وضع داكن
19-04-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 29 - دلائل الرسالة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ينبغي على المسلم أن يكون سلاحه في معرفة الأشياء الدليل:

 لازلنا في موضوع الإيمان بالرسل، والآن ننتقل إلى فصل جديد عنوانه دلائل الرسالة, ذكرت لكم من قبل أن على الإنسان الواعي ألاّ يقبل شيئاً إلاّ بدليل، وألاّ ينفي شيئاً إلاّ بدليل، وقد قال العلماء: " إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مدعياً فالدليل " لذلك كان علماء الحديث رضي الله عنهم, قد بذلوا جهوداً جبارة في معرفة الخبر الصادق من الخبر الكاذب, وصنفوا الأحاديث، الأحاديث المتواترة في النص، والمتواترة في المعنى, والأحاديث الصحيحة، وأحاديث الآحاد، والأحاديث الحسنة، والأحاديث الضعيفة, لأن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
 أريد أن ألقي على مسامعكم هذه الملاحظة: أكثر من أخ في كل أسبوع تقريباً, يقولون لي: هل هذا حرام؟ لما هو حرام؟ فلان قال: حرام, اسأله: ما الدليل؟ أن تأخذ دية أخ قتل في حادث حرام؟ اسأله: ما الدليل؟ هل عندك آية أو حديث أو حكم فقهي لإمام عظيم من أئمة الفقه ينهى عن ذلك؟ فالملاحظ أن أكثر الناس يُقال له: حرام فيصدق, يُقال له: حلال فيصدق, لا تقبل أن يكون الشيء حلالاً إلا بدليل من الكتاب أو من السنة أو من الإجماع أو من القياس, وإن لم تستطع أن تستنبط أنت الدليل, فاسأل أهل الذكر, اسأل العلماء، اسأل الفقهاء، ما رأي الإمام أبي حنيفة؟ ما رأي الإمام الشافعي؟ ما رأي الإمام أحمد؟ هناك أئمة عظام درسوا النصوص، ومحصوها وصنفوها واستنبطوا منها الأحكام, وإذا قيل لك: هذا شيء حرام, ما الدليل؟ إذا كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدعياً فالدليل, هناك أشخاص جانبوا المنهج العلمي, قرأ في أحد الكتب كلاماً يتعارض مع كتاب الله, ولكن هذا الذي قرأته لم يصح نقله ، إذا كنت ناقلاً فالصحة وإذا كنت مدعياً فالدليل, فإذا الواحد مرّن نفسه، وطن فكره على أن لا يقبل شيئاً إلا بدليل, وألاّ ينفي شيئاً إلا بدليل, وألاّ يقبل خبراً إلا إذا توافرت شروط الصحة, وألاّ ينفي خبراً إلا إذا قام الدليل على كذب الناقل,

" أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ لا أَدْرِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ أَوْ لا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ "

(أخرجه الدارمي في سننه)

 

متى يجب اﻹيمان بالرسل ؟

 موضوع درس اليوم دلائل الرسالة: متى يجب الإيمان بالرسل؟ العلماء قالوا: " متى ثبت لديك بالدليل القاطع " في عندنا دليل مقنع، في دليل ظني، في دليل قاطع, أعلى أنواع الدلالة هو الدليل القاطع, حركة السيارة دليل قاطع على أن في المستودع وقوداً هذا دليل قاطع, فلذلك متى ثبت لديك بالدليل القاطع أن واحداً من البشر رسول من عند الله يبلّغ ما أمر الله تبليغه للناس، وجب عليك الإيمان به, ووجب عليك اتباعه, والائتمار بأمره, والانتهاء عما نهى عنه في حدود شروط رسالته, وشروط العمل بها.
 إذا كنت جندياً في قطعة عسكرية، وجاءك إنسان يحمل كتاباً فيه أمر عسكري, أنت بحسب نظام الجندية يجب أن تأتمر بهذا الكتاب بما جاء في هذا الكتاب، ويجب أن تنتهي عما نهى عنه هذا الكتاب, بقي أن تعرف أن هذا الكتاب صحيح أنه هو من عند من هو أعلى منك، تنظر في فحواه, تنظر في الذي جاء به, هناك أدلة تجعل هذا الكتاب عندك مقبولاً, وهذا الذي جاء به مُصَدّقاً, فليس كل إنسان يدعي النبوة أو الرسالة نُسلم له بدعواه حتى تتوافر فيه شروط صدقه.

أدلة الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام:

1- فحوى الرسالة:

  العلماء قسّموا أدلة الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام إلى أربعة أدلة:
  الأمر الأول: أول دليل على صدق رسول الله في أنه رسول الله, أول دليل على صدق نبوته، وصدق رسالته: هو فحوى رسالته أي تأمل في المضمون، فأي إنسان إذا نظر بإمعان العاقل المنصف فيما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من دعوة التوحيد، من بيان لأصول العبادات ونظم المعاملات ومناهج الأخلاق, ثم يراقب موافقتها لصالح الناس, وسعادتهم في شتى مطالب حياتهم في دنياهم وفي أخراهم، يرى أن كل جزئية موافقة للحق دون مِرية, فلا تناقض في النصوص, ولا ضعف في أصول الشريعة ولا فروعها, إذا نظرت هذا النظر, ودققت هذا التدقيق, وعرفت هذه المعرفة, لاشك أنك تُسلم وتُسلّم وتعتقد وتؤمن أن هذا الذي جاء بهذا الشرع العظيم, وهذا الدستور القويم, وهذا المنهج المفصل هو رسول من عند الله سبحانه وتعالى, منهاج الكتاب, مضمون الكتاب, أسلوب الكتاب, محتوى الكتاب, بنود الكتاب, هذا في مستوى المرسل, لذلك الدين من عند الله, والله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض, الكل عبيده, فالدين الذي يدعو إلى المساواة بين الناس هو دين الله, يجب أن يكون هناك تناسب بين عظمة الخالق وبين عظمة التشريع, فلابد أن تعرف عظمة التشريع من عظمة الخالق، هذا دليل كبير جداً على صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لو أن في الدين أمراً يخص أمة دون أمة، فئة دون فئة، طبقة دون طبقة، لما كان هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى لأن:

" الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالهِ "

( أخرجه البيهقي في الشعب، وأبو يعلى من حديث أنس وسنده ضعيف، وابن عديّ من حديث ابن مسعود)

 فإذا نظر الإنسان في أصول هذه العقائد, في أصول هذا الدين, في أصول هذه العبادات, في نظم المعاملات، في مناهج الأخلاق, يكتشف أن هناك تناسباً بين هذا التشريع العظيم وبين خالق الكون, الشيء الذي أُضيف على الدين وليس منه يتهافت، يتساقط, لا ترتاح له, أتُحب أن تُقرض الناس بالربا؟ كيف؟ اشترِ كيس سكر, ضعه أمام الدكان, يأتيك الرجل ليقترض منك مثلاً ألف ليرة, تبيعه هذا الكيس بألف ليرة ديناً، وتشتريه منه بثمانمئة ليرة نقداً, والكيس ما زال بمكانه, هذا بيع صوري, هذا حيلة على الربا, لذلك منع الفقهاء هذا البيع سداً للذريعة, هذا بيعٌ ما أريد به البيع أريد به الربا, خالق الكون لا تنطلي عليه هذه الحيّل, هنالك علماء رفضوا مبدأ هذه الأساليب, لأنها حيّل شرعية لا تنطلي على الله سبحانه وتعالى, الشيء الذي يلفت النظر أن أي مؤتمر عام تشريعي, لو أنّه ضم عشرات العلماء الكبار في القانون, وشرعوا تشريعاً, تجد بعد حين يُضطرون إلى تشريع معدّل, تُعدّل المادة الفلانية بالمادة الفلانية, بعد شهرين أو أكثر يصدر تعديل آخر, هذا صنع البشر قال الله:

 

﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾

 

( سورة النساء الآية: 28)

 مهما اجتهد الإنسان في سد المنافذ, يأتي إنسان أذكى ويفتح بعض المنافذ, فلذلك المشرّع دائماً واقع في دوامة مع المشرّع له، لكن المشرع إذا كان هو الله سبحانه وتعالى, تشريعه لا يحتاج إلى تعديل, ولا إلى تبديل, ولا إلى إلغاء, ولا إلى تعطيل, ولا إلى شيء من هذا القبيل, تشريعه جامع مانع.
  أول دليل يقوم على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقوم على صدق رسالته أن تنظر في فحوى رسالته، في الأوامر, بماذا أمر؟ أمر بغض البصر, أمر بالصدق, أمر بالأمانة, أمر بحسن الجوار, أمر بصلة الرحم, أمر بالإحسان, عن أي شيء نهى؟ نهى عن الكذب, نهى عن الفسق, نهى عن الفجور, نهى عن الزور, نهى عن الخيانة, نهى عن عقوق الوالدين, نهى عن الظلم, هذا تشريع إلهي, لأن هذه الأوامر وهذه النواهي تتناسب مع عظمة الله جلّ جلاله, وتتناسب مع أمره, النجاشي حينما سأل سيدنا جعفر رضي الله عنه, فسيدنا جعفر قال: أيها الملك, كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي بالفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، ويأكل القوي منا الضعيف, حتى بعث الله فينا رسولاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه, فدعانا إلى الله لنعبده ونوّحده, لذلك فحوى الرسالة, قال له: وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار, الدين كله مكارم أخلاق.

الدليل من الكتاب على صدق الرسول:

  هل في النصوص القرآنية ما يؤكد هذا المنهج في الإيمان برسول الله؟ أول فقرات المنهج أن تنظر في مضمون هذه الرسالة, القرآن فيه جانب عقائدي, فيه جانب تشريعي، فيه تشريع شخصي: علاقة الزوج بزوجته، تشريع الطلاق، تشريع الزواج، فيه جانب اجتماعي: علاقة الأخ بأخيه، فيه جانب ينظم حياة الجماعة: البيع في الشراء, الرهن، الدين، الأمانة، فيه جانب تربوي، اقتصادي، صحي, دولي, هذا القرآن إذا تأملته وتدبرته ونفذت إلى لبّه, تعرف أن الذي جاء به رسول من عند الله سبحانه وتعالى، نادى الله الناس أن يؤمنوا بالرسول متحققين صدقه من خلال ملاحظتهم للحق الذي جاء به من عند ربهم, قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

(سورة النساء الآية: 170)

 آمن بما جاء به من الحق من ربك, ووجه الله بشدة الإنسان إلى تدبر القرآن, لأن تدبره يهدي إلى أنه حق في كل جزيئة من جزئياته, وهذا يدل على أنه من عند الله, لأنه لو كان من كلام الإنسان لاشتمل على اختلاف كثير، ومفارقات ظاهرة بينه وبين الحق، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم هو المبّلغ لهذا القرآن, كان ذلك دليلاً على أنه رسول الله يبلّغ عنه كلامه, فبعد أن قال الله عزّ وجل لرسوله في سورة النساء:

﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾

( سورة النساء الآية: 79)

 

 ما معنى قوله تعالى:

 

﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾

 

( سورة النساء الآية: 79)

 هذا القرآن الذي جئت به, لو تأمله الناس, لو تدبروه, لو عقلوه, لعرفوا أنك رسول, فالله شهد لهم من خلال كلامه أنه رسول, وقد جعل الله سبحانه وتعالى طاعة الرسول طاعة له فقال تعالى:

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً﴾

(سورة النساء الآية: 82)

  في انسجام, في تكامل, القرآن يقدم تفسيراً شاملاً للكون والحياة، لما كان عليه الإنسان قبل أن يأتي إلى الدنيا، لما سيؤول إليه وضع الإنسان، قيم الحق والباطل، قيم الخير والشر, كل هذه الأمور جاء بها الدين, فدل بهذا على أن القرآن شاهد من عند الله على صدق رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأمر اﻹلهي لرسوله بأن ينادي بالناس جمعياً بأنه رسول الله إليهم:

  أنّ الله سبحانه وتعالى بيّن صفة أُولي الألباب الذين أعلنوا إيمانهم بالرسول الذي ناداهم إلى الإيمان بالحق، وبادروا إلى ذلك منذ عرفوا أن جوهر رسالة محمد صلى اله عليه وسلم حقٌ لا مرية فيه, قال تعالى:

﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 193)

  أمر الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس جميعاً بأنه رسول الله إليهم جميعاً, وأن يبين لهم أن جوهر الرسالة هو الإيمان بالله الذي له ملك السموات والأرض, والذي لا إله إلا هو, والذي يحيي ويميت, وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ, لافتاً نظرهم إلى أن هذا الرسول فردٌ مثلهم يؤمن هو أيضاً بالرسالة التي يحملها إليهم فيؤمن بالله وكلماته, لذلك فعليهم أن يتبعوه ليهتدوا, قال تعالى في سورة الأعراف:

 

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

 

(سورة الأعراف الآية: 158)

 

دعوة أهل الكتاب إلى اﻹيمان بهذه الرسالة:

 أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله محمداً أن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة الحق، التي هي سواء بين جوهر رسالته وجوهر رسالات موسى وعيسى وسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى:

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾

( سورة آل عمران الآية: 64)

  كل هذه الفقرات لها محور واحد, وهو أنك إذا دققت وتأملت وتعمقت وتدبرت في مضمون الرسالة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام, تحكم بالدليل القاطع على أنه رسول الله

2- أنه يتميز بشخصية غير عادية شملت فيه الكمال اﻹنساني:

 الدليل الثاني على أن النبي عليه الصلاة والسلام هو رسول من عند الله: لدى دراسة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم نلاحظ أن له شخصية غير عادية, أحياناً تجلس في مجلس، شخص متفوق من حديثه, من ملاحظاته, من أسلوبه في الحديث, من لغته، من ثقافته تعرفه, فلو أنك التقيت النبي عليه الصلاة والسلام لرأيت شخصية فذة غير عادية, لذلك قالوا: محمد سحر أصحابه, يعني انتزع إعجابهم, لأنه شخصية فذة, والله سبحانه وتعالى لا يصطفي لرسالته إلا صفوته من خلقه, قال الله:

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

(سورة آل عمران الآية: 33)

  النبي عليه الصلاة والسلام سحر أصحابه بمعنى انتزع إعجابهم، تعلقوا به أيما تعلق، أحبوه حباُ فاق حدّ التصور، أطاعوه طاعة جاوزت حدود الخيال, لماذا؟ لأنه شخصية فذة, فهذه الشخصية الفذة, لا نجدها إلاّ في زمرة الأنبياء الذين اصطفاهم الله تعالى لوحيه ورسالاته, ذلك أن شخصية النبي عليه الصلاة والسلام مصونة بالعصمة الربانية من جميع جوانبها، ومتصفة بصفات الكمال الإنساني في خلقه وسلوكه, وعصمته عن الخطأ في بيان حدود الصراط المستقيم لعقائد الناس وعباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم, أما إذا درست شخصية أخرى من الشخصيات التي تميزت في الأرض، لوجدت على الرغم من عبقريته سقوطاً في بعض جوانب شخصيته، سقوطاً في أقواله أو أفعاله أو أخلاقه، لابد من جانب متميز وجانب مقصر, ليس هناك كمال مطلق, ليس هناك عصمة, ليس هناك إعداد رباني لهذا الإنسان, قد يعجبك علمه وتحتقر أخلاقه، قد يعجبك خلقه وتحتقر علمه, فالذين نبغوا في الحياة، نبغوا بجانب على حساب جانب, أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد استكمل الكمال البشري من كل جوانبه، فمن اتصف بهذه الصفات الراقية والكمال الإنساني، لابد أن يكون رسول الله سبحانه وتعالى.

شهادة التاريخ لرسول الله على أنه رسول الله من خلال أخلاقه وصفاته:

 نزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء، أول ما بدىء به من الوحي, وكان لنزول الوحي وقع ثقيل على نفسه, فرجع إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده, ويقول: زملوني زملوني. فزملوه حتى إذا ذهب عنه الورع. فقال لخديجة واخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم, وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. شخصيته الفذة بفضائلها وقيمها وطباعها تتناسب مع شخصية رسول الله سبحانه وتعالى, فخديجة رضي الله عنها استدلت من خلال كمال صفاته التي تعرفها فيه أن الله لا يخزيه أبداً.
 سيدنا الصديق رضي الله عنه لم يحتاج إلى أدلة تدله على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعاه إلى الإسلام, لأنه عرف عنه الكثير. النبي عليه الصلاة والسلام كان شخصية فذة قبل أن تأتيه الرسالة, كان كريماً، كان صادقاً، كان أميناً، كان عفيفاً، كان يحب الخير، كان قلبه رقيقاً، فهذه كلها صفات تليق برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولما بعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام, قالوا يا خالد: صف لنا محمداً، فقال: هو رسول الله والرسول على قَدرِ المرسل, ولما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا ونادى بطون مكة, يا بني عبد المطلب, يا بني عبد مناف، يا بني فلان, فلما اجتمعوا قال لهم:

" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلا صِدْقًا قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"

(أخرجه البخاري عن ابن عباس في الصحيح)

  ملك عُمان لما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام, ماذا قال؟ قال: والله ما دلني على هذا النبي الأميّ إلا أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يظفر، ويُغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي, هذا كله دليل على أخلاق النبي.
  عن ابن عباس, أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل عظيم الروم أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام فأتوه, فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمان، فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم به نسباً؟ فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره, ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه, فقال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء من أن يؤثّر عليّ كذب لكذبت عنه, ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: والله هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قلت: لا, قال: فهل كان من أبائه من ملك؟ قلت: لا, قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم, قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون, قال: فهل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت: لا, قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا, قال: فهل يغدر؟ قلت: لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها, لكي يوغر صدره, قال له: في غيابنا لا نعرف ماذا يعمل؟, قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم, قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه, قال: فبماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة, فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه: فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسبٍ من قومها، وسألتك: هل قال أحدٌ منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجلٌ يتأسّى بقول قبله، وسألتك: هل من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه, وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا, فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله عزّ وجل، وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه, وهم أتباع الرسل عادة، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون, وكذلك أمر الإيمان حتى يتم, وسألتك: أيرتد أحد منهم بعد أن دخل في الدين؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب, وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر, وسألتك: بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً, وينهانا عن عبادة الأوثان, ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف, فإن كان ما تقوله حقاً: فسيملك موضع قدمي هاتين, في الوقت نفسه جاءه كتاب رسول الله الذي بعث به دُحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:(بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام, أسلم تسلم, يؤتك الله أجرك مرتين, وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ).
 قال أبو سفيان: فلما فرغ من قراءة الكتاب كثُر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأُخرجنا, فقلت لأصحابي حين أخرجنا: إن محمداً يخافه ملك بني الأصفر، فمازلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام, هذه قصة تؤكد أن الإيمان برسول الله قد يكون من أخلاقه ومن صفاته الفضلى.

 

خلاصة الدرس:

 دليلان كبيران على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, الأول فحوى رسالته والثاني أخلاقه, ففحوى رسالته تتناسب مع الذي أرسله الله سبحانه وتعالى، وأخلاقه الكريمة تتناسب مع الذي أرسله، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قال في حقه:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

(سورة القلم الآية: 4)

 ما تبقى من الدرس إلى موعد آخر إن شاء الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور