وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة الشورى - تفسير الآية 14 التَّفَرُّق ثلاثة تفرّق طبيعي وتفرّق مذموم وتفرّق محمود.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الإخوة الكرام، الآية الرابعة عشْرة من سورة الشورى، وهي قوله تعالى:

﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)﴾

[سورة الشورى]

 كلمة تفرَّقوا تقودنا إلى بحث موضوع التَّفرُّق بين المسلمين، بل التَّفرّق بين أتباع الأديان كلِّها التَّفَرُّق أنواع ثلاثة ؛ تفرّق طبيعي، وتفرّق مذموم وتفرّق محمود.
 التَّفرّق الطبيعي سببُه نقْص المعلومات، كان الناس أُمَّة واحدة فاختلفوا لا يوجد وحي حاسِم فاختلفوا، أوْضح مثَل ليلة العيد، سَمعنا صوت مَدفع يا ترى هل هم يفتحون طريقًا في الجبل ؟ ناس يقولون: صخرة بالجبل هدَّموها، وناس قالوا: غدًا ليلة العيد، فنحن اختلفنا لِنَقص المعلومات وكل إنسان يتوهَّم شيء، ويأتي بالدليل الضَّعيف، فهذا النوع من الاختلاف نوع طبيعي، فلا توجد معلومات دقيقة، حينها نختلف، قال تعالى:

 

﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(213)﴾

 

[سورة البقرة]

 الآن بعدما نزل الوحي والكتاب المبين، والقرآن الكريم، وسنة واضحة وإله واحد، ونبي واحد ؛ حينها اخْتلف المسلمون هذا الاختلاف اختلاف قذِر، أساسه الحسَد، والبغي والعدوان والهوى قال تعالى :

 

﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)﴾

 

[سورة الشورى]

 البغي هو العدوان بِدافِع الحسَد، فالتّفرّق الطبيعي هو التفرّق الذي سببه نقص المعلومات والتّفرّق المذموم هو الذي سببه الحسَد والبغي، فالخِلافات التي بين الدُّعاة والخلافات بين الجماعات، والخلافات بين الأطراف ؛ هذه ليس مردُّها نقْص المعلومات، ولكن مردُّها التنافس على المكاسب، كُنَّا نُعْجب بِبِلادٍ في أقصى الشرق، فوقَفَت أمام أكبر دولةٍ في العالم ؛ ثمّ الآن نتألَّم أشَدّ الألم، وهذا الخلاف جرّهم إلى سفْك الدِّماء بينهم، فَخِلافهم الآن خلاف منصب، وبغي وعُدوان، وليس خلاف عقيدة، وهذا الخلاف عند الله مذموم، وقَذِر، فأنا حينما أختلف معك فلِمَصْلحةٍ مادِّية، وحينما أختلف معك لأُنافِسَك، وحينما أخْتلف معك لِمَكاسِب بين يدَيّ لا أُفرِّط بها، لذلك كنتُ أقول لكم دائِمًا ؛ هناك دعوة إلى الله تعالى خالصة، ودعوة إلى الذات باغيَة، دعوة إلى الذات مُغلّفة بِدَعوة إلى الله تعالى، فالدَّعوة إلى الذات مِن خصائصها ادّعاء التَّفرّد، ومن خصائصها الابتِداع، ومن خصائصها التنافس، ومن خصائصها جُحود ما عند الآخرين، أما الدعوة إلى الله تعالى الخالصة من خصائصها التَّواضع، ثمّ الاتِّباع، ثمّ التَّعاوُن ثمّ الإنصاف، فإذا كنت أيها الداعي مُتواضع ومُتَّبِع، وتعترف بِالآخرين، وتتعاون معهم، فأغلبُ الظنّ أنَّ دعوتك إلى الله تعالى خالصة، أما التنافس فهو دليل عدم الإخلاص، فيها دعوة إلى الذات، فنحن نُعاني لا من خلاف طبيعي مردُّه نقْص المعلومات، ولا من خلاف سيكون محمودًا بعد قليل، ولكن نحن نُعاني من خِلاف قَذِر سببهُ الحسَد والبغي، قال تعالى:

 

﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)﴾

 

[سورة الشورى]

 بغْيًا مفعول لأجله، أيْ بِسَبب البغي والعدوان والحسد، إذًا هناك تفرّق طبيعي لا محمود ولا مذموم وتفرّق طبيعي سبه نقْص المعلومات.
الآن جاء الوحي الناصع، والنبي الصادق، وكلّ شيء واضِح ؛ قرآن كريم لا ريب فيه، وسنَّة مطهَّرة واضِحة، وقد قال عليه الصلاة والسلام

((فيما رواه ابن ماجه أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا قَالَ قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ * ))

 

[ رواه ابن ماجه ]

 أيها الإخوة الكرام، دقِّقوا في هذه الكلمات التي سأقولها ؛ ما من فرقة ضالة إلا ولها خصائص، أوَّل خاصَّة أن التَّركيز في الفرقة لا على المبادئ، ولكن على الأشخاص، وتأليه الأشخاص، ثمّ يصبح هذا الشَّخص مُشرِّع، وما قاله هو الحق، وما لم يقلهُ هو الباطل، فهذا أعلى إنسان على وجْه الأرض بعد رسول الله هو سيّدنا الصِّديق رضي الله عنه وفي أوّل خطبة خطبها قال: وُلِّيتُ عليكم ولسْتُ بِخَيركم، إنَّما أنا مُتَّبِع ولسْتُ بِمُبْتَدِع، إن أحْسنت فأَعينوني، وإن أسأتُ فقَوِّموني، فهذا كلام الصِّديق، قال: وأطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، وإن عصيتُهُ فلا طاعة لي عليكم ! فهل يتجرأ أحدنا بعد الصِّديق أن يقول: أنا لا أخطئ ؟! أو يقول أنا خيركم !! وكلامي تشريع !!!! مستحيل، إذًا الدعوة إلى الذات شيء والدعوة إلى الله شيء آخر، فالدعوة إلى الله فيها تواضع واتِّباع وتعاون وفيها إنصاف، وإلى الذات فيها كِبر، وإنكار لفضل الآخرين، وتنافس، لذلك نحن لا يؤْلمنا إلا التَّفرّق، وكلاًّ يُغنِّي ليلاه، وكلّ يدَّعي وصلاً بليلى فالذي يتوقَّع أنَّ الله له فقط، فهو خاطئ، وأنّ الجنّة له فقط ! نقول له: إنَّ الله تعالى لكلّ المسلمين، قال تعالى:

 

﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾

 

[سورة الشورى]

عُدوانا وطغيانا وحسدًا، ويتَّبعون الدنيا والمكاسب.
 لو سألني أحدكم ؛ أين هو التنافس المحمود ؟ قال: التفرّق المحمود هو تفرّق التنافس، فهذا اتَّجه إلى إعمار المساجد وهو يظنّ أنّه أعظم عمل وهذا اتَّجَه إلى نشْر الحق، وهذا اتَّجَه إلى إطعام الفقراء والمساكين وهذا أسَّس معاهد شرْعِيَّة، فهؤلاء تنافسوا مع إخوانهم في الحق، ولِخِدمة هذا الدِّين، وهناك من يعنيهم أن يرَوا الناس في بحبوحة ؛ فَيُؤَسّس جمعيَّة خيريَّة، وإعانة المساكين وطلبة العلم، وإنسان نشر الحق، ونشر الفضيلة فنحن يمكن أن نتنافس تنافسًا شديدًا، والله عز وجل قال:

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾

[سورة المطففين]

 وقال تعالى:

 

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾

 

[سورة الصافات]

 فالتنافس الشريف أن نتسابق لِخِدمة المسلمين، فالذي يُدرِّس يُساهم، والذي يبني يُساهم، والذي يُطعم الفقراء يُساهم، والذي يرعى الأيتام يُساهِم والذي ينشر الكتب يُساهم، فالاختلاف الأوّل طبيعي، والاختلاف الثاني قذِر ؛ اختلاف الحسد والبغي ولا تنافس على الدنيا، والاختلاف الثالث محمود، قال تعالى:

 

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)﴾

 

[سورة المطففين]

 فهناك من يرى أن التجويد هو كل شيء، وآخر يرى الفقه، وذاك المواريث، وآخر مصطلح وذاك في التفسير، وآخر جرح وتعديل، وهذا عالم بالفقه المقارن والأحوال الشخصيَّة، وهناك من درس الإنجيل وردّ على مُدَّعيه، فكلّ عالم أخذ جانبًا وتفوَّق فيه، فكل هؤلاء العلماء أخذوا جانبًا وتفوّقوا فيه وهذا تنافس محمود عند الله عز وجل، فالمسلمون والعلماء متكاملون يشدّ بعضهم بعضًا، لذا لو تعاون الدّعاة إلى الله تعالى لكانوا وحدة متكاملة، والعقيدة الصحيحة أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام معصوم بِمُفردهِ، وأُمَّتُهُ معصومة بِمَجموعها، والله تعالى قال: وتعاونوا على البرّ..." فمُلخَّص الدرس أنَّ هناك تفرّق طبيعي سببه نقْص المعلومات، وآخر قذِر سببه المنافسة على الدنيا، وآخر محمود سبه التنافس في خِدمة هذا الدين، فأنت كُن مع الصِّنف الثالث، قال تعالى: فهدى الله الذين آمنوا....بإذنه " فكلٌّ مِنَّا يخدم الدِّين بما استطاع عليه، وبما يسَّر الله له، فكل إنسان يُيَسَّر لما خلق له، فأنْسب شيء يُناسبُك للجنَّة، وليس في الإمكان أبْدع مِمَّا كان.
 أرجو الله أن يكون تنافسنا من أجل خدمة هذا الدِّين، وليس من أجل السعي للدنيا، وأن نُوطِّن أنفسنا من أجل التعاون لا التنافس القذِر، وأن لا نُنْكر فضل الآخرين، وأن تكون لنا أدوار، وأن نسمح لآخرين بإقامة أدوارهم.

تحميل النص

إخفاء الصور