّا غير طبيعيّ، وأحيانًا يتلقَّى الإنسان خبرًا عن صِحَّتِهِ، يموت مِن شِدَّة الخوف، قال له الطبيب: معك مرض خبيث، ومعك أربعة أشْهر كَعُمْرٍ أقصى ! في اليوم الثاني مات ذلك المريض !! فالإنسان جِسْمُهُ بِقَبْضة الله.
فقُلتُ له: كلُّ هؤلاء الناس عِباد الله، والله عنده أورام، وفشَل كَلَوي ذكَر لي شَخص توفِّي رحمه الله: أنَّ الطبيبة بِمَركز غسيل الكلاوي ضربتْهُ وقالت له لا تشْرب الماء كثيرًا !! وهناك تشمُّع كبد، وورم خبيث، وخثرة بالدِّماغ، وفقْد ذاكرة، قال تعالى:

 

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

 

[سورة الزخرف]

 هذه الآية أيها الإخوة يجب أن تبْقى في ذِهْن كلّ إنسان فالطبيب أحيانًا يقول لك: أنا أستطيع تَحصيل دَخل كبير جدًّا وبطَريقة يسيرة ؛ فقط عشرة تحاليل للمريض، يتَّفِق مع المُحَلِّل، والباقي يُرمى ! فهذا أبْرَمَ أمرًا، شَهِدَ الله تعالى أنّهُ زارني طبيب معه اثنان بورْد وخرَّج خمسين جيلاً من الأطِبَّاء، عمره سبعون سنة، وأنا أحْسبُهُ صالحًا ولا أُزكِّي على الله أحدًا، قال لي: جاءَتني طبيبة معها سرطان بالصَّدر ومنتَشِر إلى الكَتِف، فتألَّم أشَدّ الألم لِحالها، وعنَّف زوْجها في غرفة أخرى، وقال لِزَوجها أنت مُجرِم بحَقِّها، فقال الزَّوج: ولماذا ؟‍ فقال الطبيب: لأنَّ هذا المرض لمَّا كان كَحَبَّة الحِمِّص ما عالَجتَهُ، فلماذا أنت مُهْمِل لِزَوجتك ؟ فقال الزَّوج: أنا لسْتُ مهمِلاً، وإنّما كنتُ أُعالج عند الطبيب الفلاني سنَتَين ‍‍‍!! قال لي هذا الطبيب: والله طالب طِبّ صفّ ثاني يعلم أنَّه مرض خبيث ! ولو أرْسلَهُ إلى طبيب مخْتصّ لعالَجَهُ، ولكن تركَهُ لِيَبْتزَّ مالهُ، وبعد سِتّة أيَّام ماتَتْ المرأة، وبعد أحَدَ عشرة شهْرًا يدْخُل عليَّ إنسان أنيق المظْهر، وجلسَ على الكرسي الذي جلسَ عليه زوْج المريضة المُتَوَفّاة، وجلسَ مُتهالِكًا، فقلتُ له: أهْلاً وسَهلاً ما الموضوع ؟ فقال لي: سرطان بالصَّدر، فقال له وما اسْمُك ؟ فقال له: الطبيب الفلاني، وكان هو الطبيب نفسُه الذي عالَجَ المرأة المُتَوَفَّاة !! يُقْسِم بالله العظيم بِحَسبِ خِبْرتِهِ أنَّ هذا المرض بدأ ينْمو ساعة مُخاطبة زوج المُتَوَفَّاة ربَّه !! قال تعالى:

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

[سورة الزخرف]

 وهذا إنسان في طريق عريض أراد أن يخْتبِرَ قُدراتهِ في سياقة السيارة فقصَّ يدي كلبٍ كان جلسًا على الطريق بِمهارة فائِقَة، وأطْلَقَ ضِحْكةً هِسْتيرِيَّة، وكان يوْمها السَّبت، وفي السَّبت التالي ؛ تعطَّلَت سيارة ذلك الأبله، فرفَع سيارته على الجهاز، ونزَعَ الدولاب مِن مكانِهِ، فوَقَعَت السيارة فوق الدُّولاب، والدُّولاب فوق يَدَيه، وإلى أن ذَهَب إلى المستشفى اسْوَدَّت يداه، فقُطِعَتَا من رُسُغَيْه في السَّبت التالي، قال تعالى:

 

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

[سورة الزخرف]

 

 وهذا رجل طرقَ الباب على عائِلَة وهم يأكلون، فهمَّت الزَّوجة أن تُعْطيه بعض الطعام، فقال الزَّوج: اطْرُديه ! بعد ذلك ساءَت العلاقة بين الزَّوجين حتَّى طلَّقها، فتزوَّجَت مِن إنسانٍ آخر، فكانت جالسَة مع الزَّوج الجديد فَطُرِقَ الباب، وذَهَبت لِتَفْتَحَ الباب فرَجَعَت مُضْطربة، فقال: من السائل ؟ فقالت: سائل ! فقال: من هو ؟ فقالت: زوْجي الأوَّل، فقال لها: هل تعلمين مَن أنا ؟ أنا السائل الأوَّل، قال تعالى:

 

﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)﴾

 

 

[سورة الزخرف]

 أحدهم ذَهَب للحجّ على الباخرة، وحوله حُجَّاج كلُّهم تُجَّار، جلسوا يتكلَّمون على تِجارتهم، وكان هو مُوَظَّف مالِيَة، فلمَّا رجع إلى بلَدِهِ حاسبهم واحِدًا واحدًا ! فأُصيبَ بِمَرض عُضال !! سبحان الله وهو بالحجّ يشتغل للدنيا ! فهذه الآية دقيقة جدًّا، وعلى المؤمن أن يُفَكِّر فيها دائمًا فقبْلَ أن تغْتصب، وقبل أن تُطَلِّق، وقبل أن تنتهِكَ عرضًا، اقْرأ هذه الآية.

تحميل النص

إخفاء الصور