وضع داكن
16-04-2024
Logo
الدرس : 05 - سورة الشورى - تفسير الآية 20 الإنسان مخير.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية العشرون من سورة الشورى، وهي قوله تعالى:

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)﴾

[ سورة الشورى ]

 أنت مُخيَّر في أكثر من آية في القرآن الكريم، قطْعِيَّة الدلالة والثبوت، قال تعالى:

 

﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)﴾

 

 

[ سورة الأنعام ]

 إذا ظَنَنْتَ أنَّ الله تعالى أجْبرَكَ على عملك فهذه عقيدة أهل الشِّرك، فأنت مُخيَّر، قال تعالى:

 

 

﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا(29)﴾

 

[ سورة الكهف ]

 قال تعالى:

 

﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾

 

[ سورة الإنسان ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)﴾

 

[ سورة فصلت ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148)﴾

 

[ سورة البقرة ]

 وأيَّة آيةٍ يُشَمُّ منها رائِحَة الجَبْر يجب أن تُحْمَل على آيات الاخْتِيار لأنّ القاعدة الأصوليّة تقول: أنَّ الآيات المشتبهات مهما كثُرت تُحْمل على الآيات المحْكَمات مهما قلَّتْ.
شيءٌ يلْفتُ النَّظر، قال تعالى:

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ﴾

 

[ سورة الشورى ]

 إن أردْت الآخرة تأتيك الدنيا والآخرة، قال تعالى

 

﴿نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾

 

[ سورة الشورى ]

 تأتيه الدنيا وهي راغمة، وهو في الآخرة من السُّعداء، قال تعالى

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 ما قال نؤْتِه الدنيا، ولكن قال: نؤْتِهِ منها ‍! أي نؤْتيه بعضها ؛ يعطيه المال ويحْرِمُهُ الذريّة الصالحة، يُعطيه الذريَّة ويحْرمُهُ الزَّوجة الصالحة، يعْطيه الشَّأن والوَجَاهة ويحْرِمُهُ السَّعادة لأنّ هذه الدنيا لن يستطيع أحدٌ أن يُحصِّلها من كلّ أطرافها، لأنَّه إذا فعَل ذلك كرِهَ لِقاء الله عز وجل، هناك حِكمة بالغة فالله تعالى يأخذ لِيُعطي، ويبْتلي لِيَجزي، ذكرتُ البارحة في بعض الدُّروس أنَّ الله تعالى ضارّ ولكن ينبغي أن تقول: الضارّ النافع، فلا يجوز الإفراد في هذا الموضع لأنَّه يضرّ لِينفع،و يخفض لِيَرفع، ويُذِلّ لِيُعِزّ، ويأخذ ليُعطي، ويقبض لِيَبسط، لذلك كما قال تعالى:

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 فالإنسان أراد الدنيا، وأصرّ عليها، ولم يعبأ بِغَيرها، وجعلها مُنتهى آمالِهِ ومحطّ رِحالِهِ، وكلّ طاقاته، وإمكاناته وقدراته، صرفها في الدنيا بعدها سيفاجئ أنَّه لا بدّ من مرض مُفْسِد، وهرم مُفنِّد، ومن موت مُجهِز، ومن فقْرٍ مُنْسي، ومن غِنًى مُطْغي، ومن دجَّال يُدجِّل، فهذه الساعة لا بدّ آتِيَة، فالذي أراد الدنيا لا بدّ من أن يُحْرمَها شاء أم أبى، أعْجبَهُ أم لم يُعْجِبْهُ، فهذا خِيار، ومن هنا قيل: من آثر دنياه على آخرته خسِرهما معًا، ومن آثر آخرتَهُ على دُنياه ربِحَهُما معًا.
أجْملُ دعاءٍ سَمِعتُهُ، كان في أحد الولائم، وقال أحدهم فدعا وقال: اللهمّ اجْعل نِعَم الدُّنيا متَّصِلة بِنِعم الآخرة ‍! فالله عز وجل يقول

 

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا(147)﴾

 

[ سورة النساء ]

 ممكن أن تعيش حياةً هانئة، ويأتي ملك الموت فتنتقل إلى جنَّة عرضها السماوات والأرض، لأنَّ المؤمن حينما يموت ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعَةِ الآخرة، كما ينتقل الجنين من ضيق الرَّحِم إلى سعة الدنيا، رحم حجمه سبعمائة وخمسون سنتمتر مكعَّب الطِّفل إذا وُلد قد يسافر إلى أمريكا وإلى اليابان، وقد يصْعد إلى القمر، وازِن بين حجْم الرَّحم، وبين الفضاء والسَّفر من قارة إلى أخرى، أين كان يعيش ؟ فالمؤمن إذا مات انتقل من ضيق الدُّنيا إلى سعة الآخرة، لذلك الإنسان أيها الإخوة ونحن أحياء ونحن في بحبوحةٍ الآن ؛ نحن أمام خِيار صَعب، يجب أن تختار الآخرة وأن تنقل كلّ اهْتِماماتك إلى الآخرة، ويجب أن تكسب المال من أجل إنفاقه في سبيل الآخرة، ويجب أن تُربِّي أولادك من أجل أن يرْضى الله بك في الآخرة، وأن تأخذ بيَدِ زوْجَتِك إلى الله تعالى ورسوله من أجل أن تسْعد بها في الدنيا والآخرة، فلذلك هذا الخِيار الصَّعب ؛ إما أن تختار الدنيا وإما أن تختار الآخرة، فإن اخْترتَ الدنيا أعطاك بعضها، ومالك في الآخرة من خلاق، وإن اخْترتَ الآخرة أعطاك الدنيا والآخرة، من شغلهُ ذِكري عن مسألتي أعْطَيتُهُ فوق ما أُعطي السائلين، عبدي كُن لي كما أُريد أكُن لك كما تُريد، وكُن لي كما تُريد ولا تُعْلمني بِمَا يُصْلِحُك، أنت تريد وأنا أُريد فإذا سلَّمتَ لي فيما أريد كفَيْتُكَ ما تريد، وإن لم تُسلِّم لي فيما أريد أتْعَبتُكَ فيما تريد ثمَّ لا يكون إلا ما أُريد وخلقتُ لك السماوات والأرض ولم أعْيَ بِخَلقِهِنّ، أَفَيُعْييني رغيف أسوقُهُ لك كلّ حين، وعِزَّتي وجلالي لي عليك فريضة ولك عليّ رِزْق، فإذا خالفْتني في فريضتي لم أُخالفْكَ في رِزْقِك، إن لم ترْض بما قسَمْتُهُ لك فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا، ترقُد فيها رقْد الوَحش في بريَّة، ثمَّ لا ينالكَ منها إلا ما قسْمته لك ولا أُبالي، وكنتَ عندي مذمومًا.
 آية دقيقة جدًّا، ونحن أمام خِيارٍ صَعب، ويجب أن تختار الآخرة، فإن اخْتَرتَ الآخرة جاءَتك الدنيا وهب راغمة، أما إن اخْترتَ الدنيا أعطاك الله بعضَها، قال تعالى:

 

﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)﴾

 

[ سورة الشورى ]

 هناك معنى ضِمني، إذْ يستحيل أن تشتغل بِطاعة الله، ويشْغَلَك بِغَيرِهِ، أنت حينما تنْصرف إلى الله تتقدَّس نفْسُك، وعندها تكون أكرم على الله من أن يُخيفك، ومن أن يُذِلَّك ويشْغلَك بِنَفْسِكَ، فالذي ينصرف إلى الدنيا، وهو غافل ساهٍ لا بدّ من صَحْوةٍ يوقِضُه بها الله، أما إذا انْصرف إلى الله هو أكْرمُ على الله من أن يشْغلهُ بما سِواه، ذكروا أنَّ الإمام أبا حنيفة قرأ حديثًا عطفهُ مائة وثمانين درجة، قال: من طلب العِلم تكفَّل الله له بِرِزْقِه ‍! ليس المعنى أن يَجِد تحت الوِسادة مالاً، ولكن يُوفِّقُهُ إلى عملٍ وقْتهُ معقول، وأجْرهُ مَعقول ؛ فالذي يُحبّ أن يحضر مجالس العِلم، هذا وقت فأنت حينما تطلب العِلم يُيسِّر الله لك عملاً مُريحًا ووقْتُهُ قليل، ودخلُهُ كبير، فهذا يعني أنَّك طلبْتَ العِلم على حِساب الله، أما الذي يقول: أنا لا أطلب العِلم لأنَّه ليس لي وقت !! فهذا يحرق قلبه من العمل، والإنسان إذا أحبّ الدنيا منها بِثَلاث: شُغْل عناه ؛ أعمال فوق طاقته، والله تعالى قادِر أن يشغل لك أعمالك بِأشياء سَخيفة، وقادر على أن يخسرك المئات !! ولكنَّ الإنسان إذا حضر مجالس العلم فقد دفعَ زكاة وقته، وتجد وقته ثمين ولذا أجمل كلمة قيلَت: أنَّ المؤمن مُبارَك، كلمة مُتداولة كثيرًا بمعنى أنَّ الله تعالى بِمَال قليل يُعطيه الخير الكثير، وبِوَقت قليل يُنْجزُ فيه أعمال كثيرة، وبالمقابل تجد من له مال كثير لا يفعل به إلا القليل، وتجده قضى الشهور ولم يحصِّل ولا جزءً ممَّا أراد، ويا أيُّها الإخوة، كلُّكم يعلم أنَّ لو أنَّ أحدًا كلَّفته عمليَّة أربعة ملايين بفرنسا، وبيته ثمنه أربعة ملايين، فأنا لا أشكّ أنَّه يتردَّد ولا ثانية في بيع بيْتِه، طيِّب لو أنَّ إنسانًا مسَك خمسين ألف ليرة وحرقها، فهل تحترم أنت هذا الشخص ؟! تعُدُّه مجنونًا فالذي يُنفق وقته جُزافًا يُعدُّ أشدَّ سفهًا مِمَّن يُحرق خمسين ألف أمامك.
 فَمِحور الدرس ؛ أنَّك إن أردت الدنيا وأصْررْت عليها أعطاك الله بعضها وأشقاك بِبَعضها الآخر، وليس لم في الآخرة من خلاق، أما إن أردْت الآخرة أعْطاك الآخرة، والدنيا، وكنتَ أسْعد الناس، فالله يُخيِّرنا بين أن نأخذ الدنيا فنأخذ بعضها ونشق بالبعض الآخر، وبين أن نختار الآخرة فنأخذهما معًا، ونكون أسْعد الناس، وطاعة الله هي سبب السعادة، قال تعالى:

 

﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾

 

[ سورة الأحزاب ]

 وقال تعالى:

 

﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)﴾

 

[ سورة آل عمران ]

تحميل النص

إخفاء الصور